وكونوا مع الصادقين

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2024-10-11 - 1446/04/08 2024-10-31 - 1446/04/28
عناصر الخطبة
1/مكانة الصدق وأهميته 2/الصدق في حياة الأنبياء 3/من ثمرات الصدق وفوائده 4/نجاة كعب بن مالك بسبب صدقه

اقتباس

صِدْقُ العَبْدِ مَعَ اللهِ يَحِمِيْ العَبْدَ مِنْ نَزَغاتِ الزَّيْغِ ومِنْ ضَلالاتِ الهَوى، يَحْمِيْهِ مِنْ نَكْثِ العُهُودِ، ومِنْ إِخلافِ الوُعُودِ، يَحْمِيْهِ مِنْ قَوْلِ الفُحْشِ ومِنْ شَهادَةِ الزُّور، يَحْمِيْهِ مِنْ كَذِبٍ في القَوْلِ وكَذِبِ في الفِعْلِ وكَذِبٍ في المُعامَلاتِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أَيُّها المُسْلِمُون:

مَكارِمُ الفَضْلِ تِيْجانٌ وأَوْسِمَةٌ *** وتَاجُ عِزِّ الفَتَى يُهْدَى لِمَنْ صَدَقَا

 

الصِّدْقُ أَكْرَمُ مَرْكَبٍ، وأَشْرَفُ مَسْلَكٍ، وأَطْهَرُ مَلْبَسٍ، وأَهْدَى سَبِيْل، الصِّدْقُ مَقامُ كَرامَةٍ يَبْلُغُهُ كُلُّ تَقِيٍّ، ومُرْتَقَى شَرَفٍ يَرْتَقِيْهِ كُلُّ نَقِيٍّ، ومُعْتَلَى سُؤْدَدٍ يُدْرِكُهُ كُلُّ صَفِيّ، الصِّدْقُ صَدْرٌ لِكُلِّ كَرَامَة، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الصِّدْقِ صَدْرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الكَرامَةِ لَقَب، الصِّدْقُ إِمامٌ لِكُلِّ فَضِيْلَةٍ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الصِّدْقِ مَوطِئٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الشَّرَفِ نَسَب، الصِّدْقُ أَكْرَمُ ما تَخَلَّقَ بِهِ الفَتَى، وأَشْرَفُ ما تَجَمَّلَ بِهِ النَّجِيْب، وأَحْمَدُ ما مُدِحَ بِهِ الفَتَى، وأَزْكَى ما وُصِفَ بِهِ الأَرِيْب.

 

الصِّدْقُ صَفاءُ سِيْرَةٍ ونَقاءُ سَرِيْرَةٍ، وصَلاحُ مَخْبَرٍ وجَمالُ مَظْهَر، فَما سَادَ في الأَقْوامِ إِلا مَنْ صَدَق، الصِّدْقُ أَعْظَمُ مَا تَقَرَّبَ بِهِ العَبْدُ إِلى رَبِه، وكُلُّ عِبادَةٍ نُزِعَ مِنْها الصِّدْقُ فَهِيْ في المِيزانِ هَباءَ.  

 

الصِّدْقُ أَشْرَفُ ما وُصِفَ بِهِ المُرْسَلُون؛ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)[مريم: 41]، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)[مريم: 54]، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)[مريم: 56]، (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)[يوسف: 46]، (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)[مريم: 50].

 

ومُحمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أَصْدَقُ مَنْ نَطَق، وأَصْدَقُ مَنْ أَخْبَر، وأَصْدَقُ مَنْ عاهَدَ، وأَصْدَقٌ مَنْ وَعَدَ، جَلَّلَهُ اللهُ بالصِّدْقِ ظَاهِراً وباطِناً، أَمَرَهُ رَبُهُ بأَشْرَفِ دُعاءٍ، وأَرْشَدَهُ لأَكْرَمِ مَسأَلَة: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)[الإسراء: 80].

 

شَرِيْعَتُهُ شَرِيْعَةُ الصِّدْقِ، فَبالصِّدْقِ جاءَ وبالصِدْقِ أَمَر، فَما تَفَوَّهَ فاهُ بِكذِبٍ، وما نَطَقَ لِسانُهُ بِباطِلٍ، وما انْطَوَتْ سَرِيْرَتُهُ على دَخَلْ، بَلَّغَ الرِسالَةَ أَتَمَّ بَلاغٍ، فَما حادَ عَنِ الصِّدْقِ وما انْحَرَف، وما اجْتَرأَ عَنْ اللهِ وما افْتَرَى؛ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ)[الحاقة: 44]، لَو أَنَّ مُحمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَال على اللهِ قَولاً لَمْ يَقْلْه، أَو نَسَبَ إِليِهِ شَرِيْعَةً لَمْ يأَمُرْهُ بِها، أَو زَادَ فيما أُمِرَ بِه أَو نَقَص،  لَو فَعَلَ ذَلِكَ  -وَحاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ لَو فَعَلَ ذَلِكَ قالَ اللهُ لَعَاجَلْناهُ بالعُقُوبَةِ: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)[الحاقة: 45 - 47].

 

شَرِيْعَةُ اللهِ شَرِيْعَةُ الصِّدْقِ، ورُسُلُ اللهِ أَصْدَقُ العِبادِ، وبالصِّدْقِ قَدْ أَمَرُوا؛ (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[الزمر: 33]. 

 

لَمَّا سأَلَ هِرَقْلُ -مَلِكُ الرُّومِ- أَبا سُفيانَ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وكَانَ أَبُو سُفيانَ يَومَئِذٍ مُشْرِكاً، قَالَ: فَماذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: يقولُ: "اعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، واتْرُكُوا ما يقولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ والصِّلَةِ"(متفقٌ عليه)

 

الأَمْرُ بالصِّدْقِ أَمْرٌ بِلزُومِ الطَّرِيْقِ الذِيْ مَنْ سَلَكَهُ بَلَغَ مَنازِلَ البِرِّ، ومَنْ ثَبَتَ عليهِ أَدْرَكَ منازِلَ المُقَرِّبِيْن، عَن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِيَّاكُمْ والْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"(متفقٌ عَلَيهِ).

 

ومَنازِلُ الصِّدْقِ عِنْدَ اللهِ في دَارِ النَّعِيْمِ للصَّادِقِيْنَ في إِيْمانِهِم، وَفي أَقْوالِهِم، وفي سَائِرِ أَحْوالِهِم، ولَنْ يَبْلُغَ مَرْتَبَةَ التَّقْوَى إِلا مَنْ مَعَ اللهِ صَدَق؛ (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[يونس: 2]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر: 54 - 55].

 

الصِّدْقُ أَعْظَمُ مَا تَقَرَّبَ بِهِ العَبْدُ إِلى رَبِه، وكُلُّ عِبادَةٍ نُزِعَ الصِّدْقُ مِنْها فَهِيْ في المِيزانِ هَباءَ،  وَمِنْ مَنَازِلِ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الصِّدقِ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ القَوْمِ الأَعْظَم الذِيْ مِنْهُ تَنْشَأُ جَمِيْعُ مَنَازِلِ السَّالِكِيْن، والطَّرِيْقُ الأَقْوَمُ الذِيْ مَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ المُنْقَطِعِيْن الهَالِكِيْن، وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدِّيْنِ، وَعَمُوْدُ فِسْطَاطِ اليَقِيْنِ؛ "ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا"، وتِلْكَ دَرَجَةٌ تَالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النُّبُوةِ التِيْ هِيَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ العَالَمِيْن؛ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69].

 

وَقَدْ أَمَرَ اللهُ أَهْلَ الإِيْمَانِ أَنْ يَلْزَمُوا التَّقْوَى وأَنْ يَكُوْنُوا مَعَ الصَّادِقِيْن؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119]، صِدْقٌ في القَوْلِ وصِدْقٌ في العَمَل، صِدْقٌ في الإِيْمانِ وصِدْقٌ في الاعْتِقاد، صِدْقٌ مَعَ اللهِ وصِدْقٌ مَعَ النَّاس، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ اللهِ صادِقاً فَلْنْ يَكُونَ مع الخَلْقِ صَادِقاً. 

 

صِدْقُ العَبْدِ مَعَ اللهِ يَحِمِيْ العَبْدَ مِنْ نَزَغاتِ الزَّيْغِ ومِنْ ضَلالاتِ الهَوى، يَحْمِيْهِ مِنْ نَكْثِ العُهُودِ، ومِنْ إِخلافِ الوُعُودِ، يَحْمِيْهِ مِنْ قَوْلِ الفُحْشِ ومِنْ شَهادَةِ الزُّور، يَحْمِيْهِ مِنْ كَذِبٍ في القَوْلِ وكَذِبِ في الفِعْلِ وكَذِبٍ في المُعامَلاتِ.

 

صِدْقُ العَبْدِ مَعَ اللهِ مُتَكَأٌ يَقُومُ عَلِيْهِ عَمَلُ الصَّادِقِيْنَ، فَلا صَفاءَ أَنْقَى مِنْ صَفاءِ مَنْ صَدَقُوا مَع الله، هذَّبَهُم الإِسْلامُ حَتَى كَمْلَتْ لَهُمْ في الفَضْلِ الرُّتَبُ.

 

فَما الصَّدْقُ دَعَوى في المَزادِ رَخِيْصَةٌ *** وما الصِّدْقُ قَوْلٌ رَدَّهُ خُبْثُ العَمَل 

 

الصِّدْقُ قَوْلٌ للحَقِّ وقِيامٌ بِه؛ "الْبَيِّعَانِ بالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وَبَيَّنا بُورِكَ لَهُمَا فِيْ بَيْعِهِما، وَإنْ كَذَبا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما"(متفق عليه).   

 

الصِّدْقُ استِجابَةٌ لأَوامِر اللهِ دُونَ رَدَّ، وقَبُولٌ لِشَرائِعِهِ دُونَ انْتِقاءَ؛ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة: 177].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه غفور رحيم.  

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً. 

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: صِدْقُ اللِّسانِ قَرِيْنٌ لِصِدْقِ الإِيْمانِ، ومَنْ اعْتادَ قَوْلَ الصِّدْقِ تَخَلَّقَ بِه، ومَنْ اسْتَمْرأَ قَوْلَ الكَذِبَ تَطَبَّعَ بِه، والمؤْمِنُ الحَقُّ مَنْ إِذا نَازَعَتْهُ شَهْوَةٌ للْكَذِبِ نَزَعَها بِواعِظِ الإِيْمان.

 

وصِدْقُ العَبْدِ مَعَ اللهِ مَرْكَبُ أَمَانٍ لا تَحُفُّ بِهِ مَخَاوُف، وَسَبِيْلُ نَجاةٍ لا يُقَاطِعُهُ عَطَب، فَما نَجا في النَوازِلِ نَاجٍ كَمُؤْمِنٍ صَادِقٍ مَعَ اللهِ؛ (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)[محمد: 21].

 

صِدْقُ العَبْدِ مَع اللهِ مِنْ أَعْلَى مَراتِبِ الدِّيْن، ويأَبَى اللهُ إِلا أَنْ يُمَحِّصَ عِبادَهُ الصَّادِقِيْنَ وأَنْ يُطَهِّرَ مِنَ الدُّخَلاءِ صَفَّهُم؛ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2 - 3].

 

فَإذا ما تَخَطَّى الصَّادِقُونَ مُعْتَرَكَ البَلاءِ، وتَجاوَزُوا لُجَجَ الفِتَنِ، أَقَامُوا على مَاءٍ مِنْ الهَناءِ مَعِيْن، حَامِدِيْنَ لِرَبِهِم شَاكِرِيْن، فَلَوْلا اللهُ ما أَطاقُوا أَمَامَ البَلاءِ صَبْراً، ولَوْلا اللهُ لَما أُعْقِبُوا بُعَيْدَ العُسْرِ يُسْرا، أَلْزَمَهُم طَرِيْقَ الصِّدْقِ حَتَى بَلَغُوا؛ (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)[الحج: 59].

 

في قِصَّةِ كَعْبِ بِنِ مالِكِ -رضي الله عنه- حِيْنَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَة ِتَبُوك، قَالَ -رضي الله عنه-: فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حين قَدِمَ مِنْ تَبُوك، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَ"، فَجِئْتُ أمْشِي حتَّى جَلَسْتُ بيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: "ما خَلَّفَكَ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟"، فَقُلتُ: بَلَى يا رَسُوْلَ الله، إنِّي -واللَّهِ- لو جَلَسْتُ عِنْدَ غيرِكَ مِن أهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أنْ سَأَخْرُجُ مِن سَخَطِهِ بعُذْرٍ، ولقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي -واللَّهِ- لقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليومَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى به عَنِّي؛ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ؛ إنِّي لَأَرْجُو فيه عَفْوَ اللَّهِ، لا -واللَّهِ- ما كانَ لي مِن عُذْرٍ، واللَّهِ ما كُنْتُ قَطُّ أقْوَى، ولَا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أمَّا هذا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ".

 

وبَعْدَ أَنْ قَضَى اللهُ فيه وفي صاحِبَيْهِ أَمْرَه، وخَتَمَ أَمْرَهُم بالتَوبَةِ، قَالَ كَعْب: فَقُلتُ: "يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ إنَّما نَجَّانِي بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبَتي أنْ لا أُحَدِّثَ إلَّا صِدْقًا ما بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ ما أعْلَمُ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ أبْلَاهُ اللَّهُ في صِدْقِ الحَديثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلكَ لِرَسولِ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أحْسَنَ ممَّا أبْلَانِي، ما تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلكَ لِرَسولِ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إلى يَومِي هذا كَذِبًا، وإنِّي لَأَرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيما بَقِيتُ"(رواه البخاري).

 

ونِيّاتُ أهلِ الصّدقِ بِيضٌ نَقِيّة ٌ*** وألسُنُّ أهْلِ الصِدْقِ لاَ تَتَلَجْلَجُ

 

(هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 119]، فَطُوبَى لِمَنْ صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ الله، وطُوبَى لِمَنْ صَدَقَ مَعِ عِبادِ اللهِ فَأَكْرَمَهُ اللهُ،  طُوبَى لِمَنْ أَقامَ ثَابِتاً في طَريقِ الصَّادِقينَ حَتَى تَوَفَّاهُ اللهُ؛ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23].

 

 

المرفقات

وكونوا مع الصادقين.doc

وكونوا مع الصادقين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات