الاعتبار باختلاف الفصول -ومنها الشتاء- من كلام ابن رجب

محمد بن عبدالله التميمي
1445/05/15 - 2023/11/29 18:08PM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل اختلافَ فصولِ السَّنةِ دليلاً على عظمته، ومذكرًا بنارِه وجَنَّتِه، أحمده سبحانه على جزيل نعمته، وأسأله الإعانة على ذكره وشكره وحُسْنِ عبادته. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلُّ ما في الكونِ يُذَكِّرُ بِعَظَمَتِه، ويُشَوِّقُ إلى دار كرامته. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المجتبى لُخلَّتِه، والمُصطفى لنُبُوَّتِه ورسالتِه، والمجتهدُ في طاعتِه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آله وصحابته، وتابعيهم بإحسان على هديِ النبيِّ وسنته، أما بعد:

فأُوصيكُم ونفسي بالتقْوى، فإنَّها خيرُ زادِ الآخرةِ والأُولى، اجعلوها إلى كلِّ خيرٍ سبيلَكم، ومنْ كلِّ شرٍّ مهرَبَكُم، فقدْ توكَّلَ اللَّهُ لأهلِهَا بالنجاةِ مما يحذرُون، والرزق من حيثُ لا يَحتسبونَ.

عباد الله.. ما رأى العارفون بالله شيئًا من الدنيا إلا تذكروا به ما وَعَدَ اللهُ مِنْ جِنْسِهِ في الآخرة، وعَلِمُوا أنَّ ذلك دليلاً يُعَرِّفُهم بخالقِهم جلَّ جَلالُه وتقدَّسَت أسماؤه، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (كلُّ ما في الدنيا يدُلُّ على صانعِهِ، ويُذكِّرُ به، ويدُلُّ على صفاته؛ فما فيها مِن نعيمٍ وراحةٍ يَدُلُّ على كرمِ خالقِهِ وفضْلِهِ وإحسانِهِ وجودِهِ ولطفِهِ، وما فيها مِن نِقْمَةٍ وشدَّةٍ وعذابٍ يَدُلُّ على شِدَّةِ بَأسِهِ وبَطشِهِ وقَهرِهِ وانْتِقَامِهِ. واختلافُ أحوال الدُّنيا من حَرٍّ وبَرْدٍ وليلٍ ونهارٍ وغيرِ ذلك يَدُلُّ على انقضائِها وزوالِها.

وإنَّ نباتَ الأرضِ واخضرارَها في الرَّبيعِ بعدَ قُحُولِهَا ويُبْسِها في الشِّتاءِ وإيناعَ الأشجارِ وزهوَّها بعدَ كونِها خشبًا يابسًا يَدُلُّ على بعثِ الموتى مِن الأرضِ. وقد ذَكَرَ اللهُ تَعالى ذلكَ في كتابِهِ في مواضعَ كثيرةٍ: قالَ تَعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾.

وقِصَرُ مدَّةِ الزَّرْع والثمار وعَوْدُ الأرضِ بعد ذلك إلى يُبْسها، والشجرِ إلى حالها الأول، كعودِ ابنِ آدمَ بعد كونه حيًّا إلى التراب الذي خُلق منه.

وفصولُ السنة تذكِّر بالآخرة؛ فشِدَّةُ حرِّ الصيف يذكِّر بحرِّ جهنم، وهو من سمومها؛ وشدة برد الشتاء يذكِّر بزمهرير جهنَّم وهو من زمهريرها، والخريف يكمُلُ فيه اجْتناءُ الثمرات التي تبقى وتُدَّخَر في البيوت، فهو مُنَبِّهٌ على اجتناءِ ثمراتِ الأعمالِ في الآخرةِ.

وأمَّا الرَّبيعُ؛ فهوَ أطيبُ فُصولِ السَّنةِ، وهوَ يُذَكِّرُ بنعيمِ الجنَّةِ وطيبِ عيشِها، فيَنْبَغي أنْ يَحُثَّ المؤمنَ على الاستعدادِ لطلبِ الجنَّةِ بالأعمالِ الصَّالحةِ

وما رَأى العارفونَ شيئًا مِن الدُّنيا إلَّا تَذَكَّروا بهِ ما وَعَدَهُمُ اللهُ بهِ مِن جنسِهِ في الآخرةِ).

فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما تشاهدونه على ما غاب عنكم من نعيم أو عذاب، وفي ذلك آية على وجود الخالق وعظمته، وباعث على الاستمرار على عبادته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: }وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا{ بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيها من الآيات والدلائل والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين فاستغفروه إن ربي رحيمٌ ودود.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يُحْيِي القُلوبَ مِن الغَفَلة، وهو سبحانه المسؤولُ كما أحْيا الأرضَ الميتةَ بالقَطْرِ، أنْ يُحْيِيَ القلوبَ الميتةَ بالذِّكرِ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وَسَلَّمَ تسليما كثيرا. أما بعد:

فيا عباد الله، إنَّ كلَّ ما في الدُّنيا مذكِّرٌ بالآخرةِ، وإن الجَنَّةَ دارُ نعيمٍ لا يَشوبُهُ ألمٌ، وإنَّ النارَ دارُ عذابٍ لا يَشوبُهُ راحةٌ، وهذهِ الدَّارُ الفانيةُ ممزوجةٌ بالنَّعيمِ والألمِ؛ فما فيها مِن النَّعيمِ يُذَكِّرُ بنعيمِ الجنَّةِ، وما فيها مِن الألمِ يُذَكِّرُ بألمِ النَّارِ. فشدَّةُ الحرِّ والبردِ تُذَكِّرُ بما في جهنَّمَ مِن الحرِّ والزَّمهريرِ. في الصَّحيحِين أن النَّبيَّ ﷺ قالَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ».

ومِن أعظمِ ما يُذَكِّرُ بنارِ جهنَّمَ النَّارُ التي في الدُّنيا -التي بها تستفئدون وعليها تطبخون- قالَ اللهُ تَعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً﴾؛ يَعْني: أن نارَ الدُّنيا جَعَلَها اللهُ تذكرةً تُذَكِّرُ بنارِ الآخرةِ، وفي الحديث الصحيح أن نارَ الدُّنيا جزءٌ مِن سبعينَ جزءًا مِن نارِ جهنَّمَ.

وممَّا يَدُلُّ على النَّارِ ويُذَكِّرُ بها: الحمَّى التي تُصيبُ بني آدَمَ، وهيَ نارٌ باطنةٌ. وقد رُوِيَ في حديثٍ خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ وابنُ ماجَهْ أنَّها "حظُّ المؤمنِ مِن النَّارِ"، والمرادُ أنَّ الحمَّى تُكَفِّرُ ذنوبَ المؤمنِ وتُنَقِّيهِ منها كما يُنَقِّي الكيرُ خبثَ الحديدِ.

عباد الله.. إنَّ مِنْ تَذكُّرِ الآخرةَ في الشتاء أن يُقدِّمَ المسلمُ في هذه الدار ما يقيه من العار والنار، والجوع والظَّمَأ، وفي الصحيح أنه ﷺ قالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»، و«إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا»، وفي المسند والسنن أنه ﷺ قالَ: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَإٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ»، فتَلمَّسُوا أصحاب الحاجات والفاقات، في لباسهم ولحافهم وطعامهم ووسائلِ التدفئة لهم.

ثم اعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله فأقبلوا عليه تلاوة وعلما وعملا، وخير الهَدْيِ هَدْيُ محمد ﷺ فتمسَّكوا به تَنجُوا، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بجماعة المسلمين، وإياكم والفُرقة فإنها من تخَطُّف الشياطين، ثم صلوا وسلموا على سيد المرسلين، في سائر أيامكم وزيادةً منهما في هذا اليوم سيد الأيام على سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.

 

·    ملخصة من كلام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله

المرفقات

1701270499_الاعتبار باختلاف الفصول -ومنها الشتاء.docx

1701270499_الاعتبار باختلاف الفصول -ومنها الشتاء.pdf

المشاهدات 819 | التعليقات 0