اتباع منهج السلف - خطب مختارة
الفريق العلمي
لقد شرَّف الله -عز وجل- الجيل الأول من هذه الأمة -رضي الله عنهم- بصحبة رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ثم شرفهم -عز وجل- مرة أخرى حين علَّق هداية الخلق على الإيمان "بمثل" إيمانهم قائلًا -عز من قائل-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)[البقرة: 137]، يقول القرطبي: "المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا"، ويقول السمرقندي: "(بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ)، يعني به يا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-"، ويقول الطاهر ابن عاشور: "أي: إيمانًا مماثلًا لإيمانكم"، فمن آمن كإيمان الصحابة غنم وفاز ونجا واهتدى، ولا يُقْبَل من الناس أي إيمان إلا إذا كان إيمانًا مماثلًا لإيمان الصحابة -رضي الله عنهم-، يقول السعدي: "فلا سبيل لهم إلى الهداية، إلا بهذا الإيمان".
وهذا الشرط ليس مقصورًا على مجال العقيدة فقط، بل هو شرط عام في أمور الدين كلها؛ أن يكون على منهج الصحابة وبفهم الصحابة -رضي الله عنهم-، فيشمل العبادات والمعاملات والشرائع كلها.
ويضاف إلى جيل الصحابة جيلين آخرين، الأول جيل التابعين الذين لم يروا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يصحبوه، لكنهم صحبوا صحابته الأطهار، والثاني هم تابعو التابعين وهؤلاء الذين لم يدركوا الصحابة لكنهم صاحبوا التابعين، وذلك لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"(متفق عليه)، ويطلق على هذه الأجيال الثلاثة الفاضلة أنهم: "سلف هذه الأمة".
وقد قيل: "الشرف كل الشرف في اتباع من سلف"، وكيف لا؛ ومعلمهم هو النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، نالهم علمه وهداه ودعاؤه وبركته، وهذه واقعة توضح ذلك ينقلها أبو هريرة فيقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا: "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لم ينس شيئًا سمعه"، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدثني به(رواه مسلم).
***
ولأن المناهج قد كثرت، والفرق والنحل قد ظهرت، والناس قد تنازعت واختلفت، والآراء قد تناثرت وتنافرت... فدعونا نسأل السؤال الملح الآن وهو: لماذا منهج السلف بالذات هو واجب الاتباع، ولما فهم السلف دون أي فهم سواه؟
ونجيب: الأسباب كثيرة، فأما السبب الأول: أن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرا باتباع السلف: فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يعش منكم يرى اختلافَا كثيرَا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ"(رواه الترمذي)، والسلف هم من نالوا رضا الله -عز وجل- وتزكيته: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[التوبة: 100]؛ فمن عاش على مثل ما عاشوا عليه نال ما نالوا.. والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة معلومة.
السبب الثاني: أن الصحابة عاينوا نزول الوحي، ورأوا في أي وقت نزل ولما نزل، والتابعون عاينوا من عاين الوحي وتنزله، فقد علموا فيما نزلت كل آية قرآنية، وما مناسبة كل حديث نبوي.. وندرك أهمية ذلك من مثل قول أم عطية : "نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا"(متفق عليه)، يقول الصنعاني: "وقولها: "ولم يعزم علينا" ظاهر في أن النهي للكراهة لا للتحريم، كأنها فهمته من قرينة"، فمن لم يشهد ساعة النهي عن اتباع الجنائز كيف يدرك تلك القرينة التي أدركتها أم عطية؟! وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"(رواه أحمد).
وقد أدرك عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- ذلك؛ فقد أتى ابن عباس قائلًا: "يا بن عباس طالما أضللت الناس!"، قال: "وما ذاك يا عرية؟!"، قال: "الرجل يخرج محرمًا بحج أو عمرة فإذا طاف زعمت أنه قد حل!! فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك!!"، فقال: "أهما ويحك آثر عندك أم ما في كتاب الله وما سن رسول الله في أصحابه وفي أمته؟!"، فقال عروة: "هما كانا أعلم بكتاب الله وما سن رسول الله مني ومنك"، قال ابن أبي مليكة: "فخصمه عروة"(رواه الطبراني في الأوسط).
السبب الثالث: أن السلف أعلم الأمة بلا منازع: وقد أدركوا ذلك وشهدوا به لأنفسهم: فعن شقيق بن سلمة قال: خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: "والله لقد أخذت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعًا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم"، قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادًا يقول غير ذلك(متفق عليه)، ويلخص الإمام الشافعي الأمر فيقول: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف".
السبب الرابع: أن الأخذ بمنهج السلف ضرورة محتمة: وإلا ضاع الإسلام وحُرِّف؛ فيحتج كل ذي مذهب فاسد ويقول: "هذا فهمي للآية وهذا فهمي للحديث"، وقد قابل سعيد بن جبير أحد هؤلاء فردعه؛ فعن يعلى بن حكيم: أن سعيد بن جبير حدث يومًا بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، فقال سعيد: "ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعرض فيه بكتاب الله؟!! كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بكتاب الله منك"(رواه الدارمي)، وأوضح من هذا تلك الشبهات التي ألقاها الخوارج وفندها لهم ابن عباس، وكلها كانت ناتجة عن سوء فهمهم.
السبب الخامس: أن فهم السلف مصدر من مصادر التشريع: ورحم الله الإمام مالك بن أنس الذي كان يقدِّم "عمل أهل المدينة" على حديث الآحاد، وهذا الإمام ابن القيم يقول:
العــلــم قــال الله قــال رســولــه *** قــال الصــحــابــة ليس بالتمويه
***
والحق أن الأسباب كثيرة والأدلة عديدة، لكن هذا المقام لا يسعها، لذا فقد تركنا المجال لخطبائنا يزيدون الأمر تأصيلًا وتوضيحًا.
أصول منهج السلف الصالح - صالح بن عبد الله بن حميد.
معالم منهج السلف الصالح - الشيخ د عبدالرحمن السديس.
أحوال السلف في أقوالهم وأفعالهم خالد بن علي المشيقح
السلفية منهج رباني - خالد بن سعود الحليبي,
ما الذي تدعو إليه الدعوة السلفية منهج السلف الكرام؟ - فؤاد بن يوسف أبو سعيد.
منهج السلف في الأمر والإنكار - راشد البداح.