البعث والنشور 14-4-1443هـ
محمد آل مداوي
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد:
فأُوصِيكُمْ ونَفْسِي بتَقْوَى الله، فهي خَيرُ زَادٍ في الدُّنيا والآخِرة، وبها النَّجَاةُ يومَ القِيامَة (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
أيها المسلمون: مَا مِنْ شَيءٍ في دَعْوَةِ رُسُلِ اللهِ اسْتَبْعَدَهُ الكُفَّار، وأَنْكَرَتْهُ المَلاحِدَة، واسْتَهْزَأَتْ بهِ الزَّنَادِقَة؛ أَشَدَّ مِنْ إنْكَارِهِمْ لليَومِ الآخِر، فتَراهُمْ أجيَالاً بعدَ أَجْيَالٍ يُنْكِرُونَ ويَسْتَهْزِئونَ ويَسْتَبْعِدُون.
ولقد سَجَّلَ القرآنُ الكَرِيمُ افْتِرَاءَهُمُ العَظِيم، وإفْكَهُم المُبِين: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) ، (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ* إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ، (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)
هذا هُوَ افْتِراؤهُمْ.. وهذا هو عَجَبُهُم!!.
ويَتَوَلَّى القرآنُ الردَّ والبُرهَان، فحينما يَتَطاوَلُونَ على اللهِ بعِنَادِهِمْ، يأتي الدَّلِيلُ نَاصِعًا بيِّنًا، والحُجَّةُ جَلِيَّةً ظَاهِرَة: (وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً* أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً* فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً)
(مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ* أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ* إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
وما وَقَعَ الإنْكَارُ للبَعْثِ والغَفْلَةُ عنه؛ إلَّا لاتِّبَاعِ الهَوَى وتَعْطِيلِ العَقْل: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) ، (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ، (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)
هَلْ يُسِيغُ العَقْلُ أَنْ يَنْفَضَّ سُوقُ الحيَاةِ وقَدْ نَهَبَ مَنْ نَهَب، وسَرَقَ مَنْ سَرَق، وقَتَلَ مَنْ قَتَل، وبَغَى مَنْ بَغَى، وتَجَبَّرَ مَنْ تَجَبَّر؛ ثم لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْ هَؤلاءِ عِقَابَه؟! وهَلْ يُسِيغُ العَقْلُ أَنَّ قَوْمًا آخَرِينَ أَحْسَنُوا وَأَصْلَحُوا وأَنْفَقُوا ثُمَّ لا يَنَالُونَ أَجْرَ مَا قَدَّمُوا؟!.
كَلَّا وَعِزَّةِ اللهِ وجَلَالِه.. لابُدَّ مِنْ مَوْقِفٍ يُجْزَى فيهِ المُحْسِنُ علَى إحْسَانِه، والمُسِيءُ علَى إسَاءَتِه، هذا هُوَ نَهْجُ العَقْلِ والإيمَان، والعِلْمِ والحِكْمَة؛ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، واعلموا أنَّ الذينَ لا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَة، والذينَ يُكَذِّبُونَ بِيَومِ الدِّين؛ يَعِيشُونَ في بُؤْسٍ وشَقَاء، لا أَمَلَ لهم ولا رَجَاء، لا يَرْجُونَ عَدْلاً في الجَزَاء، ولا عِوَضًا عمَّا يُلاقُونَ في الدُّنيا مِنْ عَنَاء.. لَقَدْ ضَلُّوا وأَضَلُّوا، ومَا ضَلُّوا إلَّا بِمَا نَسُوْا يومَ الحِسَاب، وما اجْتَرَءُوا علَى حُرُمَاتِ الله، وأَفْسَدُوا في أَرْضِ الله، ومَا ظَلَمُوا وتَظَالَمُوا؛ إلَّا لأنَّهُم كانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا.. (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ* أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
أمَّا المؤمِنُون؛ فمَا اسْتَحَقُّوا شَرَفَ الوَصْفِ بالإيمَانِ؛ إلَّا لمَّا آمَنُوا باللهِ ولِقَائه، يُؤمِنُونَ بِيَوْمٍ يَلْقَوْنَ فيهِ ربَّهُمْ، لا يَحْزُنُهُمْ فيهِ الفَزَعُ الأَكْبَر، وتَتَلَقَّاهُمُ الملائكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنْتُمْ تُوْعَدُنَ.. اسْتَقَامُوا علَى الحَقِّ والتَّوحِيد، ونَبَذُوا الشِّرْكَ وأَصْلَحُوا عَمَلَهُم، وأَخْلَصُوا لِرَبِّهم؛ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)
يَحْمِلُهُمْ إيمانُهم باليَومِ الآخِرِ والتَّصْدِيقِ بِلِقَاءِ ربِّهم؛ يَحْمِلُهُمْ على الصَّبْرِ والتَّحَمُّل، والكَفِّ عنِ الظُّلْمِ والأذَى، رُويَ عن عُمَر بنِ الخطَّاب t أنه قال: (مَنْ خافَ اللهَ لَمْ يِشْفِ غَيْظَه، ومَنِ اتَّقَى اللهَ لم يَصْنَعْ ما يُرِيد، ولَوْلا يومُ القِيَامَةِ لكانَ غيرَ ما تَرَوْن).. يَحْمِلُهُمْ إيمَانُهم بِلِقاءِ ربِّهِمْ على البَذْلِ والإحْسَان، لا يَبْتَغُونَ مِنْ أَحَدٍ غيرَ اللهِ جَزَاءً ولَا شُكُورًا؛ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً* وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً)
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المسلمون.. ورَبِّ السَّمَاءِ والأرضِ لَتُخْرَجُنَّ مِنْ قُبُورِكُمْ، ولَتُحْشَرُنَّ إلى ربِّكُم، ولَتُحَاسَبُنَّ علَى أَعْمَالِكُمْ، ولَتُجْزَوُنَّ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُون. لَتُجْزَوُنَّ علَى القَلِيلِ والكَثِير، والنَّقِيرِ والقِطْمِير، وذَلكَ علَى اللهِ يسير.
ثم اعلَموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشدين، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأَذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمِ حوزةَ الدين، وانصُر عبادَك المؤمنين، يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، اللهم أعنه وولي عهده على البر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه.. اللهم ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر جنودَنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم انصرهم نصرًا مؤزرًا، عاجلًا غير آجِل، برحمتك يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1637230670_خطبة 14-4-1443 عن البعث والنشور.docx