عناصر الخطبة
1/ مواجهة أعداء الإسلام يواجهون كل دعوة تدعو للحق 2/ انتشار التفرق الفكري والعقائدي 3/ المراد بمذهب السلف 4/ متى برز الانتساب إلى السلف 5/ شمول منهج السلف 6/ عدم حصر منهج السلف في قضية أو جماعة 7/ أصول المنهج السلفي ومعالمهاقتباس
يبرُزُ منهجُ الاتباع حين يأخذُ التفرُّقُ الفكريُّ والعقائديُّ في الانتِشار، وتنمُو مذاهبُ ومناهِج، وتياراتٌ وفلسَفاتٌ يتميَّزُ فيها منهجُ السلف الصالح، وتظهرُ معالِمُه؛ فهو... يقول السفَّارينيُّ -رحمه الله-: "المرادُ بمذهبِ السَّلَف: ما كان عليه الصحابةُ الكرامُ، وأعيانُ التابعين بإحسانٍ، وأتباعُهم من أئمةِ الإسلام العُدُول، ممن شُهِد لهم بالإمامة، وعُرِف عظيمُ شأنِهم في الدين، وتلقَّى الناسُ كلامَهم خلفًا عن سلَف، دون رميٍ ببدعةٍ، أو شهرٍ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله كتب على نفسه الرحمة، وأفاضَ على الخلائق سوابِغَ النِّعمة، دعا إلى الإسلام فخصَّ من شاءَ بالهداية والتوفيق منَّةً منه وفضلاً، وأقامَ الحُجَّةَ على من خالَفَ حكمةً منه وعدلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبده وابنِ عبده وابنِ أمَته ومن لا غِنى له طرفةَ عينٍ عن فضلِه ورحمتِه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، رحمةُ الله للعالمين، وقدوةُ العامِلين، ومحجَّةُ السالِكين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله السادة الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلَموا أن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُرَ وألهَى، وإن ما تُوعَدون لآتٍ وما أنتم بمُعجِزين، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 235].
أيها المسلمون: إن من العقلِ والحكمة: إدراكَ أن أعداءَ الإسلام والمُتربِّصين به يقِفُون موقفًا صارِمًا من كل دعوةٍ تدعُو إلى الحق، وإلى الرجوع إلى أصول الإسلام وثوابتِه ومبادئِه وحقائقِه التي تبعثُ روحَ العِزَّة في الأمة، وتقودُ إلى المجدِ والمَنَعة، حتى قال قائلٌ منهم: "إننا لا نُحارِبُ الإرهاب، ولكنَّنا نُحارِبُ من أجل أن نُقرِّرُ الإسلام الذي نُريد".
وفي عالَمنا تجتاحُه موجاتٌ من التغيير، وطُوفاناتٌ من التحديات؛ يبرُزُ منهجُ الاتباع عند وجود الأضداد المُتخالِفة والمُتنافِرة؛ من التكفير والتنفير، وتعظيم الأشخاص، وتصنيف الأحزاب والانتماءات.
يبرُزُ منهجُ الاتباع حين يأخذُ التفرُّقُ الفكريُّ والعقائديُّ في الانتِشار، وتنمُو مذاهبُ ومناهِج، وتياراتٌ وفلسَفاتٌ يتميَّزُ فيها منهجُ السلف الصالح، وتظهرُ معالِمُه؛ فهو يأوِي -بقوة الله وحولِه- إلى جبلٍ من الأصول والأدوات والاستِعدادات، يعصِمُه به من الزلاَّت والانحِرافات، بإدراكٍ لفقهِ الواقع وأدوات التمكين، مع اللِّين والحزمِ والرحمةِ، والدفعِ بالتي هي أحسن.
السَّلفُ الصالحُ هم الصدرُ الأول، الراسِخون في العلمِ، المُهتَدون بهديِ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، الحافِظون لسُنَّته، مُقدَّمُهم صحابةُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم أجمعين-، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّهم، وانتخبَهم لإقامة دينِه، ورضِيَهم أئمةً للأمة.
