عناصر الخطبة
1/ الحسد صفة ذميمة وخُلق خسيس 2/ معنى الحسد ودوافعه 3/ مضار الحسد والغل والحقد 4/ كيفية علاج داء الحسداقتباس
الحاسد محزون، الحاسد يعيش -والله- وعلى قلبه أكوام من الأحزان والأتراح، ولا يعلم بذاك القلب إلا الله تبارك وتعالى، لا ينام الليل كما تنامون، ولا يهدأ له بال ولا قرار إلا أن تزول عنك النعمة، إذا خُرِب بيتك، وإذا حلَّت بك مصيبة، أو إذا أغلقت باب بقالتك أو دكانك يرتاح، ويهدأ باله ويستقر قراره، ألا لا بارك الله في كل حاسد يتمنى زوال النعمة عن أخيه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اعلموا أن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وأن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين..، فلنتق الله - عز وجل - جميعنا حق التقوى، ولنعلم -يا عباد الله- أن أجسادنا النحيلة الضعيفة على نار الله جل جلاله لا تقوى، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5].
عما تظنون أني سأحدثكم أيها المباركون؟! عن داء عضال، عن مرض قتّال لا ينفع معه كيماوي السرطان، إنه مرض -يا عباد الله- خبيث، وصفة -يا عباد الله- ذميمة قذرة لا يرضاها الله تبارك وتعالى ولا يحبها؛ لأنه تبارك وتعالى أمرنا أن نتركها، وأمرنا ألا نتحلى بها تبارك وتعالى.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال فيها الأحاديث الكثيرة، وحذر صلى الله عليه وسلم منها؛ لأنها لا تليق بالمؤمنين، ولا تكون في صدور المخبتين الذين يحبهم، ويحبون الله رب العالمين.
إنه الغل والحقد والحسد صفة -يا عباد الله- ذميمة، وأخلاق -يا عباد الله- خسيسة، لا تليق بمن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، لا يليق به أن يتصف بمثل هذه الأخلاق السيئة.
لله در الحسد ما أعدله *** بدأ بصاحبه ثم قتله
اصبر على كيد الحسود*** فإن صبرك قاتله
النار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
لا إله إلا الله، إن مَنَّ الله عز وجل على بعض العباد بنعمةٍ: سيارة، عمارة، مال وأرصدة ينظرون إليه بعينين، ويأخذون يتكلمون فيه؛ ماله حرام، وسيارته حرام، وهذا الرزق الذي رزقه إياه حرام، ويتمنى زوال النعمة عن غيره، والإقبال بتلك النعمة إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ما هو الحسد؟ ولماذا الحسد يا عباد الله؟!
الحسد معناه أن الإنسان لا يرضى بما كتب الله عز وجل له، ولا يرضى بما ذهب لغيره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الحسد تمني زوال النعمة.. وهل يرضى مؤمن مسلم بزوال النعمة عن أخيه؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن أظهر الله عز وجل عليك نعمة يلحقونك ويتبعونك -والعياذ بالله- بأبصارهم ويدعون الله -لعلهم سُجدًا رُكعًا- بأن يزيل الله تبارك وتعالى نعمتك، لا إله إلا الله.
حتى الأئمة والخطباء والعلماء لم يسلموا يا عباد الله من الحسد والحاسدين، إن لم يستطع أن يشوّه سمعتك بين الناس؛ قذفك -والعياذ بالله- بما لا تستحق وبما لا يرضي رب الناس.
يا مَنَّ الله - عز وجل - عليك بالنعم، وتابعك الناس بأعينهم، وسلقوك بألسنتهم، ما عليك إلا الصبر والاحتساب؛ لأن الحاسد –والله- لا يريد إلا أن تزول تلك النعمة عنك وتعود إليه، واسأل الله أن يهدي الحاسدين، وأن يرزقهم التوبة إلى رب العالمين.
إنه داء الأمم من قبلنا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سماه بأبي وأمي داء كما قلت لكم: داء قتال لا ينفع معه كيماوي السرطان.
يقول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في معرض التحذير لا في معرض التبشير "دبَّ إليكم داء الأمم من قبل"، إنه الغل والحقد والحسد والبغضاء، ولو لم يكن من داء الأمم إلا هذه الصفة الإبليسية لكفى؛ فإن أول من حقد وحسد وأظهر الضغينة على آدم عليه السلام بعدما مَنَّ الله عز وجل عليه، هو إبليس، فقال: (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 61-62] إلى آخر الآيات..
ويقول: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82]، ما الذي دفع إبليس اللعين، إنه الحقد والغل والحسد على آدم وعلى ذريته.
اصبر على كيد الحسود*** فإن صبرك قاتله
النار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
الحقد والغل والحسد أسوأ المناقب يا عباد الله، أخرجت إبليس من الجنة إلى الأرض، والحقد والغل والحسد هو سبب أول جريمة قتل وُجدت على وجه الأرض حين جاء ابن آدم يتوعد أخاه بالقتل، يقول له: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [المائدة:28]. فوق هذا كله لم ينزجر ولم يندحر ولم يتحرك قلبه رحمة وشفقة بأخيه، وإنما امتلأ قلبه حقدًا وغلاً وحسدًا فقتل أخاه، وكان من الخاسرين، لم يرحمه وانكب على أخيه وقتله، وكان دافع ذلك كله الحسد.
اصبر على كيد الحسود*** فإن صبرك قاتله
النار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
إن الحقد والغل والحسد أمراض للقلوب، ولا يمكن أن يجتمعوا في قلب يحتوي على الإيمان؛ لأن بينهما تضادًا وتنافرًا؛ فالقلب المفعم بالإيمان طارد للغل طارد للحسد، مصداقًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن: الإيمان والحسد" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب 2/ 43.
لا نجاة يوم القيامة من النار ومن العار والشنار إلا بسلامة الصدر من الغل والحقد والحسد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار" والعياذ بالله، ولهذا كان من دعاء الصالحين: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا) [الحشر: 10].
كان علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- لما حصلت الفتنة بين الصحابة يقول لطلحة بعد أن مات أبوه يقول له يا طلحة أرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله فيهم ربنا: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].
أعطيت كل الناس من نفسي الرضا *** إلا الحسود فإنه أعياني
ما إنَّ لي ذنباً إليه علمته *** إلا تظاهر نعمة الرحمن
يطوي على حنق حشاه إذا رأى *** عندي كمال غنى وفضل بيان
وأبى، فما يرضيه إلا ذلتي *** وذهاب أموالي وقطع لساني
الحاسد يتمنى أن الله يميتك، يتمنى لو أن الله يقتلك، والله وقفت على أناس يتمنى أن تدوسه قاطرة ولا يبالي، قلت له: اتق الله ما الذي صنع؟ قال: وهبه الله وما وهبني، أعطاه وما أعطاني!! اتق الله تحاجّ الله في شيء أعطاه وما أعطاك، وينظر بعينه إليَّ يكاد يقتلني، قلت أعوذ بالله من شر الحاسد ومن شر الحاسدين، قلت: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [سورة الفلق: 1- 5].
لا إله إلا الله.. الحسد يحمل صاحبه على أن يتتبع عورات المؤمنين، فالحسد كالذباب لا يقع إلا على الجروح والآهات، ولا يقع إلا على القاذورات.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رَحْله"، سيسمّع بك الله - تبارك وتعالى -.
املأ قلبك رضًا وحبًّا، وإياك أن تملئه حقدًا وحسدًا.. شخص فتح مكتبًا أصبح الناس ما شاء الله عليه كالذباب كثرةً يدخلون ويأتون، يأتي إليه أحدهم فيقول: واااام ما هذا كأنه مستوصف! وآخر يقول كأنه مستشفى!.. أعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد، ما الذي يعنيك؟! وما الذي يحرق قلبك؟! وما الذي يطفئ وهج عينك؟!، إنه الحسد.
ألا اتق الله في قلبك ولا تملئه إلا حبًّا ورضًا، ولا تملئه على المسلمين حقدًا وغيظًا وحسدًا؛ لأن الله سيبتليك ولا تموت إلا بحسدك.
اصبر على كيد الحسود*** فإن صبرك قاتله
النار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
من عدل الله أن سحر الحاسد ينقلب على صاحبه، فعندما ألقى موسى العصا بطل السحر والساحر، نعم ينقلب على صاحبه فيكون سبّة عليه ومغبة عليه في الدنيا قبل الآخرة.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طُويت *** أتاح لها لسان حســــــود
لولا اشتعال النار فيما جـاورت *** ما كان يُعرف طيب عرف العود
أعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "واسلل سخيمة قلبي"، وأفضل الناس في الدنيا هم أهل سلامة الصدر، وما أجمل قوله صلى الله عليه وسلم لما سُئل: أي الناس أفضل؟ فقال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" أخرجه مسلم في الإيمان (54).
مخموم القلب هو الذي كنس قلبه عن كل حقد وغل وحسد..
لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت قلبي من همّ العداوات
إني أحيي عدوي حين رؤيته *** لأدفع الشر عني بالتحيات
وفي الذكر الحكيم يقول ذو العز القدير الكريم (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) [الأنعام: 120]، أتدون ما باطن الإثم؟ إنه "سوء الطوية، وفساد الصدر، ومرض القلب"، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الحاسد محزون، الحاسد يعيش -والله- وعلى قلبه أكوام من الأحزان والأتراح، ولا يعلم بذاك القلب إلا الله تبارك وتعالى، لا ينام الليل كما تنامون، ولا يهدأ له بال ولا قرار إلا أن تزول عنك النعمة، إذا خُرِب بيتك، وإذا حلت بك مصيبة، أو إذا أغلقت باب بقالتك أو دكانك يرتاح، ويهدأ باله ويستقر قراره، ألا لا بارك الله في كل حاسد يتمنى زوال النعمة عن أخيه.
ولذا جاء التوجيه النبوي عنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَحَاسَدوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابروا، وَكونوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانا"، فهل يسمع هذا مؤمن قلبه صالح نظيف، يسمع هذا الكلام ويحمل بغضًا وغلاً وحقدًا وحسدًا على أخيه؟! معناه أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما عجبه ولم يدخل قلبه، أما كلام النبي عندي فملء سمعي وملء بصري حتى وإن تبادر الحسد إلى قلبي لن أظهره ولا أزال أغسله وأتعاهده بتقوى الله وبغسل التقى والإحسان حتى يصفو من كل غل وحسد وحقد، وألقى الله سليمًا من كل حقد وبغضاء وحسد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له" رواه مسلم.
يا الله!! لا نحتاج إلى دورات، ولا نحتاج إلى سفريات، ولا نحتاج إلى كورسات، والله إن القرآن والسنة يا عباد الله مليئان بمثل هذه الأخبار، وكل شيء يحصل في دنيانا أخبرنا الله جل وعلا عنه في القرآن، أليس هو القائل: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38]، فما يحتاج إلى عمليات وما يحتاج إلى دراسات ولا إلى دورات، كتاب الله يا عباد الله أعظم شيء، اقرأ كتاب الله، وأعظم علاج لذهاب وطرد الحسد قراءة كتاب الله عز وجل والمداومة عليه.
أيها العبد، أيتها الأمَة، صفوا قلوبكم تُغفرْ ذنوبكم وتُرفع أعمالكم، يقول المطيبة الأفواه بذكره صلوا عليه وسلموا تسليمًا: « تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: اترْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا اترْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» رواه مسلم.
فأين أنت من هذا يا من تريد أن يغفر ذنبك ويستر عيبك وترفع درجتك؟!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا" أي أخّروا عرض عمليهما، ولا يرفع عمل المتشاحنين المتحاسدين المتباغضين، يقول الله: أخروا عمل هذين حتى يصطلحا.
لقد كان عليه الصلاة والسلام يسد -يا عباد الله- منافذ الشيطان، ولا يسمح لأحد أن يُغِلّ صدره بشيء عن إخوانه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" رواه أبو داود والترمذي.
لا حول ولا قوة إلا بالله، ابن مسعود يسمع كلامًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي ابن مسعود يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قيل فيه، نظر النبي إلى ابن مسعود احمر وجه الذي هو فلقة قمر صلى الله عليه وسلم، واحمرت عيناه لما سمع، وقال لابن مسعود: "لِمَ توغر صدري على إخواني" حتى قال ابن مسعود "يا ليتني لم أخبره صلى الله عليه وسلم".
الأصل في الإنسان حسن الظن بالآخرين، وسلامة الصدر من أكبر وأعظم الحسنات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا".
اللهم أصلح صدري وصدوركم وصفّي صدري وصدوركم من كل حسد وحقد، إنك على كل شيء قدير، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب عظيم فاستغفروه، فيا طوبى للمستغفرين..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إنعامه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأصلي وأسلم على حبيب قلبي وتاج رأسي نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
لله در الحسد ما أعدله*** بدأ بصاحبه ثم قتله
انظروا إلى إمام أهل السنة والجماعة إلى أحمد بن حنبل؛ ضُرب وشُتم وسُجن وأُوذي رحمة الله عليه، وقيل له مرة: تكلم فيمن ضربك وشتمك. قال: "لا ولله لا أوغر صدري على أحد"، وقال لمن ضربه وشتمه يقول: "قولوا للمعتصم وأخبروا أبا إسحاق أني عفوت عنه لأني رأيت الله يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، ثم قال: "ما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم بسببك في النار".
تصفية الصدور أكبر الحسنات، ومفتاح تُفتح به أبواب الجنات، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه سيطلع عليهم رجل من هذا الباب هو من أهل الجنة، جن جنون الصحابة وأخذوا يترقبون، فإذا برجل يحمل نعليه تحت إبطيه ولحيته تنطف بالماء وهو من أغبار الناس ليس من أكابر الصحابة ليس أبا بكر وليس عمر، وليس هو بعثمان وما هو بعلي، فلما رآه رجل من الصحابة أكل ذلك في قلبه أكلاً ما هذا؟ ومن هذا؟ وما هي الأعمال التي يصنعها هذا؟ لكي ينال جنان الرحمن بتبشير المصطفى محمد عليه الصلاة وأتم السلام.
ثم ذهب إلى بيته بحجة السكنى والجلوس معه، ثم قال: "هل تستضيفني عندك ثلاث ليال"، فرحب به هذا المبشَّر بالجنان، يقول: رأيته لا يقوم الليل ولا يصوم النهار، وما عنده أعمال؛ تلك الأعمال المقربة، فقلت له: والله ما دخلت بيتك إلا لأمر ولحيلة لأراك ماذا تفعل، وأريد أن أسألك لِمَ بشرك النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ قال: والله ما عندي مزيد عمل غير أني لا أبيت وفي صدري شيء على مسلم.
هذه الجنة تُعرَض عليكم يا عباد الله غنيمة باردة، لكن بشرط أن تنام ولا تحمل في قلبك غلاً ولا حقدًا ولا شيئًا على مسلم.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى ، قال : "إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة" رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث صحيح، وللترمذي: "لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".
فالذين يوغرون صدور الناس على الناس هؤلاء أتوا بالحالقة ولا حول ولا قوة إلا بالله، إن معيار الأفضلية يا عباد الله عندهم لم تكن بكثرة الصيام ولا القيام، وإنما بسلامة الصدر كما سيأتي.
ها هو إياس بن معاوية رحمه الله لما حضرته الوفاة كان يقول: "أفضلهم عندهم أسلمهم صدرًا وأقلهم غيبة".
أبو دجانة- قلت يا عباد الله لا بد أن أذكرها على مسامع من أحب، وأنتم يا عباد الله من أحب- أعطى النبي صلى الله عليه وسلم سيفه لرجل اسمه أبو دجانة، أعطاه النبي سيفه يوم أُحد ليضرب به هامات المشركين، وهو الذي يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي *** ونحن بالسفـح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول *** أضرب بسيف الله والرسول
لما حضرته الوفاة لم يتذكر أنه قاتل في أُحد، وأهل أحد لهم من الفضائل ما الله به عليم، لما حضرته الوفاء لم يتذكر أنه قاتل في أحد، ولا أنه صاحب العصابة الحمراء، ولا أنه أخذ سيف الرسول عليه الصلاة والسلام.
إنما تذكر يوم نزول المنية والأجل شيئًا آخر قال زيد بن أسلم : دخلت على أبي دجانة رضي الله تعالى عنه وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟، فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى: كان قلبي للمسلمين سليماً.
يا من أردت أن تسكن جنان الرحمن، وأن تكون في جوار الرب ذي العز والاقتدار وتريد أن تكون ممن قال الله فيهم (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ) والله وبالله وتالله لن ندخل الجنة يا عباد الله إلا إذا لقينا الله بقلب سليم خالٍ من الشرك والبدع، ولا نحب إلا الله، ولا نتقرب إلا إليه، وبعد ذلك لا نملأ قلوبنا إلا حبًّا وودًا لأحبابنا، أقسم بمن رفع السماء بلا عمد وبسط الماء على أرض جمد، إن الحقد يا عباد الله مميت وأن صاحبه يموت بحقده ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الحقد ليس له علاج وليس له -يا عباد الله- دواء إلا أن يعالج الحاسد نفسه، وقبل ذلك يصفي قلبه من كل حقد، ويسأل ربه أن يملأ قلبه بالإيمان، وأن ينزل منه الحقد والحسد والغل، فلا يجتمع الحقد والحسد والغل في قلب عبد مؤمن.
اصبر على كيد الحسود*** فإن صبرك قاتله
النار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
اللهم سلم قلبي وقلوب الحاضرين، وأسعد فؤادي وفؤاد الآخرين..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم