إمتاع النفوس بما في سورة الإخلاص من الدروس
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ سُبْحَانَهُ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيِماً كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سُورَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سُوَرِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى ، ذَكَرَ اللهُ فِيهَا صِفَةَ كَمَالِهِ، وَأَحَدِيَّتَهُ الْمُطْلَقَةَ، الْمُنَزَّهُ عَنِ الْمُمَاثَلَةِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ ، أَوِ الْمَثِيلِ وَالشَّبِيهِ وَالْمَكَافِئِ؛ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
إِنَّهَا سُورَةُ الإِخْلاَصِ الَّتِي جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا أَخْبَرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ!
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [رواه الترمذي، وحسنه الألباني] أَيْ أَنَّ اللهَ الَّذِي تَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ وَتَسْأَلُونَ عَنْهُ، مُتَوَحِّدٌ بِجَلاَلِهِ وَعَظَمَتِهِ، كَامِلٌ فِي صِفَاتِهِ؛ افْتَقَرَتْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْحَاجَاتِ، وَلاَذَتْ بِجَنَابِهِ الْخَلاَئِقُ بِالرَّخَاءِ وَالأَزَمَاتِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَامِلٌ فِي عِلْمِهِ وَحِلْمِهِ، كَامِلٌ فِي عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنِ الأَشْبَاهِ وَالأَنْدَادِ، وَالصَّاحِبَةِ وَالأَوْلاَدِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
وَهَذِهِ السُّورَةُ سُمِّيَتْ بِسُورَةِ الإِخْلاَصِ؛ لاِشْتِمَالِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِخْلاَصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَاللُّجُوءِ إِلَيْهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَشِرْكٍ.
أَمَّا عَنْ فَضْلِهَا وَمَكَانَتِهَا وَثَوَابِهَا فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: «يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، أَلاَ أُعَلِّمُكَ سُوَرًا مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الزَّبُورِ وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهُنَّ، لاَ يَأْتِيَنَّ عَلَيْكَ لَيْلَةٌ إِلاَّ قَرَأْتَهُنَّ فِيهَا: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وَ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ وَ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾».
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ» [رواه مسلم]، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟» قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» [متفق عليه].
فَهِيَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ تَوْحِيدٌ، وَقِسْمٌ قَصَصٌ، وَقِسْمٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ؛ وَهَذِهِ السُّورَةُ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى.
وَأَمَّا كَوْنُهَا تَعْدِلُ قِرَاءَةَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ ! فَهَذَا فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، لاَ أَنَّهَا تَكْفِي وَتُجْزِئُ عَنْ قِرَاءَةِ ثُلُثٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ قَارِئِهَا وَمَعْرِفَتِهِ لِرَبِّهِ تَعَالَى؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ حَتَّى انْقَضَتِ السُّورَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَا عَبْدٌ عَرَفَ رَبَّهُ»، وَقَرَأَ فِي الآخِرَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى انْقَضَتِ السُّورَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَذَا عَبْدٌ آمَنَ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ» [صححه الألباني].
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّ مَحَبَّةَ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ لِعَبْدِهِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟» فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - : «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ» [متفق عليه].
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْحُصُولِ عَلَى بَيْتٍ فِيهَا؛ فَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، قَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ»، وَسَمِعَ آخَرَ يَقْرَأُ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فَقَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ غُفِرَ لَهُ» [رواه أحمد، وصححه الألباني].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَجَبَتْ». قُلْتُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «الجَنَّةُ» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ» [رواه أحمد، وصححه الألباني].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجَلاَءَ هُمُومِنَا وَأَحْزَانِنَا، وَذَهَابَ غُمُومِنَا وَهُمُومِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ فَضَائِلِ سُورَةِ الإِخْلاَصِ : أَنَّهَا تَكْفِي صَاحِبَهَا شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لِيِ رَسُولُ اللَّهِ قُلْ؟ قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» [ رواه أبو داود ، وحسنه الألباني] فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاخْشَوْا رَبَّكُمْ وَعَظِّمُوهُ وَأَطِيعُوا، وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَ آيَاتِ كِتَابِهِ؛ فَتَدَبُّرُهَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ وَطَاعَةِ الرَّحْمَنِ.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].
المرفقات
1644347777_إمتاع النفوس بما في سورة الإخلاص من الدروس .doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق