أهمية الوقت والغبن على الفوت
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله القائمِ على كل نفس بما كسبت، والعالمِ بما عَمِلَت، وفيه تّقَلَّبَت، المانِّ بِتَواترِ آلائه، المتفضِّلِ بسوابغِ نعمائه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تكون لمَنِ اعتصم بها خيرُ عِصمة، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُ الله ورسوله، أرسله للعالمين رحمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الدنيا –كما يقول علي بن أبي طالب ¢ - قد ارتَحَلَتْ مُدْبِرَة، وأنَّ الآخرةَ قد ارتَحَلَتْ مُقْبِلَة، ولكلٍّ مِنْهُما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليومَ عملٌ ولا حِساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
عباد الله.. إنه أمرٌ عند الأكثر ليس ذو بال، ولا يُفطَن له بكلِّ حال، وإنما تَكون اليقظةُ بقَدْرِه حقَّ قَدْرِه حين يفوت الاستدراك، فإياك إياك، أخرج الترمذي من حديث عبدالله بنِ مسعودٍ ¢ أن رسولَ الله ‘ قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ».
إنه الوقت أنفسُ ما به عُنِيْتْ، وأسهلُ ما عليك يَضِيْع، ما مَضى منه لا يَعُود، وربُّك يعطي ويجود، وللعِبرة يُقيم ما يعلم به المرءُ ألّا خلود {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } يَخْلُفُ كلُّ واحد منهما الآخر، يتعاقبان لا يفتران، وهكذا الإنسان مأمور أن يعمل في وقتٍ عملَه، ويقضي في الآخر ما فاته.
عباد الله.. إن الوصية بالوقت -بالحثِّ على اغتنامِه والتحذيرِ من إضاعته- أمرٌ جَلَلْ، فإنه إذا مضى الوقت، كان الفوت، والمؤمن لِسَاعَتِه يَغْتَنِم، قبلَ أن تَفُوتَ الفُرصَةُ فَيَغْتَمّ، عن ابن عباس ƒ أنَّ النبي ‘ قال لرَجلٍ وهو يَعِظُهُ: «اغتَنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكِ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغُلِكَ، وحياتَكَ قبلَ مَوتِكَ»
إنَّ واجدَ الفراغِ وهو صحيح، ليَعيشُ نعمةً يغبِطُهُ عليها: عارفُ قيمتِها، كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس ƒ قال: قال النبي ‘ : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحةُ والفراغ" قال ابن القيم ¬ : (إضاعةُ الوقت أشدُّ من الموت؛ لأنَّ إضاعةَ الوقتِ تَقْطَعُكَ عن اللهِ والدارِ الآخرة، والموتُ يقطعك عن الدنيا وأهلها) وقال: (وَالْقَصْدُ أَنَّ إِضَاعَةَ الْوَقْتِ الصَّحِيحِ يَدْعُو إِلَى دَرْكِ النَّقِيصَةِ، إِذْ صَاحِبُ حِفْظِهِ مُتَرَقٍّ عَلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، فَإِذَا أَضَاعَهُ لَمْ يَقِفْ مَوْضِعَهُ، بَلْ يَنْزِلُ إِلَى دَرَجَاتٍ مِنَ النَّقْصِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَقَدُّمٍ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ وَلَا بُدَّ، فَالْعَبْدُ سَائِرٌ لَا وَاقِفٌ، ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾) فمن تَحقق بهذا العلم، يتجدد عنده إذا لم يَزْدَد عملًا الندم، قال ابن مسعود ¢ : "ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غَرَبَتْ شَمْسُه، نَقَصَ فيه أجلي ولم يَزْدَدْ فيه عَمَلِي" فمن كان كذلك -عبادَ الله- فهو على وقته شحيح، قال الحسن البصري ¬ : "أدركت قوما كانوا على أوقاتهم أشدُّ منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم".
