استحضار مناجاة الله في الصلاة (2)
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الملك الحق المبين، ذي القدرة والجلال، والبهاء والعزة، والعظمة والسلطان الحكيم، الواحدِ الأحدِ الصمدِ العليم، ذي الأسماء الحسنى، والصفاتِ العلا، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، خالقِ الخلقِ بقدرته، ومصرِّفِه على إرادته، ومُفْنِيهِ عند انقضاءِ مدَّته. أحمده على ما أَبْلى وأَنْعم وأولى، وأسأله العون على طاعته، والتوفيقَ لما يُحبُّ ويرضى. وصلى الله على سيدِ المرسلين وأفضلِ النبيين محمدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين وسلَّم تسليمًا، أما بعد:
فللَّه درُّ أَقوامٍ عَلِمُوا قَرُب الرَّحِيل فهَيَّئوا آلةَ السَّفَر، واقنعوا من الدنيا بما حَضَر، واستَوْثِقُوا بقُفْل التَّقْوَى من أَذَى النُّطْق وَالنَّظَر {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
عباد الله.. أيُّ نعيمٍ وقُرةِ عينٍ، ولذةِ قلب وابتهاجٍ وسرورٍ، لا يَحصُلُ في مناجاةِ اللهِ في الصلاة، فإنَّ المصلي إذا كان قائما فإنما يناجي ربه، فليَنظر بما يناجيه، في الصحيحين من حديث أنس بن مالك ¢ أنه ‘ قال: "إن المؤمنَ إذا كان في الصلاةِ، فإنما يُناجي ربَّه"، ومما يُعِيْنُ على استحضار مناجاة الله في الصلاة أن يُحضرَ قلبَه قبل الشروع في الصلاة، فكما طَهَّرَ بالوضوء ظاهرَه وهو موضع نظر الخلق، فعليه أن يُطِّهرَ قلبه الذي هو موضع نظر الرب، ثم يستشعرُ عِظَمَ الكلمةِ التي هي الباب الذي يَدخُلُ منه المصلي وهو تكبيرة الإحرام (الله أكبر)، ثم استحضارُه لمناجاة ربه عند قراءته سورةَ الفاتحة، كما في صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ¢ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ".
إن لهذا المقامِ لَعَظَمَةٌ في قَلبِ من حَيا قلبُه واستشعر كلامَ ربِّه، وجواب مولاه، فالْحَظْ عظيمَ المقام وشرَفَ المنزلة ليَنْتَفِعَ قلبُك، ويُجابَ سُؤْلُك.
عباد الله.. وهكذا يعود المصلِّي إلى تكبير ربِّه عز وجل جاثيًا له ظهرَه، خضوعًا لِعَظَمَتِه وتَذَلُّلًا لعزته، واستكانةً لجبروته، مسبحًا له بِذِكْرِ اسمِه العظيم، فنزَّه عظمتَه عن حالِ العبدِ وذُلِّه وخضوعِه، وقابَل تلك العظمةَ بهذا الذلِّ والانحناءِ والخضوع، قد طأطأ رأسَه، وطوى ظهرَه، وربُّه فوقه يرى خضوعَه وذلَّه ويسمعُ كلامَه فهو ركنُ تعظيمٍ وإجلال.
ثم عاد إلى حالِه من القيام حامدًا لربِّه مثنيًا عليه بأكملِ محامدِه وأجمعِها وأعمِّها، مثنيًا عليه بأنه أهلُ الثناءِ والمجدِ، ومعترفًا بعبوديته، شاهدا بتوحيده، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأنه لا ينفع أصحابَ الجَدِّ والأموالِ والحظوظِ جدودَهم ولو عَظُمَت، ثم يعودُ إلى تكبيره ويخرُّ له ساجدا على أشرف ما فيه وهو الوجه، فيُعَفِّرَه في التراب ذُلًّا بين يديه، ومسكنةً وانكسارًا، وقد أَخَذَ كلُّ عُضْوٍ من البَدَنِ حَظَّه من هذا الخضوع حتى أطرافِ الأنامل، ورؤوسِ الأصابع.
وشُرِعَ للمصلي أنْ يَسْجُدَ مَعَهُ ثيابُه فلا يَكفَّه، وأن يُباشرَ الترابُ بجبهته، ويكونَ رأسُه أسفلَ ما فيه تكميلًا للخضوعِ والتذلُّلِ لمنْ له العزُّ كلُّه، والعظمةُ كلُّها، وهذا أيسر اليسير من حقه سبحانه على عبده، فلو دام كذلك من حين خُلِق إلى أنْ يموتَ لَـمَا أَدَّى حقَّ ربِّه عليه.
ثم أمر أن يُسبِّحَ ربَّه الأعلى، فيَذكُرَ عُلوَّه سبحانه في حالِ سفوله، وينزه الربَّ تبارك وتعالى عن مثل هذه الحال وأنَّ مَن هو فوقَ كلِّ شيء، وعالٍ على كل شيء يُنزَّهُ عن السُّفُولِ بكلِّ معنى، بل هو الأعلى بكل معنًى من معاني العلو.
عباد الله.. لـمَّا كان هذا الحال غايةُ ذُلِّ العبدِ وخضوعِه وانكسارِه: كان أقربَ ما يكونُ الربُّ منه في هذه الحال، فأُمِرَ أنْ يَجتهدَ في الدعاءِ لِقُرْبِه من القريبِ المجيبِ وقد قال اللهُ تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}.
فما أنعمَ المصلي وهو بين يدي ربه ينتقلُ من خضوعٍ إلى خضوعٍ أكملَ منه وأتم، وأرفعَ شأنًا، فالركوعُ كالمقدمةِ بين يدي السجودِ، وبينهما قيامٌ يجتهد فيه المصلي بالحمدِ والثناءِ والتمجيد، وبين السجدتين جِلسةُ العبيد ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته، فتأملْ هذا الترتيبَ العجيبَ بالتنقل في مراتب العبودية.
عباد الله.. ومِن رَحمةِ اللهِ أنْ شَرَعَ للعَبدِ تَكرارَ هذه الركعة مرةً بعدَ مرة، كما شَرَعَ تَكرارَ الأذكارِ والدعواتِ مرةً بعدَ مرة؛ فيَسْتَعِدَّ بالأول لتكميلِ ما بعده، ويَجبُرَ بما بعده ما قبله، لِيُشبِعَ القلبَ من هذا الغذاء، ولِيَأخذَ داؤُهُ نصيبَهُ وافرًا من الدواء.
بارك الله لي ولكم فيما أنزل من الآيات، ونفعنا بما أقام من البينات، وجعلنا محافظين على الصلوات، منتفعين بها هداية ونورا نهتدي به في الظلمات ويكشف الغموم والشُّبهات، وانتهاءًا عن المنكرات، وأسأله سبحانه مغفرةً للذنوب والسيئات، لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات.
الخطبة الثانية
الحمد لله البَّرِّ الرحيم، أحمده سبحانه على فضله العميم، وأصلي وأسلمُ على نبيه الكريم، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستحضروا مناجاة الله، ولْيَستشعرِ العبدُ عظمةَ سيدِه ومولاه، وقد شرع اللهُ سبحانه للعبد إذا هو أكمل صلاتَه أنْ يَقْعُدَ قِعْدَةَ العبدِ الذليلِ المسكينِ بين يدي سيده، ويُثنيَ عليه بأفضلِ التحيات، ويُسلِّمَ على من جاء بهذا الحظِّ الجزيل، ثم يُسلِّمُ على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية، ثم يتشهدُ شهادةَ الحق، ثم يعودُ فيصلي على مَنْ علَّم الأمة هذا الخير ودلَّـهم عليه، ثم يَسألُ المصلي ربَّهُ حوائجَه، ويدعو بما أحبَّ ما دام بين يدي ربِّه، مقبِلًا عليه، فلا تجدُ منزلةً من منازلِ السير إلى الله ولا مقامًا من مقاماتِ العارفين إلا وهو في ضمن الصلاة، وما ذُكِرَ في هذا المقامِ قطرةٌ من بَحر، وليس ما يُدركه أهل المناجاة في الصلوات تكفي في وصفه كلمات، فَلِجوا هذا الباب ورِدُوا هذا المورِدَ العذْبَ تطيبُ حياتكم، وتَنعموا في صلاتكم، ويحفظُكم ربكم في سائر أحوالكم {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.
المرفقات
1694068805_خطبة استحضار مناجاة الله في الصلاة 2.docx
1694068805_خطبة استحضار مناجاة الله في الصلاة 2.pdf