آفات العقل
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: بالعقلِ والرأي وحُسن التدبير.. يرسُمُ المرءُ طريقَه، ويبني حياتَه، ويحفظُ حقوقَه، ويعمرُ أوقاتَه. بالعقلِ يدرِك المرءُ بُغْيَتَه، ويُثْبِتُ حُجَّتَه، ويُصْيبُ سَبْيلَهُ، ويقضيَ حاجتَه، وعلى قدرِ عقلِ المرءِ يَصلُحُ هَدْيُه. وعقلُ المرءِ عنوانُ الرشادِ. العقلُ ميزانٌ قويمٌ.. إن سَلِمَ من الآفات والعاهات وقبيحِ المؤثرات، يُرفَعُ المرءُ برجاحةِ العقلِ، و بطيشِ العقلِ يُخفَضُ .
بسلامَةِ العقلِ.. يؤمرُ المرءُ بالتكاليف، ويخاطبُ بالتشريعات، ويؤاخذُ بالعثرات، ويجزى بالحسنات. بسلامَةِ العقلِ.. يُقبلُ من المرءِ بيعُه وشراءُه، وقبولُهُ وعطاؤُه، ويؤاخذُ بأفعالِه وتصرفاتِه، فإذا ما غاب العقلُ سقطت عن العبدِ التكاليف، وإذا ما غشيَ العقلَ من المؤثرات غاشيةٌ.. تخلخلت فيه التصرفات، وتعثرت لديه الخطوات، وكثرت منه السقطات. وبالعقلِ يتمايز الرجالُ ويتفاضلون.. فأناقةُ الجسمِ، ونظارةُ الوجه، وحُسْنُ الهيئةِ. مظاهرُ براقة، يكشفُ حقيقتَها العقلُ، فإن صَحَّ العقلُ كَمُلَ لصاحبِها بهاؤُه، وإن كان في العقلِ عِلَّةٌ تلاشى منه الحُسنُ والبهاء.
العقلُ حُلَّةُ فَخْرٍ مَنْ تَسَرْبَلَها ** كانتْ لَهُ نَسَباً تُغْنِى عَنِ النَّسَبِ
يَزِيْنُ الفَتَى في النــاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ ** وإنْ كانَ مَحْظُوْرَاً عَلَيْـهِ مَكَاسِـُبـه
يَشِيْنُ الفَتَى في النــــاسِ قِلَّةُ عَقْلِـِه ** وإنْ كَرُمَتْ أعـــــراقُــــهُ ومَنَاسِبُه
يعيشُ الفتى في الناسِ بالعقـلِ إنه ** على العقلِ يَجْـرِيْ عِلْمُهُ وَتَجَارُبُــه
وأفضلُ قَسْــــمِ اللهِ للمـرءِ عَقْـلُـهُ ** فَـلَـيْـسَ مِـنَ الأشـيـاءِ شَـيءٌ يُقارِبُه
إذا أكْمَلَ الـرحـمـــــنُ للمرءِ عَـقْـلُــهُ ** فـقـد كـَمْـلَـتْ أخْـلاقُـــهُ ومَــآرِبـُـــه
كَرَّمَ اللهُ الإنسانَ وفَضَّلَهُ على كثيرٍ ممن خَلَق {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ومِنْ أعظَمِ ما كَرَّمَ الله به الإنسانَ.. عقلٌ يدركُ به طريقَ نجاتِه، ويسعى فيه لتحقيق غاياتِه ورغباتِه، ويُمَيِّزُ فيه ما يضرُّ وينفعُ.
وإن حمايَةَ العقلِ وصيانَتَه مِن الآفاتِ والمُلَوِّثات.. لهو من آكد الضروراتِ التي جاءت بها الشريعةُ وأثبتتها. فَمَن غابَ عقلُه عن الوعيِ والإدراك، أحاطت به المخاطِرُ، وحَفَّت به المكروهات. مَن غابَ عقلُه عن الوعي والإدراك.. لَم يأتِ بالعباداتِ التي فرضها الله عليه، ولم ينكفَّ عن المنهياتِ التي حرمها الله عليه. وَمَنْ انتكسَ عقلُه وانْقَلَب، وتَخَبَّطَ واضطرب، تَسَلَّطَ على كُلِّ بريء، واعتدى على كُلِّ غافِلٍ، وأساءَ وتجاوزَ وظَلَم.
وحينَ تكونُ نوباتُ زوالِ العقلِ بسببٍ خارجٍ عن إرادةِ المرءِ، فإن ذاكَ من الأمراضِ التي يبتلي اللهُ بها مَنْ شاءَ مِن عبادِه، فلا لومَ عليهم فيها ولاعار، ولا شماتةَ تَلْحَقُهُم ولا شَنار. يُضَاعِفُ الثوابَ لمن ابْتُلِيَ فصَبَرَ واحتَسَب، قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ، قال لِي ابْنُ عبّاسٍ t : ألا أُرِيك امْرأةً مِنْ أهْلِ الجنّةِ؟ قُلْتُ: بلى، قال: هذِهِ الْمرْأةُ السّوْداءُ، أتتْ النّبِيّ r قالتْ: إِنِّي أُصْرعُ، وإِنِّي أتكشّفُ، فادْعُ اللّه لِي. قال: (إِنْ شِئْتِ صبرْتِ ولكِ الْجنّةُ، وإِنْ شِئْتِ دعوْتُ اللّه أنْ يُعافِيكِ) فقالتْ: أصْبِرُ، فقالتْ: إِنِّي أتكشّفُ، فادْعُ اللّه لِي أنْ لا أتكشّف، فدعا لها. متفق عليه
تُصابُ بِصَرَعٍ يَزُولُ معهُ عقلُها. فتسقُطُ أمامَ الناسِ وتتكشفُ، ولأنها مؤمنةٌ صالحةٌ.. فإن ألَمَها باِنْكِشافِها أمام الناسِ، أقسى على قلبها من وَقْعِ الصَّرعِ وزوال العقل.
فما بالُ نساءٍ مسلماتٍ أتَمَّ الله لَهُنَ عقولَهُن.. يَتَعَمَّدْنَ كَشفَ عوراتِهن وإبرازَ مفاتِنِهنَ في المحافِل والمناسباتِ غيرَ مكترثات، إعجابٌ بالكافراتِ، وسيرٌ على خطى الفاجرات. وَمَنْ رأى متاجِرَ ملابِسِ النساءِ أدركَ خطورةَ التغريب الذي يجتاحُ مجتمعات المسلمين، حمى اللهُ دينَ نسائنا وعقولِهن من كل فتنة.
عباد الله: وحينَ تكونُ نوباتُ زوالِ العقلِ.. بسببٍ يَتَقَصَّدُهُ الإنسانُ ويسعى إليه، فإنه قد اقترفَ بذلك ذنباً عظيماً، وجُرْمَا كبيراً وكبيرةً. يُحاسِبُه الله عليه، وعلى كُل عمل يقترفُه وقتَ زوالَ عقلِه. عَنِ عبداللهِ بنِ عُمَرَ t ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ) رواه مسلم
وما دُمِّرَت عقولُ كثيرٍ من شباب المسلمينَ. بمثل المخدرات التي أُشِيْعَت في بعضِ مجامِعِهم، غُزِيَت بها عقولُ الشبابِ لتُقصى وتُدَمّر.. وَكُمْ حَلَّت ببعضِ الأُسَرِ مِن ويلاتٍ بسبب فسادِ عقولِ بعضِ أبنائها. مؤامراتٌ للأعداءِ لا نهايةَ لها، وكيدٌ الشيطانِ لا حدودَ له {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}
بارك الله لي ولكم..
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين. أما بعد: فاتقوا الله لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: وأكملُ الناسِ وأرشدُهُم، وأهداهم وأبصَرُهُم.. من حفِظَ عقلَه وصانَه، وارتقى به إلى الفضائلِ وزانَه. يُنَمِّيْ عقلَه ويَصْنَعُ من عقول الجيلِ عقول.
يُقابِلُ مؤامراتِ الأعداءِ على عقول النشءِ.. بتشييدِ حصونِ مَناعةٍ وقلاع وِقَايَة، يُبَصِّرُ في الشبابِ ويُذَكِّر، ويُبَيِّنُ لهم ويُحَذِر. ويهيئُ لهم محاضِنَ صالحةً يعيشون في أكنافِها مُغْتَبِطِيْن، يحفظونَ بها وقتاً، ويَكْسِبُونَ بها تربيةً وعلماً وسمتاً، وحِلَقُ تحفيظِ القرآنِ التي تُعْمَرُ بها بُيُوتُ اللهِ.. هي أقوى وقايةٍ، وأمتَنُ حمايةٍ، ترعى بها عقول الشباب وتحفظ، وهي عونٌ لكُلِّ وليٍّ يطلُبُ لأولادِه صلاحاً ورِفْعَةً وهدايةً ونجاحا.
عَلِّموا أولادكم القرآن.. والقرآنُ يُعلِّمُهم أسبابَ فلاحِهم.
عباد الله: مَنْ أرادَ لِعَقْلِهِ أن يبقى راقياً، فعليه أن يكونَ على الفضائلِ باقياً.. يَتَزَعْزَعُ ميزانُ العقلِ حين تجتاحُه بعضُ المؤثرات.. فَسَوْرَةُ الغَضَبِ تَكسِرُ حصونَ العقلِ، وكَمّ من غَضْبَةٍ غَلَبَتْ عقلاً فأورثت ندامةُ وذُلاً.
* وطغيانُ الشهوةِ يُضْعِفُ بصيرةَ العقلِ وربما يُفسِدُ العقلَ ويُعْمِيه. وقَفَ قومُ لوطٍ يُراوِدونَ لوطاً على أضيافه.. ولوطٌ عليه السلام يَعِظُهُمْ ويُنهاهم، ولكنَّ أصحابِ الشهواتِ لهم عقولٌ بالشهواتِ سكرى فهم لا يعقلون، قال الله عنهم {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
* وتوالي الشُّبْهاتِ على العقلِ والقلبِ لها أثرٌ.. كأثرِ ريحٍ عاصفٍ حَلَّت بأرضِ.
* والفَرَحُ إن يتجاوز به المرءُ حَدَّه.. يَطْغَى على العَقْلِ فلا يُبْقِي لَه في الأمرِ قياد.
ما أجملَ العقلَ يبقى قائماً ولَه ** مِنْ مَنْهَجِ الوحيِ نورٌ يستضيءُ به
لا تُسْلِمِ العقلَ وترضى بالهوى ** إن الهوى يُهْوِيْ إلى النكباتِ
فانظر بعقلِك إن العينَ كاذبةٌ ** واسمع بقلبك إن السمع خوانُّ
اللهم احفظ علينا ديننا..
المرفقات
1614544886_آفات العقل 10ــ5ــ1442هـ.doc