أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا

أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا

الخطبة الأولى

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ ، أما بعد :-

فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

عباد الله : رُوي في مسند الإمام أحمد وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ ) . هذا الحديث النبوي الكريم يحوي توجيهات نبوية مباركة ، يحتاجها كل مسلم لحفظ دينه وتصحيح نظرته للدنيا ، ووزن الأمور بالميزان الصحيح وهو ميزان الآخرة .

ففي هذا الحدث يقولُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أرْبعٌ " ، أي : أربع خِصالٍ وصِفاتٍ ، وهي خصال حميدة ، " إذا كُنَّ فيك " ، أي : اتَّصفَ المُسْلمُ بهن ، وتخلَّق بهن ، " فلا عليك ما فاتَك من الدُّنْيا " ، أي : لا بأْسَ بما يَضيعُ من الدُّنْيا من مُتعٍ وغيرها ، وألاَّ يتحسر على شيءٍ فاته من الدنيا ، فإن هذا لا يفيد ،  إنْ كان المُسْلمُ بتلك الصفاتِ متخلق ومتصف ، وعليه أن يجعل الآخرة هي أكبر همه .  

الصفة الأُولى : ( حِفْظُ أَمَانَةٍ ) ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له ، ولا دينَ لمن لا عهدَ له " (أخرجه أحمد وصححه الألباني) . والأمانة تشمل كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلاً ، وهي أداء الحقوق والمحافظة عليها ، فالمسلم يعطي كل ذي حق حقه ، وأهم الحقوق هو حق الله في العبادة ، من توحيده وطاعته فيما افترضه على عباده من الواجبات والفرائض التي كلَّفهم بها ، وواجب عليهم أداؤها وعدم التقصير أو التكاسل فيها ، وكذا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وقد قرن الله في التحذير من خيانته وخيانة رسوله صلى الله عليه وسلم حين حذَّرَ عباده المؤمنين فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) . ومن صور الأمانة : الأمانة في حقوق البشر ، وتدخل فيها البيوع والديون والمواريث والرهون والودائع التي تُعْطَى للإنسان ليحفظها لأهلها ، والأمَانَة في الشَّهادة ، والأمَانَة في الكتابة ، فلا يكون فيها تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص ، والأمَانَة في الأسرار التي يُستأمن الإنسان على حفظها وعدم إفشائها ، وكذا الأمَانَة في السَّمع والبصر وسائر الحواس ، والأمَانَة في النُّصح والمشورة ، وذلك بأن تَصْدُق مَن وَثَقَ برأيك .

الصفة الثانيةُ : " وَصِدْقُ حَدِيثٍ " ، وللصدق منزلة عظيمة وأهمية كبيرة ،  أوصى الله به عباده المؤمنين وأمرهم بأن يكونوا مع أهل الصدق فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، يقول السعدي رحمه الله : أي " كونوا مع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، الذين أقوالهم صدق ، وأعمالهم ، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل والفتور ، سالمة من المقاصد السيئة ، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة " . كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالصدق وحذَّر من الكذب ، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :     « عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا » . ومتى ما انتشر الصدق في تعامل الناس بعضهم مع بعض عظمت الخيرات ، وكثرت البركات ، وعم الرخاء .. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الحمد في الآخرة والأولى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء ، وأصحابه الأوفياء ، والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :-

فإنَّ الصفة الثالثة كما جاءت في الحديث المتقدم : وهي قوله صلى الله عليه وسلم :    ( وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ ) ، وحسن الخلق هو : " بذل المعروف ، وكف الأذى ، بألَّا يؤذيَ الناس لا بلسانه ولا بجوارحه ، وطلاقة الوجه ". وقد جمع بعض العلماء علامات حسن الخلق فقال : " هو أن يكون الإنسان كثيرَ الحياء ، قليلَ الأذى ، صدوقَ اللسان ، قليلَ الكلام ، كثيرَ العمل ، قليلَ الزَّلل ، بَرًّا وَصُولًا ، وَقُورًا صبورًا ، شكورًا رضيًّا ، حليمًا رفيقًا ، عفيفًا شفيقًا ، لا لعَّانًا ولا سبَّابًا ، ولا نمَّامًا ولا مغتابًا ، ولا عَجُولًا ولا حقودًا ، ولا بخيلًا ولا حسودًا ، بشَّاشًا هشَّاشًا ، يحب في الله ، ويُبغض في الله ، ويرضى في الله ، ويغضب في الله . والخُلق الحسن من أهم عوامل النَّجاح ، فكثيرٌ من النَّاس لا ينظرون إلى معتقدك ، ولا إلى عبادتك ، وإنَّما ينظرون إلى خُلقك أولاً ، فإذا أعجبهم أخذوا عنك العقيدة ، والأخلاق ، والعبادة ، والعلم ، وإذا لم يعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم . قال الفضيل بن عياض رحمه الله : " لأَنْ يصحبني فاجرٌ حَسَنُ الخُلُق ، أحب إليَّ من أن يصحبني عابدٌ سيئ الخلق " . فإذاً لابُدَّ من حُسنُ الخُلُق ، ويكفينا أنَّ الله تعالى قال لنبيِّه ﷺ : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ، وقد بلغ من منزلة حسن الخُلُق أنه يُثَقِّل الميزان يوم القيامة ، كما في سنن الترمذي وصححه الألباني عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ فَإِنَّ اللَّهَ تعالى لَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ » ، وأكثر ما يُدخل النَّاس الجنَّة حُسن الخُلق ، ففي سنن الترمذي وحسَّنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه  قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ : « تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ » .

الصفة الرابعة : قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ ) ، وإن في طِيْبِ المكاسب وصلاح الأموال ، سلامة الدين ، وصون العرض ، وجمال الوجه ، ومقام العز . والمقصود من ذلك هو الكسب الطيب ، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين فقال عزَّ من قائل : { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً } [المؤمنون:51] ، وقال عزَّ شأنه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة:172] . وإن طلب الحلال وتحريه أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ ، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه . إن حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطَّيِّب من الكسب ، والنزيه من العمل ، ليأكل حلالاً وينفق في حلال . وإن العجب كل العجب ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض ، ولا يحتمي من الحرام مخافة النار .

عباد الله : إن أكل الحرام يُعمي البصيرة ، ويُضعف الدِّين ، ويقسِّي القلب ، ويُقعد الجوارح عن الطاعات ، ويحجب الدعاء ، أرأيتم الرجل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : ( يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ، يا رب يا رب ، ومطعمه حرامٌ ، وملبسه حرامٌ ، وغُذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ) . أخرجه مسلم .

هَذَا ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين ، وعن التَّابِعين ، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين ، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك  وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين حكاماً ومحكومين ، اللهم وفق ولاة أمرنا لما يرضيك ومدهم بعونك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك وحماة لشريعتك ، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة ، وأرهم الحق حقا وارزقهم اتباعه ، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وجماعتنا بسوء فأشغله بنفسه ورُدّ كيده في نحره وافضح أمره يا قوي يا عزيز ، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين ، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان ، اللهم ارفع البلاء عنهم ، اللهم احقن دماءهم ، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين ، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 27/1/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1722195704_أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا.docx

المشاهدات 779 | التعليقات 0