الأخذ بالأسباب ومنه لقاح الأنفلونزا
خالد الشايع
الخطبة الأولى (العمل بالأسباب وعدم الاعتماد عليها ، وأهمية أخذ اللقاحات المعلن عنها من الوزارة ) 15/4/1446
أما بعد فيا أيها الناس : من حكمة الله تعالى أن جعل لكل شيء سببا ، وأمر بالأخذ بالأسباب ، وعدم الاعتماد عليها بل يعتقد العبد أنها سبب جعله الله لحصول الشيء ، وأن الله هو المسبب لذلك ، فيعتمد على الله المسبب .
وليس لأحد أن يتوكل على الله ويترك فعل السبب ، معتقدا عدم فائدته ، فهذا خلل في العقل ، فالزواج سبب للذرية ، والأكل والشرب سبب للحياة ، والعلاج سبب للشفاء ، وهكذا بنيت الحياة بسبب ومُسَبَّب ومُسَبِب ، وأخذ بالسبب ، وتوكل على المسبب .
قال أهل العلم: الأخذ بالأسباب عبادة والاعتماد عليها شرك، ومن أخذ بالأسباب ولو كانت ضعيفة ثم اعتمد على الله تعالى فقد امتثل .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: الالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع. اهـ.
ويقول شارح العقيدة الطحاوية: قد يظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب، وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب، وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب. اهـ.
وقال ابن القيم: فلا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، وإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد من هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً.
وقال ابن حجر في الفتح: المراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ـ وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل، وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته، أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي، وقال: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ـ فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق، قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: ذهب عامة الفقهاء إلى أن التوكل على الله لا يتنافى مع السعي والأخذ بالأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من الأعداء وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة مع الاعتقاد أن الأسباب وحدها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب ـ العلاج ـ والُمسَبَّب ـ الشفاء ـ فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته، وقال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك العمل فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اهـ.
وأهل العلم على أن التوكل الصحيح، إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونه تكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا في العقل، قال عمر ـ رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
وقد تواتر الأمر بالأخذ بالأسباب في القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أخرج ابن حبان في صحيحه: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته وقال: أأعقلها وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعقلها، وتوكل.
وقال تعالى: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا{ الأنفال . والغنيمة اكتساب.
وقال ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه {الملك:15.فأمر بالمشي والتكسب للأكل .
وقال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم {النساء:71. وأخذ الحذر فعل للسبب .
وقال : }وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل {الأنفال:60. والاعداد للعدو أخذ بالأسباب .
اللهم ارزقنا الفقه في الدين ، والعمل بالتنزيل ، أقول قولي هذا ....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : لا يزال الحديث موصولا عن الأخذ بالأسباب ، والتوكل على الله ، وهذا في كل مجالات الحياة ، لابد أن تعتقد أن الأمور كلها بيد الله ، وأن الله جعل لنيلها أسبابا لابد من تعاطيها .
وأما ترك الأسباب فهو خطأ ينبغي الاستغفار منه، فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: قد ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة الحث على الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، فمن أخذ بالأسباب واعتمدها فقط وألغى التوكل على الله فهو مشرك، ومن توكل على الله وألغى الأسباب فهو جاهل مفرط مخطئ، والمطلوب شرعا هو الجمع بينهما. اهـ.
ولنعلم أن الدعاء من أعظم الأسباب التي تعين على تحقيق المطلوب، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه واكتسابه، ألهمه السعي والاكتساب، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب وما قدره له بغير اكتساب كموت مورثه يأتيه به بغير اكتساب، والسعي سعيان: سعي فيما نصب للرزق كالصناعة والزراعة والتجارة، وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. اهـ.
ويشرع فعل الدعاء قبل السبب وأثناءه وبعده وآكده قبله، لما في ذلك من الاستعانة بالله في البداية فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم ببدر قبل وقت المعركة وأمر من هم بأمر بالاستخارة وسؤال الله التيسير قبل الإقدام على الفعل الذي يريده.
عباد الله : لوزارة الصحة جهود تشكر في مكافحة انتشار الأمراض واخذ الاحتياطات اللازمة قبل الإصابة بها ، فمن ذلك اللقاحات التي تكون سببا بإذن الله في عدم الإصابة بالمرض ، كلقاح الانفلونزا الموسمية والتي بدأت تنتشر هذه الأيام مع تغير الوقت ، فاحرصوا على أخذها خصوصا كبار السن ومن مناعته ضعيفة ، وانبه إلى أمر ، وهو أن بعض الناس يكون غير مقتنع بهذه اللقاحات وفاعليتها وهو غير متخصص في الطب ، فليس له أن يتفلسف ويتكلم فيما لا يحسن ، ويحذر الناس من تلك اللقاحات ، وليقتصر في قناعاته على نفسه .
اللهم عنا الأمراض والأسقام ، وارزقنا العفو والعافية ...
المرفقات
1729173369_خطبة عن لقاح الإنفلوانزا.docx