﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله، شَرَحَ صدورَ المؤمنينَ فانقادوا لطاعَتِهِ، وحَبَّبَ إليهمُ الإيمانَ وزيَّنَهُ في قلوبِهم، فلم يَجِدُوا حَرَجًا في الاحتكامِ إلى شريعتِهِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ، وعلى آلهِ وصحْبِهِ، والتابعينَ ومنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.
عباد الله:
في بعضِ الأحوالِ تضيقُ الأمورُ في عينِ الإنسانِ، حتى تبلغَ منهُ الحِيرةُ مبلَغَها، ولا يُحْسِنَ التصورَ، فيشتدَّ كيدُ الشيطانِ عليه؛ ليدخلَه في دوامةٍ منَ اليأسِ، ويقطعَ رجاءَهُ في الخلاصِ، ويوصلَه إلى الكفرِ.
إنها حيلةٌ شيطانيةٌ خبيثةٌ، يعرفُها الصالحونَ، ويُحَذِّرونَ منها أهليهمْ وأقوامَهُمْ، باثِّينَ روحَ التفاؤلِ والثِّقةِ برحمة الله، وصدق وعدِه.
غابَ يوسفُ عن أبيهِ عليهما السلامُ سنينَ طويلةً، فبعثَ يعقوبُ بنيه ليبحثوا عنه، محذرًا لهمْ من التعللِ بِبعد العهد، الذي يَبْعُدُ مَعَه اللِّقَاءُ عَادَةً؛ لأنَّ اللَّهَ إِذَا شَاءَ تَفْرِيجَ كُرْبَةٍ هَيَّأَ لَهَا أَسْبَابَهَا، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وقُدْرَته فإنه لَا يُحِيلُ مِثْلَ ذَلِكَ، بل يَأْخُذ بالسَّبَبِ، وَيَعْتَمِد عَلَى اللَّهِ فِي تَيْسِيرِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ فَهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْأُمُورِ الْغَالِبَةِ فِي الْعَادَةِ، وَيُنْكِرُونَ غَيْرَهَا قال يعقوب لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
اليأس قطعُ الأمل في تحقيق المطلوب، والقنوط قريب منه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أكبرُ الكبائر: الشِّركُ بالله، والأمنُ من مكرِ الله، والقنوطُ من رحمةِ الله، واليأسُ من رَوح الله".
وإذا تعلق العبدُ بالأسباب يئسَ من الفرج له، ومن النصر للمسلمين، وإذا أسرف على نفسه، وكثرت جناياته يئس من رحمةِ ربهِ في الآخرةِ، وترك التوبة والإنابة والرجوع إليه، وكلا الأمرين مذمومٌ؛ فإن كانَ للكونِ سننٌ مترتبةٌ في الأسبابِ والمسَبِّبَاتِ، فإنَّ الواثقَ بالله يعلمُ أنَّ اللهَ هو خالقُ الأسبابِ، واليائسَ من رَوحِ الله جَعَلَ قوَّتَهَ وقدرَتَهُ مساويةً لخلْقِهِ، فكأنَّه عطَّلَ قدْرَةَ ربِّه، وغلَّب على ظنِّه أنَّ ما تأباه النواميسُ، لا قدرةَ لله على تغييرِهِ، وهذا هو الكفرُ والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى حكايةً عن يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
ومن تركَ التوبةَ والإنابةَ، بسبب كثرةِ معاصيهِ، فكأنه ينكر رحمة الله وأنها وسعت كل شيء، وهذا هو سلوكُ أهل الضلال، والعياذ بالله، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: ﴿قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾.
إنَّ نشرَ التفاؤلِ وإشاعته بين الناس منهجٌ نبويٌ، وأسلوبٌ قرآنيٌ، لما تكالب الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمر بحفر الخندقِ، فعرضت لهم صخرة منعتهم من الحفر، فقام إليها النبي صلى الله عليه وسلم فما ضَرَبَ ضَرْبَةً إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ، ثم قال لأصحابه يبشرهم ويطمئنهم: إِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ، «ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ» ودعا لهم بأن يفتحها عليهم، ويغنم المسلمين ديارهم، «ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ».
فأي تفاؤلٍ هذا، ونشرٍ للسكينة والطمأنينة بين الصحابة، وكأنه يقول لهم إن عدوكم الآتي إليكم لن ينال منكم، بل ستكون الغلبة لكم، حتى تغنموا مدن كسرى وقيصر.
فحذارِ وأنت ترى كثرة الفتن، وتقلب الأحوالِ أن تظنَّ بالله جلَّ جلاله سوءًا، فالله سبحانه وتعالى عليم لا يخفى عليه شيءٌ، حكيمٌ لا يخطئ في شيء، رحيمٌ وسعت رحمته كل شيء، قدير لا يعجزه شيء، ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، لكنه يبتلي عباده، فيفضحَ المنافقين، ويمحصَّ المؤمنين، ويظهرَ الصالحين، ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
جعلنا الله من العالِمين العامِلين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
الحمدُ للهِ وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد عبادَ اللهِ:
فإن الثقةَ باللهِ، وحسنَ الظنِّ بهِ لا تعني تركَ العملِ والاستعدادِ، والأخذِ بالأسبابِ، كان بعض السلف يُذَكِّرُ النَّارَ فَقَالَ رَجُلٌ: لِمَ تُقَنِّطِ النَّاسَ؟ قَالَ: وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾، وَيَقُولُ: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾؟
وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ.
فالمبادرةُ إلى التوبةِ، والإقبالِ على الله واجبٌ، وتركها بسبب الإياس من رحمة الله هو القنوط، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، من هذا المسلك قائلاً: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
ومعنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، فإذا دنت أمارات الموت غلَّب الرجاء أو محَّضَه؛ لأن مقصودَ الخوف الانكفافُ عن المعاصي والقبائح، والحرصُ على الإكثارِ من الطاعات والأعمالِ، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله عزَّ وجلَّ والإذعان له.
ومن أقوى الوسائل لحسن الظن بالله، الثقةُ به، والانطراح بين يديه، فحذَرُ يعقوب عليه السلام من اليأس، جعله يقبل على الله وينطرح بين يديه، ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
ومن ظنَّ به أنه إذا صَدَقهُ في الرغبةِ والرهبةِ، وتضرَّع إليه، وسألَه، واستعانَ به، وتوكَّل عليهِ، أنَّهُ يخيِّبه، ولا يُعطيهِ ما سألَهُ، فقد ظنَّ به ظنَ السَّوء، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه.
ألا فاتَّقُوا اللهَ يا عبادَ اللهِ وكونوا منَ الذينَ يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحسنَه، وقوا أنفسَكُمْ وأهليكُمْ نارًا وقودُها الناسُ والحجارةُ؛ فإنَّ الشقيَّ من حُرِمَ رَحْمَةَ الله -عياذًا بالله-، ثمَّ صلُّوا وسلِّموا على خيرِ البرَايَا، فقدْ أمرَكُمُ اللهُ تعالى بذلكَ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
المرفقات
1702565738_﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ للجوال.pdf
1702565738_﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.pdf
1702565738_﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.docx