إياك أن تيأس

سامي بن محمد العمر
1446/01/19 - 2024/07/25 19:21PM

إياك أن تيأس  

أما بعد: فإذا عصفت الرياحُ بالآمال ... وتقلبت بالمرء الأحوال

إذا تكالبت عليه الآلام وتتابعت عليه الأحزان

إذا لدغه الجوع، إذا نهشه الفقر، إذا أنهكته الهموم، إذا أثقلته الغموم، إذا أتعبته الأمراض، إذا أوجعته البلايا  

إذا وقفت الغُصة في الحلق؛ فلا تستطاع للبلع ولا للإخراج والدفع..

فما أسرع دبيبه في القلوب الضعيفة ! وما أبشع تسلطه على النفوس المريضة!

ذاكم هو اليأس إذا جاء وحده أو أحضر معه أباه: القنوط.

جنديان كبيران في عساكر إبليس، التي تجتاح أرواح المؤمنين لتحتل منها أغلى أراضيها، وتسلب منها أفكارها ومباديها.  

عباد الله: لقد خلق الله الإنسان في كبد، يعاني مشاق الحياة ويصبر على لأواء المحن ويصارع الشر بالخير، ويقابل الابتلاءَ بالرضا والإحسان، والأقدارَ بالتسليم والإيمان. فالله تعالى عالم بحوائج العباد، قادرٌ على نوالها، منزهٌ عن الضن والبخل بها؛ ولكنها الحكمةُ في وضع الأمور في مواضعها {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27]

** فيا أيها الفاقد ريحة الولد، ويا أيها المحروم ضمة الوالد، ويا أيها المتألم في فقره، ويا أيها المنهك من مرضه، ويا أيها المجروح من عقوق ولده، ويا أيها المفجوع بفقد حِبه: بكى يعقوب حتى ذهب بصره، ولم ينقطع عنده الأمل في الله فقال (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) فجاءه الفرج فقال: (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون)

وآلم إبراهيم عليه السلام وزوجَه سارةَ فقدُ الولد، حتى طال الأمد، فجاءت الملائكة (قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين* قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)

وأجدبت الأرض في زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمات الزرع وجف الضرع، وهلك القطيع وشح الماء في الآبار والينابيع ... واشتكى الناس.. فرفع الخليل يديه إلى خليله (اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا) حتى تحدر ماء المطر على لحيته.. (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد)

إذن يا عبد الله لا تيأس:

لا تيأس.. وعندك ربك كريم،

لا تيأس وقد جاءك محمد صلى الله عليه وسلم بدين عظيم

إذا الحادثات بلغن النهى *** وكادت لهن تذوبُ المهج

وحلَّ البلاء وقل العزاءُ *** فعند التناهي يكونُ الفرج

لا تيأس ... وليس بينك وبين مُصرفِ الأحوالِ حائل.

لا تيأس ... وبيدك سلاحُ الدعاءِ الهائل

لا تيأس ..  ولو كان للمكروب قوة السيل .. وهول البحر.. وسطوة الشمس.. وصلابة الصخر .. فإنه أمام قوله تعالى (ورحمتي وسعت كل شيء) يكون هباء منثورا ..

فَخفف عَن الْقلب الهموم مسليا ... لَعَلَّ الَّذِي تخشاه لَيْسَ يكون

وَكن واثقا بِاللَّه فِي كل حَالَة ... فَمَا شدَّةٌ إِلَّا وسوف تهون

مات لعروة بن الزبير رضي الله عنه ابنٌ في اليوم الذي قُطعت فيه رجله من مرض الآكلة؛ فقال: اللهم لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت([1]).

كم مرةٍ ضاقت بنا الأمور، وتقطعت بنا الحبال، وأظلمت بنا الدنيا؟ ثم فرّجها فارج الكروب {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 63، 64]

سيفتح بابٌ إذا سُدّ باب *** نعم، وتهون الأمور الصِّعاب

ويتَّسع الحال من بعد ما ... تضيق المذاهب فيها الرِّحاب

مع الهمّ يسران هوّن عليك ... فلا الهمّ يجدي ولا الاكتئاب

بارك الله لي ولكم ....

  الخطبة الثانية:

أما بعد: فإن الذي يُحيل الجَبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلاً، ويقرب بعد العسر يسراً، وبعد الشدة فرجاً... إنما هو اليقين بالله والإيمانُ به وحسنُ الظنِّ والرجاءِ في لطفه ورحمته: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوما، فقال لي: يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف» .

روى التنوخي في الفرج بعد الشدة: أن سليمان الوزير قال: كنت محبوسًا في خلافة الواثق، آيسُ مَا كنت من الْفرج، وَأَشدُّ محنةً وغمًا، حَتَّى وَردت عَليّ رقْعَةُ أخي الْحسنِ بن وهب، وفيهَا شعرٌ لَهُ: محنٌ أَبَا أَيُّوب أَنْت محلهَا ..فَإِذا جزعت من الخطوب فَمن لَهَا فاصبر فَإِن الله يُعقِب فُرْجَة ... ولعلها أَن تنجلي ولعلها وَعَسَى تكون قريبَة من حَيْثُ لا ... ترجو وتمحو عَن جديدك ذُلَّها قَالَ: فتفاءلت بذلك، وقويت نَفسِي، فَكتبت إِلَيْهِ: صبرتني ووعظتني وأنا لها ... وستنجلي بل لَا أَقُول لَعَلَّهَا ويحلها من كَانَ صَاحب عقدهَا ... ثِقَة بِهِ إِذْ كَانَ يملك حلهَا قَالَ: فَلم أُصلِّ العشاء ذَلِك الْيَوْم، حَتَّى أطلقت، وفرج الله عني فصليتها فِي دَاري([2]).  

اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، ومن كل مرض شفاء، ومن كل دين وفاءً، ومن كل حاجة قضاءً، ومن كل ذنب مغفرة ورحمة. اللَّهُمَّ فارجَ الْهمِّ، وَكَاشفَ الْغمِّ، ومجيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرين، رَحْمَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ورحيمَهما، ارحمنا رحمة من عندك تغنينا بهَا عَن رَحْمَة من سواك.  

 

([1]) ينظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 430)

([2]) الفرج بعد الشدة للتنوخي (1/ 186)

المرفقات

1721924446_لا تيأس.docx

1721924458_لا تيأس.pdf

المشاهدات 1350 | التعليقات 0