التذكر بأحوال الدنيا أهوال الآخرة
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله منزلِ آياتِ القرآن، ومقيمِ الآيات في الأكوان، فالناس منقسمون، فمتدبرون متفكرون معتَبِرُون، وآخرون مُعرِضُون غافلون، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعالى عما يقول الظالمون، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وختم الله به النبوّة، وكرَّم أتباعه فَهُمُ الآخِرون السابقون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن على أثَرهم يَقْتَفُون، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واسألوا الله صلاح قلوبكم، واهتَمُّوا لصلاح بواطنكم، فإنَّ القلب يَمرضُ كما يَمرضُ البدنُ، وشِفاؤهُ في التوبة والحِمْية، ويَصْدَأ كما تَصْدأ الـمِرآةُ، وجلاؤهُ بالذكر، ويَعْرَى كما يَعْرَى الجسمُ، وزينتُهُ التَّقوى، ويجوعُ ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفةُ والمحبة والتوكل والإنابة.
عباد الله.. إن المؤمن قلبُه معلَّقٌ بالآخرة التي هو إليها صائر، ولها مهتم، وعلى فوات ربحها مغتم، ويتذكر بأحوال الدنيا: أهوال الآخرة، ومراتبها، ونعيمها وعذابها:
فيتذكر بما يسمع من البشارات: بشارةَ الملائكة للمؤمنين المستقيمين بالجنات، فيسأل ربه الثبات {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، تلا عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه على المنبر هذه الآية فقال: "استقاموا واللهِ بطاعته، ولم يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَعْلَب"، وكان الحسنُ البصريُّ رحمه الله إذا تلاها قال: "اللهمَّ فأنت ربُّنا فارزقنا الاستقامة".
كما يتذكر المرء بما يرى من نعيم الدنيا: عظيمَ ما وعد الله به أهلَ الجنة من نعيم، في الصحيحين أن البراء رضي الله عنه قال: أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَلْمِسُونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ»، كما يتذكر بجميل اجتماع الأقربين في الدنيا: الاجتماع في الجنة متنعِّمين على السُّرُر متقابلين، فهم على الحق وبالصبر متواصين {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} قال أبومِجْلَز: علم اللهُ أنّ المؤمنَ يُحِبُّ أن يَجمع اللهُ له أهلَه وشمله في الدنيا، فأحبَّ أن يجمعهم له في الآخرة.
كما يتذكر مَا يجد مِن شدة الحرِّ والبَرْدِ: نارَ جهنم وصنوفَ العذاب فيها {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}
وفي الصحيحين أن رَسُولَ اللهِ ﷺ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»، وفيهما أيضا أن النبيَّ ﷺ قَالَ: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا»، فالمؤمنُ إذا رأى من نعيم الدنيا من طَيِّبِ الثمَر ولَيِّنِ اللِّباس والظلِّ والمسكنِ والأثاث: سأل ربه نعيمَ الجنة وألا يُحرَمَ من فضله، وألا يكون استدراجا وأن يوفَّق لشكر ربه عِرفانًا { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }، وهكذا إذا رأى المؤمن نارًا استعاذ بالله من نار جهنم، وإذا وجد حرَّها أو حرَّ الشمس استعاذ بالله من حَرِّ جهنم، كما يتذكر بما يجد من حرِّ الشمس دُنُوَّها من الخلائق يوم القيامة، ففي صحيح مسلم أن رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا».
وَالصَّدَقَةُ: تَقِيْ مِنْ حَرِّ يَوْمِ القِيَامَةِ؛ قال ﷺ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ؛ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ». حَدَّثَ بهذا أَبَوالْخَيْرِ عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، فكان بعدُ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَة.
كما تقي الصدقُ حرَّ النار، ففي الصحيح أن النبيَّ ﷺ قال: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ».
وأنتم عبادَ الله تقاسون الحر، فاعلموا أن من أفضل صدقاتكم في هذه الأيام من عامكم: سَقْيُ المَاءِ؛ وقد سُئِلَ النبيُّ ﷺ: (أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟) فقال:(سَقْيُ المَاءِ). يقول بَعْضُ التَّابِعِيْنَ: (مَنْ كَثُرَتْ ذنُوبُه؛ فَعَلَيهِ بِسَقْيِ المَاءِ، فَإِذا غُفِرَتْ ذنُوبُ الَّذِي سَقَى كَلْبًا؛ فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ سَقَى مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا!).
باركَ الله ولكم في الأعمال الصالحات، وأورثنا بفضله وكرمه الجنات، مع المقربين والأبرار، وأجارنا من حرِّ النار، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه. أَمَّا بَعْدُ:
فَاتقوا الله عباد الله، واتقوا حرَّ النار وسخط الله، واعملوا في رضاه، ولا يَحجزنَّكم الحرُّ عن القيام بطاعة الله، {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، فالمُؤْمِنُوْنُ يَخْرُجُونَ إلى المَسْجِدِ، والشَّمْسُ تَلْفَحُ وُجُوْهَهُم؛ لِأَنَّهُم ﴿يَخَافُوْنَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيْهِ الأَبْصَارُ﴾، وَيَخَافُوْنَ أَنْ تَلْفَحَ وُجُوْهَهُمُ النَّار، وقد رأى النبيُّ ﷺ من أحوال الناس في البرزخ -وهو ما بين الموت إلى يوم القيامة- رَجُلًا مُضْطَجِعا، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ.
ثم صلوا عباد الله وسلموا صلاةً وسلامًا دائمين في جميع الأيام، وزيادةً منهما في هذا اليوم سيدِ الأيام، على سيدِ الأنام -عليه الصلاة والسلام-.
المرفقات
1690988600_التذكُّر بأحوال الدنيا أهوال الآخرة.docx
1690988600_التذكُّر بأحوال الدنيا أهوال الآخرة.pdf