ولهذا -عباد الله- فإنَّ مَنْ أمضى يومه في غير حقٍّ قضاه، أو فرضٍ أدّاه، أو مجدٍ أثَّلَه، أو خيرٍ أسَّسه، أو علمٍ اقْتَبَسَه، فقد ظَلَمَ نفسه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} بارك الله ولكم في القرآن وعلمنا الحكمة والفرقان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين جميعا، فاستغفروه إنه كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الجلالِ والإكرام، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو القُدُّوْسُ السَّلام، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه إلى جميعِ الأنام، عليه وعلى آله وصحبه أفضلُ الصلاةِ والسلام، أما بعد:
فإنكم مَعشَرَ الآباء مأمورون بالقيام بحفظ أوقات أولادكم، وهكذا أنت أيها الشابُّ مأمورٌ بحفظِ وَقْتِك، وبحفظِ الوَقت: تُحفظُ النَّفس، وقد كثُر في هذه الأيام الفَرَاغ، وإن تُرِكَ الحَبْلُ على الغَارِبِ فمُتَخَطِّفُوا الأوقاتِ بالشُّبهاتِ والشهواتِ بالرَّصَد، قد أعدوا العُدَد، وهم في كلٍّ طامعون، فاعمروا أوقاتَكم وأوقاتَ أولادِكم بما ينفع آخرةً ودنيا، فرياضُ القرآن خيرُ مستودَع، وحَلْقاتُ العلم وكتُبُه بها المرءُ لنفسه ينفع، وبتحصيله في العلومِ الدنيوية فرضُ الكفاية عن الأمةِ يرفع، وللشرِّ يدفع، فالنفسُ إنْ لم تَشْغَلْهَا بالحق شغَلتْكَ بالباطل.
ومن وصية ابن الجوزي لابنه وكُلُّنا بها مَعْنِيّ: (انتبه يا بُنَي لِنَفْسِك، وانْدَمْ على ما مضى من تَفْرِيْطِك، واجتَهِدْ في لَحَاقِ مَن سبَقَك ما دام في الوقت سَعةٌ، واسْقِ غُصْنَك ما دامت فيه رُطُوْبَة، واذْكُر ساعاتِك التي ضَاعَت، فكَفَى بها عِظَة، ذهبَتْ لذةُ الكَسَلِ فيها، وفاتت مراتبُ الفضائل، واعلم يا بني أن كلَّ نَفَسٍ خِزَانَة؛ فاحذر أن يَذهبَ نَفَسٌ بِغَيْرِ شَيْء، فتَرى في القيامة خِزانةً فارغةً فتَنْدَم).
عباد الله.. وإنه كما قال رسول الله ‘ : «وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» والنَّفْسُ تَجْهَدُ كما يَجْهدُ البدن، فلا بُد من ترويحٍ عن النفس، وذلك بما لا يَسُوْءُ المرءَ في آخرتِه بإيرادها مواردَ الفتن، وإن في هذه البلاد المبارَكَة لـمُستَرْوَحٌ للنَّفْس، من طبيعةٍ بخَلْقِ الرحمن، ومن مُتنزَّهاتٍ بعمل الإنسان، وخيرُ ما يُقصدْ الحَرَمان الشريفان، وصلةُ الرَّحِمِ والخِلّان.
ومَن أَحْسَنَ النيةَ واستشعر المسؤولية، فإنه في ترويحِه بالمباح مأجور، لِـمَـا به على طاعة ربه يتقوى، ولِنفسه وَوَلَدِه عن الشرِّ يَنْأَى، واللهُ المؤمَّل والمرتَجَى أنْ على الحقِّ لأقدامنا يُثبِّت، ومِن الفتنِ يُعيذ.
المرفقات
1688655012_خطبة عن أهمية الوقت والغبن على الفوت–استغلال-الإجازة.docx
1688655013_خطبة عن أهمية الوقت والغبن على الفوت–استغلال-الإجازة.pdf