يقول -عزَّ شأنُه-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
يقول السفَّارينيُّ -رحمه الله-: "المرادُ بمذهبِ السَّلَف: ما كان عليه الصحابةُ الكرامُ، وأعيانُ التابعين بإحسانٍ، وأتباعُهم من أئمةِ الإسلام العُدُول، ممن شُهِد لهم بالإمامة، وعُرِف عظيمُ شأنِهم في الدين، وتلقَّى الناسُ كلامَهم خلفًا عن سلَف، دون رميٍ ببدعةٍ، أو شهرٍ بلَقَبٍ غير مرضِيٍّ".
ويقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إنكم قد أصبَحتم اليوم على الفِطرة، وإنكم ستُحدِثون ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتُم مُحدثةً فعليكم بالعهد الأول".
ويقول أيضًا -رضي الله عنه-: "من كان مُستنًّا فليستنَّ بمن قد ماتَ؛ فإن الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كانُوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَهم علمًا، وأقلَّهم تكلُّفًا".
ويتساءَلُ إمامُ الحرمين عبد الملك الجُوينيُّ -رحمه الله- يتساءلُ: "ما الحقُّ الذي يحملُ الإمامُ الخلقَ عليه في الاعتِقاد إذا تمكَّنَ منه؟!"، ثم يُجيبُ -رحمه الله- بقوله: "إن الذي يحرِصُ الإمامُ عليه جمعَ عامَّةِ الخلقِ على مذاهبِ السَّلَف السابِقين قبل أن نبَغَت الأهواء، وزاغَت الآراء، وكانُوا ينهَون عن التعرُّض للغوامِض، والتعمُّق في المُشكِلات، والإمعانِ في مُلابَسَة المُعضِلات، والاعتِناء بجمعِ الشُّبُهات". انتهى كلامُه -رحمه الله-.
ويقول الإمامُ الذهبي: "فالذي يحتاجُ إليه الحافظُ: أن يكون تقيًّا ذكيًّا نحويًّا لُغويًّا حيِيًّا سلفيًّا".
السَّلَفُ ليس لهم لقبٌ يُعرَفُون به، ولا نسَبٌ ينتسِبُون إليه، كما قال بعضُ الأئمة -وقد سُئِل عن السُّنَّة- فقال: "السُّنَّةُ ما لا اسمَ له سِوى السُّنَّة، أما غيرُهم فينتسِبُون إلى المقالةِ أو إلى القائِل".
يُوضِّحُ ذلك الإمامُ مالكٌ -رحمه الله-، وقد جاءَه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله: أسألُك عن مسألةٍ أجعلُك حُجَّةً فيما بيني وبين الله -عز وجل-. قال مالكٌ: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ سَلْ". قال: من أهلُ السُّنَّة؟! قال: "أهلُ السُّنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدَريٌّ".
قال أهلُ العلم: "إنما برَزَ الانتِسابُ إلى السَّلَف الصالحِ حينما ظهرَت الفِرقُ في الأمة التي قال فيها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "وستفترِقُ هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فِرقة"، ثم بيَّن -عليه الصلاة والسلام- النهجَ الحقَّ في قوله: "ما أنا عليه وأصحابي".
الصحابةُ وتابِعُوهم بإحسانٍ هم خيرُ هذه الأمة، وأزكاها دينًا، وأعلاها مقامًا، وأعلمُها بما كان عليه رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
معاشر المسلمين: منهجُ السَّلَف الصالح ليس حِقبةً تاريخيَّةً محدودة، ولا جماعةً مذهبيَّةً محصورة؛ بل هو منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ، ولا ينحصِرُ بمكانٍ. وعليه؛ فإن هذا المنهجَ ليس حِزبًا، ولا تيَّارًا، ولا حركةً، وليس تكتُّلاً سياسيًّا، هو منهجٌ لا جماعة.
يُوضِّحُ ذلك: أن المُنضوِين تحت هذا المنهَج قطاعٌ عريضٌ من المُسلمين شُعوبًا وديارًا؛ بل هم الأصلُ في عُموم المُسلمين؛ فالمُسلمُ يتَّبِعُ الدليلَ ويسيرُ خلفَه، ويُعظِّمُ السَّلفَ الصالحَ، ويُحبُّهم ويقتدِي بهم، وكلُّ إمامٍ من أئمةِ المُسلمين يقول: "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي".
يقولُ شيخُنا الشيخُ الإمامُ عبدُ العزيز بن باز -رحمه الله-: "السَّلَفُ الصالحُ هم الصحابةُ -رضي الله عنهم-، ومن سلكَ سبيلَهم من التابِعين وأتباعِ التابِعين من الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابِلَة، وغيرهم ممن سارَ على الحقِّ، وتمسَّك بالكتابِ العزيزِ والسُّنَّة المُطهَّرة في بابِ التوحيد وبابِ الأسماء والصفات، وفي جميع أمورِ الدين".
ومن القُصور في النظر والفهمِ: حصرُ منهج السَّلَف الصالح في قضايا مُعيَّنة، أو علمٍ مُعيَّن، أو بلدٍ مُعيَّن، أو فئةٍ مُعيَّنة.
السَّلَفُ الصالحُ ليس يدَّعِي تمثيلَهم أحدٌ، ولا ينطِقُ باسمِهم عالِمٌ، فليس ثمَّة جماعة محصورة تُمثِّلُ هذا المنهجَ، وإنما يوجدُ أفرادٌ وجماعاتٌ ينتَمون إلى هذا المنهَجِ، وينتسِبُون إليه، ويسعَون لتحقيقِ مذهبِ السَّلَف الصالحِ. إنه منهجٌ ليس محصورًا في انتِساب، وعدمُ الانتِساب لا ينفِي الانتِساب؛ لأنه منهجٌ ورُؤيةٌ.
وهذا المنهجُ ليس مسؤولاً عن أخطاء بعضِ المُنتسِبِين إليه، وإنما تُنسَبُ الأقوالُ والأفعالُ والتصرُّفات إلى أصحابِها وجماعاتِها لا إلى المنهَج.
معاشر المُسلمين: منهجُ السَّلَف الصالح يعتمِدُ النصَّ الشرعيَّ، وفهمَ السَّلَف الصالح، وطُرُقَ استِدلالِهم، ومصدرَ التلقِّي عندهم، وليس ذلك محصورًا في فهمِ عالِمٍ بعينِه.
أُصولُ منهج السَّلَف الصالحِ ومبادئُه لم يُولِّدها فكرٌ بشريٌّ، ولا ظرفٌ تاريخيٌّ، ولا اجتِهادُ مُجتهِدٍ؛ بل عِمادُها الكتابُ والسُّنَّةُ.
ومن معالِمِ هذا المنهجِ: لُزومُ اتباعِ الكتابِ العزيزِ والسُّنَّة الصحيحة الثابتة، والحَذَرُ من اتباع الهَوَى والبِدَع، على حدِّ قولِه -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة". أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرُهم من حديث العِرباضِ بن سَارِيَة -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
ومن معالِمِ هذا المنهَج: العنايةُ بلُزومِ الجماعة، والسَّمع والطاعةِ بالمعروف في المنشَطِ والمكرَه، على حدِّ قولِه -عزَّ شأنُه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
وحديثِ عُبادة بن الصَّامِت -رضي الله عنه- قال: دعانا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فبايَعناه، فقال فيما أخذَ علينا: "أن بايَعَنا على السَّمع والطاعة في منشَطِنا ومكرَهنا، وعُسرِنا ويُسرِنا، وأثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلا أن ترَوا كُفرًا بواحًا عندكم من الله فيه بُرهانٌ". أخرجه البخاري في صحيحه.
وهو بيانٌ جلِيٌّ في عظيمِ أثَر السَّمع والطاعة، وضرورةِ تقديمِها مهما احلَولَكَت الظروف، وأظْلَمَت الدُّرُوب، غيرَ أن الذي ينبغي تبيُّنُه وبيانُه: أن السمعَ والطاعةَ لا تعنِي ضياعَ الحقوق أو التفريطَ فيها، فمع لُزوم السَّمع والطاعة من حقِّ الناسِ المُطالَبَةُ بحُقوقِهم من الوُلاةِ ظلَمَةً كانوا أو عادِلين، ولا تنافِي بين لُزوم السَّمع والطاعة وظُهور بعضِ المظالِمِ وحقِّ المُطالَبَة بالحقوق ورفع المظالِمِ.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: النصيحةُ المدلولُ عليها بقولِه -عليه الصلاة والسلام-: "الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة". قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: "لله، ولكتابِه، ولرسولِه، ولأئمة المُسلمين وعامَّتِهم". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث تميمٍ الدارِيِّ -رضي الله عنه-.
نصيحةٌ في إخلاصٍ وصدقٍ ودِيانةٍ، وحفظِ الحقِّ والمكانةِ، والبُعد عن التَّشنيعِ والتَّشهير، أو سُلُوك مسالِكَ تُؤدِّي إلى التفرُّق والشَّحناء.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر، كما قال -عزَّ شأنُه-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]، وقولُه -عزَّ شأنُه-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71]، وقولُه -جل وعلا-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].
ومن معالِمِ هذا المنهَج: مصدرُ التلقِّي هو الوحيُ، ويعرِضُون عقولَهم وفهُومَهم وآراءَهم على الكتاب والسُّنَّة؛ فما وافقَها قبِلُوه، وما خالَفَها أعرَضُوا عنه، ونصُّ الشارِعِ هو الأصلُ، تنقادُ إليه النفوسُ، وتعتمِدُ عليه، تتبَعُه ولا يتبَعُها، "لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تبَعًا لما جِئتُ به". حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، أخرجه الأئمة في مسانيدِهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
والحُجَّةُ للنصِّ الشرعيِّ، وظاهرُ النصِّ يُؤخَذُ به، ويُصارُ إلى التأويل بدليلٍ، وحُجَّةُ النصِّ لا تُرَدُّ، قطعيًّا كان النصُّ أو ظنيًّا، والالتِزامُ بنُصوصِ الكتابِ والسُّنَّة لا يُنكِرُ العقلَ ومنزلتَه؛ فالعقلُ أعظمُ ما منَحَ الله الإنسانَ وميَّزَه به، فبِهِ يُتعرَّفُ على الأحكام الشرعيَّة، وهو مَناطُ التكليفِ وأداةُ الاستِنباط.
وهذا المسلَكُ المُستقيمُ هو الذي يُحقِّقُ التوازُنَ بين لفظِ النصِّ ومعناه، وظاهرِه وفَحواه، هذا منهجُ السَّلَف حين يأخُذون بظواهِر النُّصوص عملاً لا يُنافِي الاستِفادة المُنضبِطة من إشاراتها ودلالاتها ومقاصِدها.
هذا هو الوسطُ بين جفاء الحرفيَّة، وذوَبَان التأويل البعيد المُتعسِّف، في مسلَكٍ توافُقيٍّ لا يسمَحُ بإهدارِ أحدِ الجانِبَيْن على حِسابِ الآخر، ولا يطغَى أحدُهما على الآخر، فيُحفَظُ للنصِّ حقُّه ومكانتُه، كما تُقدَّرُ أبعادُه ودلالاتُه ومقاصِدُه، مع الاستِفادة مما يُمكِنُ الاستفادةُ منه من العلوم والمعارِف القديمِ منها والجَديد.
يقول الشاطبيُّ -رحمه الله-: "والعقلُ إذا لم يكن مُتَّبِعًا للشرع لم يبقَ إلا الهوى والشهوة".
معاشر المُسلمين: ومن معالِمِ هذا المنهَج: أنه لا تعصُّب إلا للحقِّ وما جاء في كتاب الله وكلامِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، وعدمُ التعصُّب يقترِنُ بعدمِ ادِّعاءِ العِصمةِ لأحدٍ كائِنًا من كان من عُلماء الدين وأئمَّتِه من الصحابةِ ومن بعدَهم، فضلاً عن غيرِهم. فلا عِصمةَ إلا لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يُبلِّغُ عن ربِّه -عز وجل-.
ومن هنا؛ فإنهم لا يمنَعون من الخلافِ فيما يسُوغُ فيه الخِلاف، بناءً على فهمِ النصِّ وتقدير المصالحِ والمفاسِد، وتحقيق الغايات والمقاصِد، إذا صدرَ الاجتهادُ من أهلِه في محلِّه. ولهذا كان السَّلَفُ الصالحُ يختلِفون ويعذُرُ بعضُهم بعضًا.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: التفريقُ الظاهِرُ بين الحُكم على الأوصافِ والحُكم على الأعيان؛ فالحُكمُ على الأعيان فيه من الضَّبط والتورُّع والاحتِياط ما هو معلومٌ في هذا المنهَج المُبارَك.
وبعدُ:
عباد الله: فإن سَعَة هذا المنهَج وثراءَ موروثِه لا تعنِي ذوَبَانَه أو عدمَ وُضوح معالِمِه، غيرَ أن مساحَة الاجتِهاد في مُحيطِه واسِعة، وكلَّما وفَّق اللهُ العبدَ واقتربَ من السُّنَّة ولُزومِها كان أكثرَ مُتابعةً ومُوافقةً واقتِداءً، وكلَّما زادَ صلاحُ العبد والتِزامُه بالسُّنَّة كان أعمقَ علمًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأكملَ بصيرةً، مع الحِرصِ على أُصول العلوم وقواعِدِها ومعاقِدِها، وقد جعل الله لكل شيءٍ قدرًا، وفي ذلك كلِّه يكونُ المرجِعُ أهلَ الذِّكرِ من حمَلَة الكتابِ وحُفَّاظِ السُّنَّة، ليعلَمَه الذين يستنبِطُونه منهم المدلولُ عليه بقولِه -جل وعلا-: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على آلائِه، والشكرُ له على نعمائِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جلَّ في عليائِه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرتُه من خلقِه وصفيُّه من أوليائِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأصفِيائِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تنزَّلَ أمرُه بين أرضِه وسمائِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم لقائِه.
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن منهجَ السَّلَف هو الدينُ بجميعِ شرائِعِه في التوحيد والإيمان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، في العلاقات والحقوق، والمُعاملات، والسياسة في حقائقِها وحُدودِها وشرائِطِها، في وحدةٍ لا تفرُّق فيها.
يقول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في كلمةٍ جامعةٍ: "سَنَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وُولاةُ الأمر من بعدِه سُنَنًا؛ الأخذُ بها اتِّباعٌ لكتابِ الله -عز وجل-، واستِكمالٌ لطاعة الله، وقوةٌ على دين الله، ليس لأحدٍ من الخلقِ تغييرُها ولا تبديلُها، ولا النظرُ في شيءٍ خالَفَها. من اهتدَى بها فهو مُهتدٍ، ومن استنصَرَ بها فهو منصورٌ، ومن تركَها اتَّبَع غيرَ سبيلِ المُؤمنين وولاَّه الله ما تولَّى وأصلاهُ جهنَّم وساءَت مصيرًا".
أئمةُ أهل العلم وأساطينُه مُجدِّدون لا مُؤسِّسُون، فأيُّ دعوةٍ تُعظِّمُ النصَّ الشرعيَّ وتصُونُ دلالَتَه وتقِفُ دون تحريفِ الغالِين، وتأويلات الجاهِلين، وانتِحالات المُبطِلين فهي دعوةُ حقٍّ.
ولا يُوصَفُ سُلوكُ المرء بالاعتِدال والوسَط والسَّمَاحة إلا إذا سلِمَ من نوعَي التطرُّف: التشدُّد والتنطُّع، والمُيُوعَة والذَّوَبان، وإدخالُ نِزاعات النفس والقَناعات الشخصية في الأحكام سُلُوكٌ لا يمُتُّ للعلمِ بصِلَةٍ، ولا لحُرِّيَة الفِكرِ بنَسَبٍ.
فإذا قال عالِمٌ بتحريمِ ما يرَى غيرُه حِلَّه، أو وجوبِ ما يرَى زميلُه استِحبابَه لا يُوصَفُ بأنَّه مُتشدِّد؛ فهذا ليس من العلمِ ولا من الاتِّصاف به، ناهِيكُم إذا كان ما يقولُ به هو قولَ جماهير أهل العلم.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، والزَموا الجادَّة، وخُذوا بالسُّنَّة، واستمسِكوا بالهديِ الأولِ.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال -وهو الصادقُ في قِيلِه- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم