إن الله مانعٌ أباكِ
سامي بن محمد العمر
إن الله مانعٌ أباكِ
أما بعد:
فكلما رأى الحقيرُ أنه استغنى زادَ طغيانُه، وكشّرَ عن أنيابه، وبثّ سمومَه، وتجاوزَ حدودَه.
كلما عظُمتْ دُنيا الوضيعِ في عينِيهِ، واستقوى بما لديه، ظنّ أنه قادرٌ على فرضِ النتنِ من أفكارِه، وحرٌّ في التطاولِ على أسيادِه.
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى}
والماكرون بديننا على مدى الأزمان، وجدوه ديناً إذا حاربوه اشتدّ، وإذا أهملوه امتدّ، فلم يجدوا وسيلة أنجعَ لهم من الحربِ الباردة، والقتلِ البطيء للقيم والمبادئ، والهدمِ المتتابع للمعالم والشعائر.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]
يقول ابن إسحاق في سيرته: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابًا، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب، وهي تبكي، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لها: "لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك".
ليس أوجع لنفس الأب من رؤية بكاء بناته؛ ولكنه بأبي هو وأمي كان واثقاً من نجاحه في دعوته وإن قويت المعارضة، واثقاً من انتشار هذا الدين وإن عظُمتِ السخرية، واثقاً من نصر الله له وإن كَثُر الماكرون وقلّ الناصرون.
وفعلاً: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } [التوبة: 40]
لقد كانت محاولة نثر التراب على رأس النبي العظيم سخيفةً في مقدارها؛ وضيعةً في سخافتها، تافهةً في وضاعتها؛ فقبضةٌ من تراب لا يمكن أن تحجبَ الشمسَ أو تطمرَ النجم ولكنه حمق الغباوة؛ وغباء الحمق([1]).
"لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك"
والله ما يقول هذه الكلمة إلا نبيٌ وَسِعَ تاريخ أمته في نفسه الكبيرة قبل أن يوجد ذاك التاريخ في الدنيا.
والله ما يقول هذه الكلمة إلا نبيٌ استغنى بربه ثقة وإيماناً، وتوكلاً ويقينا.
نبيٌ... كانت عينه تلمح شعاعَ النصرِ والتمكينِ رُغم ما اكتنفها من ضبابِ الأحداث المؤسفة، وغشاوةِ الأذى المؤلمة.
وتمر به الأيام حتى أراه الله النصر والفتح، وأراه سعادة قلبه بدخول الناس في دين الله أفواجاً؛ عندها قضى نحبه واستوفى أجله، وسلّم راية هذا الدينِ لصحبٍ لم يقرّ لهم قرار، ولم يهدأ لهم بال، حتى سكبوا أرواحهم، وأضنوا أبدانهم، وأجروا دماءهم نصرةً لدين الله ودفاعاً عن رسول الله.
وقد تناقل الراية دُولٌ وأقوام، على مدى السنينِ والأعوام؛ حتى وصلت إلينا؛ وكأنَّ على حاشيتها وصيةَ سعد بن الربيع رضي الله عنه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة يوم أحد، وقد وقف عليه زيد بن ثابت وقال: يا سعد، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال سعدٌ: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إنْ خُلِص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عينٌ تطرف"([2]).
يا سعد! والله إن العيونَ لطارفة، والإساءةَ حاصلة، ولكنَّ لهيب الشوق، وحرارةَ الحب قد خَبَتْ في بعض النفوس المؤمنة فلم تعِ بعدُ كلمةَ خبيب بن عدي رضي الله عنه لما رفعوه على الخشبة ليقتلوه وقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: لا والله العظيم، ما أحب أن يَفدِيَنِي بشوكةٍ يُشاكها في قدمه!
إنها النفوس التي تؤمن بأن مقام رسول الله عالٍ لا ينخفض وقد رفعه الله، منيفٌ لا يتدنى وقد سما به الله {ورفعنا لك ذكرك} {إنا كفيناك المستهزئين}
ولكنها النفوس المحبة التي لا تتحمل أن يُنال محبوبها بسوء من أراذل البشر، وحثالات الأمم دون أن تُخلِّد لها في سجلات الشرف المحمدي موقف محب يقول كما قال حسان:
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
أما بعد:
إن المحب العاقل لقادر على أن يستغل كل موقف لصالحه ولو كان مؤلماً، ويستفيد من كل حادثة لنصرة دينه ولو كانت بشعة، والمحبة الصادقة لا تبرر التصرفات الهوجاء، ولا تسمح بالأفعال النكراء، وكل عمل يؤخر التقدم ويبطئ المسير فليس من النصرة في شيء.
وإن التمسك بسنة الحبيب وإحياءها بين الناس، وبث سيرته في المواقع وبجميع اللغات، واستخدام وسائل الضغط المشروعة والفاعلة، وتعليم شذاذ البشر المعنى الصحيح للحرية المزعومة، والقدر الوضيع للمبادئ العلمانية المأفونة؛ لمن أنجع الوسائل في مثل هذه المرحلة من حياة الأمة.
([1]) ينظر لهذا وما بعده: وحي القلم (2/24)
([2]) زاد المعاد (3/172)
المرفقات
1654787677_إن الله مانع أباكِ.docx
1654787677_إن الله مانع أباكِ.pdf
تركي العتيبي
خطبة بماء الذهب
تعديل التعليق