التوبة النصوح

بسم الله الرحمن الرحيم

إخوة الإيمان والعقيدة .. إن ابن آدم مخلوق ضعيف، وقد حُفَّ به أعداء كثيرون من شياطين الجن والإنس؛ يحسِّنون له القبيحَ، ويقبِّحون في نظره الحسن، ومع هؤلاء الأعداءِ نفسُه الأمارة بالسوء؛ تدعوه إلى تناول الشهوات المحرمة؛ فهو معرَّض للخطر من كل جانب، لكن مع هذا كله قد جعل الله له حصناً إذا أوى إليه رجعت هذه الأعداء كلها خاسئة مدحورة. وذلكم الحصن هو توبته إلى ربه، والاستعانة به، واللهج بذكره ]وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[.

فمن بدرت منه خطيئة، أو ارتكب معصية فبادر بالتوبة والاستغفار وأتبعها بالحسنة التي تمحوها - كفرها الله عنه ووقاه خطرها ]وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً[ إن التوبة الصادقة تمحو الخطيئة مهما عظمت ]قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ[.

لقد عرض الله التوبة على الذين هم أشد جرماً، الذين يقتلون أنبياءه ويقولون ]إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[ ويقولون ]إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[ لقد دعا هؤلاء إلى التوبة فقال سبحانه ]أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[.

إن الله سبحانه فتح بابه للتائبين ليلاً ونهاراً "يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل. يتلطف سبحانه بعباده الذين كثرت سيئاتهم وعظمت خطاياهم، فينهاهم عن أن تحملهم كثرةُ ذنوبهم على القنوط من رحمة الله، وترك التوبة منها؛ فيقول سبحانه ]يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ[.

إن الذنب مهما عظم فعفو الله أعظم، وإن من يظن أن ذنباً لا يتسع له عفو الله ومغفرته فقد ظن بربه ظن السوء؛ لأن القنوط من رحمة الله من أعظم كبائر الذنوب؛ قال تعالى ]إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[.

فيجب على العبد أن يعترف بذنبه، ويطلب من ربه مغفرته، ويبادر بالتوبة منه ]وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[.

إنه يجب على العبد أن يبادر بالتوبة فإنه لا يدري متى يحضره الأجل. فيحال بينه وبين التوبة، وتفوته الفرصة فيندم حين لا ينفعه الندم، وينتقل إلى الدار الآخرة مثقلاً بالذنوب حاملاً للأوزار.

إن الله -سبحانه- حذر من ذلك فقال ]إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ[ قال ﷺ (إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغرغرْ) أي ما لم تحضره الوفاة.

ومن يدري متى يموت. إنه لا يعلم أحد منا متى نهاية أجله؛ لأن الموت يمكن حضوره في كل لحظة ] إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يُحسن ختامنا.

أقول ما تسمعون ....

 

الحمد لله رب العالمين ..

معاشر المؤمنين ... إن التوبة ليست مجرد لفظ يتردد على اللسان من غير التزام لمدلوها. إن مدلول التوبة هو الرجوع من المعصية إلى الطاعة، ولا يكون إلا بتوفر شروطها وهي:

أولاً: الإقلاع عن الذنب؛ أي تركه، والابتعاد عنه وعن أسبابه الموصلة إليه.

ثانياً: الندم على ارتكابه؛ بأن يحزنه ويسوءه ما وقع منه من المعصية، ويستحي من ربه.

ثالثاً: أن يعزم عزماً جازماً على أن لا يعود إلى هذا الذنب مرة أخرى طول حياته.

رابعاً: وإذا كان الذنب الذي تاب منه يتعلق بحق المخلوق فلا بد أن يتحلل منه، ويطلب منه المسامحة؛ فإن كان هذا الحق مالاً قد أخذه منه بغير حق؛ اغتصاباً، أو سرقة، أو خيانة في معاملة، أو وديعة، أو عارية - وجب رده إليه إن كان باقياً، أو ردُّ قيمته إن كان تالفاً، وإن كان الحق غير مالي؛ كأن استطال في عرضه بغيبة أو نميمة أو سب أو شتم - وجب عليه أن يستسمحه إن أمكن، أو يدعو له ويثني عليه إذا لم يمكن التحلل منه. أو خاف من إخباره بذلك ضرراً أكبر. وإن تعدى عليه في بدنه؛ بضرب أو قطع طرف أو جراحة - وجب عليه أن يمكِّنه من الاقتصاص منه بقدر مظلمته إن شاء صاحب الحق الاقتصاص، أو يعفو عنه إن شاء العفو.

قال النبي ﷺ (مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه)

وقال ﷺ (أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟) قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ (إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ).

فاتقوا الله -عباد الله-، وبادروا بالتوبة قبل فوات أوانها؛ فإن الأعمار محدودة، والمهلة مقدرة، ولكل أجل كتاب، وكل ما هو آت قريب.

وفقني الله وإياكم للتوبة النصوح والعمل الصالح.

وصلى الله على نبينا محمد ...

المرفقات

1722585160_التوبة النصوح.pdf

1722585185_التوبة النصوح.docx

المشاهدات 335 | التعليقات 0