أربح البضاعة في المداومة على الطاعة ( مختصرة ومناسبة )

محمد بن سليمان المهوس
1444/10/06 - 2023/04/26 07:48AM

الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لإِنِ انْقَضَى شَهْرُ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ فِي عِبَادَةٍ دَائِمَةٍ طَالَمَا أَنَّهُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ؛ فَقَدْ خَلَقَهُ اللهُ وَأَوْجَدَهُ لأَجْلِ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَمَوْلَاه، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات: 56]، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لاَ تَنْتَهِي إِلاَّ بِمَوْتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [سورة الحجر: 99]، فَهَذِهِ وَظِيفَتُنَا الَّتِي خَلَقَنَا اللهُ لأَجْلِهَا، فَالْعِبَادَةُ لَدَى الْمُؤْمِنِ لَيْسَتْ مَوْسِمًا يَنْقَطِعُ، وَلاَ مُنَاسَبَةً وَتَنْتَهِي، وَلَكِنَّهُ عُمْرٌ تَسْتَمِرُّ فِيهِ الْعِبَادَةُ مُدَاوَمَةً وَاسْتِقَامَةً وَثَبَاتًا. 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَأَمَّلُوا هَذِهِ الآيَةَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [يونس: 57].

فِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَشَائِرُ عَظِيمَةٌ، وَمِنَحٌ كَرِيمَةٌ يُخْبِرُ بِهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ لأَوْلِيَائِهِ، لِمَنِ اسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ، واسْتَقَامَتْ جَوَارِحُهُمْ كُلُّهَا لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى إِخْلاَصًا وَانْقِيَادًا وَتَسْلِيمًا؛ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ مِنْ رَبَّهِمْ أَنْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ عِنْدَ مَوْتِهِمْ مُبَشِّرِينَ لَهُمْ قَائِلِينَ: ﴿لاَ تَخَافُوا﴾ أَيْ: لاَ تَخَافُوا مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ؛ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَهَوْلِ الْقِيَامَةِ، وَعُبُورِ الصِّرَاطِ وَغَيْرِهِ، ﴿وَلاَ تَحْزنُوا﴾ عَلَى مَا خَلَّفْتُمُوهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ، وَمَالٍ أَوْ دِينٍ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ حَقَّقُوا الاِسْتِقَامَةَ بِلُزُومِ هَدْيِ اللهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَوَامِرِهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ نَوَاهِيهِ جَلَّ وَعَلاَ، وَالثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ حَتَّى الْمَوْتِ، فَنَالُوا السَّعَادَةَ وَالْفَلاَحَ وَالرِّفْعَةَ وَالنَّجَاحَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْكَرَمِ: أَنْ تُبَشِّرَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ بِجَنَّةٍ لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْ أَوْصَافِ وَأَصْنَافِ النَّعِيمِ الَّذِي أَعَدَّ اللهُ فِيهَا لَهُمْ: ﴿أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾؛ تُبَشِّرُهُمْ بِذَهَابِ الشَّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ؛ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى رَبٍّ كَرِيمٍ، غَفُورٍ رَحِيمٍ، وَعَدَهُمْ وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72].

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَجَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الاِسْتِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا؛ فَمَنْ جَاهَدَ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ، وَصَبَرَ عَلَى الْفِتَنِ وَالأَذَى فِي سَبِيلِ الرَّحْمَنِ، سَيَهْدِيهِ اللهُ سُبُلَ الْخَيْرِ، وَيُثَبِّتُهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وَهَذِهِ الْمُجَاهَدَةُ تَقْتَضِي الاِسْتِمْرَارَ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَعَدَمَ الاِغْتِرَارِ فِيهَا وَالْعُجْبِ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [سورة المدثر:6 - 7] نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمِيعِ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ، وَأَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ أَعْوامًا عَدِيدَةً، وَأَزْمِنَةً مَدِيدَةٍ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمُوَفَّقَ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ يَتَلَبَّسُ دَائِمًا بِعِبَادَةِ الشُّكْرِ للهِ بَعْدَ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185]، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِصْيَانَ بَعْدَ الطَّاعَةِ لَيْسَ مِنَ الشُّكْرِ لِلْمُوَفِّقِ لِلطَّاعَةِ جَلَّ وَعَلاَ، بَلْ حَقِيقَةُ الشُّكْرِ: أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ طَاعَةً للهِ مُحَقِّقًا بِطَاعَتِهِ للهِ شُكْرَ اللهِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ: 13].

وَهَاهُنَا مَثلٌ عَظِيمٌ يَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ؛ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُحْسِنُ الْغَزْلَ وَتُتْقِنُهُ، فَأَخَذَتْ شَهْرًا كَامِلاً تُبْرِمُ غَزْلَهَا وَتُحْكِمُهُ وَتُتْقِنُهُ، فَلَمَّا أَكْمَلَتْ شَهْرًا نَصَبًا وَتَعَبًا وَجِدًّا عَادَتْ إِلَى غَزْلِهَا تَنْقُضُهُ بَعْدَ إِحْكَامِهِ كَيْفَ يَقُولُ الْقَائِلُونَ عَنْهَا؟! وَمَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ عَنْ حَالِهَا؟! فَإِنَّهَا حَالٌ بَئِيسَةٌ مُفَارِقَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَبِّهًا لِهَذَا الأَمْرِ عِبَادَهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل:92]. فَإِذَا وُفِّقَ الْعَبْدُ لِطَاعَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ، وَأَقْبَلَتْ نَفْسُهُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَمَرَّنَتْ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَرَاضَتْ لِلطَّاعَةِ، وَلاَنَتْ بَعْدَ انْفِلاَتِهَا؛ لاَ يَلِيقُ بِحَالِ عَبْدٍ وَفَّقَهُ اللهُ لِذَلِكَ أَنْ يَنْقُضَ هَذَا الْمُحْكَمَ الْمُبْرَمَ، وَأَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى حَالَةٍ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهَا لاَ تُرْضِي رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَاشْكُرُوه عَلَى تَمَامِ فَرْضِكُمْ، وَلَازِمُوُا العَمَلَ الصَّالِحَ دَهْرَكُمْ. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].

المرفقات

1682493409_أربح البضاعة في المداومة على الطاعة.doc

المشاهدات 1867 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا