عناصر الخطبة
1/ أسوأ أمراض العصر 2/ الغفلة نزيف العمر 3/ الغفلة نزيف العمر وإيدز الأرواح 4/ كم من حسرات في بطون المقابر؟! 5/ ولا تكن من الغافلين 6/ سبل التخلص من الغفلة.اقتباس
وإذا نظر كلٌ منا في حاله وجد نفسه غافلاً، فقد تمرُ عليه أوقات طويلة وربما ساعات لم يحرك فيها لسانه بذكر ربه وسيده ومولاه، وقد يجلس مجالس طويلة يتحدث في أمور كثيرة وفنون متعددة. وانشغل الناس وغفلوا، ولو سألت أحدهم ما معنى اسم الله (الصمد) في السورة التي يصلي بها، أو سألته عن معنى (وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب) [الفلق: 3]؟ قد لا يعرف. لماذا؟ إنها الغفلة التي تحيط بالإنسان، فقد يُضيّع الساعات أمام الشاشات وفي الأعمال، وقد يبحث عن الدراما وغيرها مما يزيده غفلة، وما أطول الرقاد في القبور...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: المرض حالة غير سوية تصيب الإنسان فتؤثر فيه بضعفٍ في قواه أو إقعادٍ عن السعي، أو قد تؤدي به إلى الغياب القسري والرحيل عن الدنيا.
وإذا خسر الإنسان عمره فقد خسر رأس ماله كله، وضاع منه أغلى ما يملك، إذ الأيام مطايا للأعمال، والدقائق والثواني مراحل يطويها ابن آدم أو تُطوى منه دون إدراك أو تمييز.
وإن من أسوأ أمراض العصر، لا في الأبدان وإنما في القلوب والأرواح: مرض الغفلة، والغفلة تعني: أن يضيع من الإنسان شيء كبير من وقته في ما لا طائل من ورائه ولا جدوى منه، فيظل في يومه وليله مضيعاً لأفضل ما يملك، من صحته وجهده ووقته في غير ما ينفعه، ولا يفيد أمته، ولا يعود عليه وعلى من حوله بالخير.
إن قلة التبصُر والاعتبار بما يقع من أحداث، وعدم تأثُر الإنسان بالآيات والعبر التي تجري من حوله، والركون إلى الدنيا والاطمئنان بها، والثقة بالنفس والاعتماد على الأسباب وحدها، كل ذلك من معاني الغفلة.
إن الغفلة عباد الله: تعمي القلب وتصم النفس وتعمي الروح عن التطلع في آيات الكون المقروءة والمنظورة، فتسكن اليبوسة في النفس، ويقل تطلع الروح للمثل الأعلى، وتضمحل في الأرواح الآمال العظيمة كـ: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84]، وعندها تسكن الشهواتُ النفوس وتكون هي غاية الأجساد، وأقصى آمال التراب المتحرك أن يملأ من الدنيا شهواتُها ورغباتُها، وآمالُها وأموالُها، ونسائها وأراضيها وقصورها، ولا تنقطع الآمال بابن آدم فلا يفيق إلا على معاينة صفحة وجه ملك الموت، وصدق ربنا سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيد) [ق: 22].
الغفلة نزيف العمر وإيدز الأرواح:
إذا كان المريض بمرض فقْد المناعة (الإيدز) يصير جسده بعد فترة من المرض مفتوحاً، تتكالب عليه الجراثيم، وتسكنه الفيروسات، وتبدو عليه التقرحات والأوبئة الظاهرة منها والباطنة، فكذا تصير روح الغافل بعد مرور مدة من الغفلة، لا يشعر بانتعاش الروح وسرور النفس ولذة القرب والمناجاة، يفرح للدنيا، ويحزن لها، ويعطي لها، ويوالي ويعادي عليها، وعندما تستحكم الغفلة يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، ولا يفرق بينهما إلا بما أُشرب من هواه.
لقد لجأ كثير من الناس في هذا الزمان إلى الحمية والوقاية من المهالك في الأبدان والأموال، وسلكوا كل سبيل يُنَجّي أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وغفل كثير منهم عن حمية الروح ووقاية النفس من أسباب الخسران، فولج كثير منهم أبواب الغي ثم لا يُقصرون، وأتوا بغرائب الذنوب وعجائب الآثام في شتى شؤون حياتهم، في أفراحهم وأحزانهم، وسائر أعمالهم وعلاقاتهم في الأعمال والبيوت وغيرها، وتأتيهم الموعظة من ربهم من كل مكان وكل حين: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، عَبرَ خطبة يسمعونها، أو حكمةٍ تُلقى إليهم، أو عبرةٍ من حادث، أو موت قريب أو صديق، ومع كبر عُمْر الإنسان يسمع كل فترة يسيرة عن موت فلان، وحادثةٍ لفلان، حتى يضرب الموت بأطنابه في بيته، فيصيب الموت زوجه أو أخاً أو ابناً له، حتى يشعر بفقد هذا القريب كأنه قد فقد بعضه، وسُلب شيئاً من جسده، ويبدأ في العظة والاعتبار، وينظر لنفسه.
ويا ليت هذا الأمر يدوم ويستمر، فلعله ينتفع بالموعظة ويصلح الله حاله وهو القائل سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم) [الرعد: 11]، وإنما هي أيام ويعود إلى سيرته الأُولى، وتلك هي الغفلة!.
وإذا نظر كلٌ منا في حاله وجد نفسه غافلاً، فقد تمرُ عليه أوقات طويلة وربما ساعات لم يحرك فيها لسانه بذكر ربه وسيده ومولاه، وقد يجلس مجالس طويلة يتحدث في أمور كثيرة وفنون متعددة.
وانشغل الناس وغفلوا، ولو سألت أحدهم ما معنى اسم الله (الصمد) في السورة التي يصلي بها، أو سألته عن معنى (وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب) [الفلق: 3]؟ قد لا يعرف. لماذا؟ إنها الغفلة التي تحيط بالإنسان، فقد يُضيّع الساعات أمام الشاشات وفي الأعمال، وقد يبحث عن الدراما وغيرها مما يزيده غفلة، وما أطول الرقاد في القبور.
أيها المسلمون: إن غفلة النفوس عن ربها وسيدها ومولاها ومن لا غنى لها عنه طرفة عين هو أسرع طرق الغبن والخسارة، والله –تعالى- حذّر عباده من الغفلة عن الذكر وعمل الخير النافع للعباد والبلاد في الدنيا والآخرة، فقال تبارك وتعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون) [الحشر: 19].
وأقبح النسيان نسيان الخالق المنعم المتفضل، الذي يتقلب العبد في خيره وأفضاله ونعمه ومننه كل طرفة عين، وهي التي لا يحصيها العباد عدّاً فضلاً عن أن يشكروها. وهي حالة عجيبة، ولكنها حقيقة. فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى.
قال الله تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِين) [الأعراف: 205]، لا تكن من الغافلين عن ذكر الله لا بالشفة واللسان، ولكن بالقلب والجنان، الذكر الذي يخفق به القلب، فلا يسلك صاحبه طريقاً يخجل أن يطّلع عليهِ الله فيه، ولا يتحرك حركة يخجل أن يراه الله عليها، ولا يأتي صغيرة أو كبيرة إلا وحساب الله فيها، فذلك هو الذكر الذي يرد به الأمر هنا، وإلا فما هو ذكر لله إذا كان لا يؤدي إلى الطاعة والعمل والسلوك والاتباع.
كم من حسرات في بطون المقابر؟!.
لقد حذّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الغفلة عن الواجبات الشرعية في أحاديث كثيرة، منها: حديث ابْن عباسٍ -رضي اللهُ عنْهُما- قال: قال النبيُ -صلى الله عليه وسلم-: "نعْمتان مغْبُونٌ فيهما كثيرٌ منْ الناس: الصحةُ والْفراغُ". (رواه البخاري).
ومن الغبن ألاّ يُقدّر الإنسان ما في يده ولا يعرف قيمته على الحقيقة، وقد ضُربت الغفلة على كثير من الخلق من هذين البابين، فقد ترى الإنسان في جانب الوقت: إما أنه فارغ عاطل، أو بلغ سن التقاعد يكاد الفراغ يقتله لا يجد ما يملؤه به من عمل نافع! وآخر يعمل معظم يومه وليله يكدّ كدّاً عجيباً!.
فالأول قد غُبن في وقته، والآخر غُبن أيضاً. وكذا في جانب الصحة، فقد ينعم الله على إنسان بالصحة والعافية والرجولة فيستغلها في معاصيه لا مراضيه فهو مغبون، والآخر لا يجد قوة ولا يستطيع سبيلاً فيشعر بالغبن والضعف النفسي والجسدي.
وعنْ أبي هُريْرة -رضي الله عنه- قال: قال رجُلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسُول الله! أيُ الصدقة أفْضلُ؟ قال: "أنْ تَصدّقَ وأنْت صحيحٌ حريصٌ، تأْمُلُ الْبقاء وتخْشى الْفقْر، ولا تُمْهِلْ حتى إذا بلغت الْحُلْقُوم قُلْت: لفُلانٍ كذا ولفُلانٍ كذا وقدْ كان لفُلانٍ". (رواه أبو داود في سننه بسند صحيح).
ومن الحديث أن يعمل المرء في صحته وعافيته ولا يُمهِل ولا يُهمِل حتى إذا نزل به الموت فكر في الصالحات، فيقول: أعطوا فلاناً كذا. وصدق ربنا إذ يحذّر من هذه الغفلة المطبقة فيقول: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) [المنافقون: 10-11]، يفيق من الغفلة عند الموت ويتمنى التزود من الصالحات ولكن هيهات هيهات بعد أن أطبقت الغفلة سنين عدداً يجيء طالباً العودة والأوبة ولا حرج على فضل الله، ولكن الموت ساعة مضروبة وآجال معدودة، وكم من حسرات في بطون المقابر!.
وفي مشهد رائع يوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجته أم حبيبة إلى شيء رائع في الدعاء، فقد قالتْ أُمُ حبيبة رضي الله عنها: "اللهُم متعْني بزوْجي رسُول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبأبي أبي سُفْيان، وبأخي مُعاوية. فقال لها رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنك سألْتِ الله لآجالٍ مضْرُوبةٍ وآثارٍ موْطُوءةٍ وأرْزاقٍ مقْسُومةٍ، لا يُعجّلُ شيْئاً منْها قبْل حلّه ولا يُؤخرُ منْها شيْئاً بعْد حلّه، ولوْ سألْتِ الله أنْ يُعافيك منْ عذابٍ في النار وعذابٍ في الْقبْر لكان خيْراً لك" (رواه مسلم).
وهذا توجيه رائع أن لا يغفل المرء في سائر أقواله وأعماله عما ينفعه، ولا يغفل في أشياء قد لا تفيده. فهذه أم حبيبة لما انشغلت بالدعاء في أمور مقطوعة مقسومة وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الانتباه إلى الأوْلى والأفضل في الأعمال.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: عن ابْن مسْعُودٍ رضي الله عنه قال: "ما كان بيْن إسْلامنا وبيْن أنْ عاتبنا اللهُ بهذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون) [الحديد: 16] إلا أرْبعُ سنين" (رواه مسلم).
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم، واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله، فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها، ونزل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور، وأراها من الآيات في الكون والخلق ما يبصر ويحذّر.
إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تَذكّر تبلد وقسا، وانطمستْ إشراقته، وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف، ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار. كذلك القلوب حين يشاء الله.
فينبغي للمرء العاقل أن ينتبه لنفسه وحواسه وجسده ولسانه لئلا يقع في الغفلة المهلكة حتى لا يندم يوم لا ينفع الندم ويقول: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 24].
ماذا تفعل في دقيقة من عمرك؟ صدق أحمد شوقي عندما قال:
دقاتُ قلب المرء قائلةٌ له: *** إن الحياة دقائقٌ وثواني
العمر لحظة والحياة دقيقة، ولو نظر العاقل في حياته فلن يجد إلا أمس واليوم وغداً، وأمس لو تعلق الإنسان بالجبال لن يعود أبداً، والغد غير مضمون، فليس لك من عمرك إلا الآن، ليس لك من رأس مالك إلا اللحظة التي تحياها، وهي دقيقة من العمر.
والإنسان يستطيع خلال دقيقة من عمره أن يحرّك فمه المطبق بذكر ربه، وفي خلال دقيقة من عمره يستطيع صلة رحمه بالهاتف، يستطيع في دقيقة صلاة ركعتي سنة، في دقيقة يستطيع الاستغفار ثلاثاً، في دقيقة يستطيع قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات، في دقيقة يستطيع الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر مرات فيصلي الله عليه مائة مرة، في دقيقة يستطيع أن يوصي أخاً له بالمعروف وينهاه عن المنكر، في دقيقة يستطيع معانقة ولده والمسح على رأسه وتقبيله، في دقيقة يستطيع الحنو على امرأته، في دقيقة يستطيع مصافحة أخيه وجاره والسلام عليه.
هناك كثير من الأعمال الصالحة لا تكلفك شيئاً، فلا يلزمك لها طهارة أو تعب أو بذل جهد، بل تقوم بها وأنت تسير على قدميك، أو راكب سيارتك، أو مستلقٍ على ظهرك، أو جالس تنتظر أحداً.
ولو أننا استطعنا بصدق أن نوظف ونفعل الحكمة التي نعلّقها في بيوتنا وأعمالنا وشوارعنا: "املأ أوقات الانتظار بالاستغفار"، لحولنا الأوقات الغافلة إلى أوقات حية نفعل فيها الخير ونغرس فيها النافع، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.
ولو رجعنا إلى ما حثت عليه النصوص الشرعية من الذكر، مما يسمى بعمل اليوم والليلة لوجدنا أن الالتزام بذلك يجعل المسلم لا يكاد ينفك عن تسبيح وتحميد وتهليل واستغفار وتضرع ودعاء، ما دام مستيقظاً.
إن الصلة بالله –تعالى- هي أساس كل عبادة، وإن أدب الوقت يقتضي من المربين والعلماء الناصحين التوجيه إلى إثراء حياة الشباب والناشئة بالأعمال الروحية وعلى رأسها الذكر حتى لا يقعوا في مصيدة النسيان واللهو والإعراض عن الله تعالى.
اللهم ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم