عناصر الخطبة
1/حرص أولياء الأمور على تعليم أبنائهم واهتمامهم بذلك 2/أهمية تربية الأبناء ومسؤولية الآباء تجاه ذلك 3/اختلال مفهوم الثواب والعقاب في تربية الأبناء 4/غفلة الآباء عن تربية الأبناء وبعض صور ذلك 5/تربية الأبناء مسؤولية سيسأل عنها الآباء 6/بعض مظاهر تسكع بنات المسلمين في الشوارع والأسواق 7/بعض الأمور المعينة على تربية الأبناء والبناتاقتباس
لقد اختل مفهوم الثواب والعقاب في التربية عند كثير من الناس، فأصبح معلقًا بالأمور الدنيوية فحسب، لينشأ الطفل منذ نعومة أظفاره متعلقًا بالدنيا وملذاتها وشهواتها، هشًا في تعظيم شعائر الله وحرماته. فأنت لو نُبِئتَ أن ابنك قُدِّرَ له الـ...
الخطبة الأولى:
كان ذلكم البيت، بل كل بيت، يسير وفق نظام معين، في حياة أهله وتعاملهم في دخولهم وخروجهم.
وفجأةً يتغير كل شيء، الأبناء والبنات، كل يلملم أوراقه جاثم في غرفته ممسك بكتابه يقرأ ويحفظ.
الأم تلاعب الصغير حتى لا يؤذي إخوانه، والأب يراجع لأحدهم درسه، أصبح حديث الأبوين همسًا بصوت خافت، حتى لا يعكروا صفو سماء الهدوء التي خيمت على المنزل منذ أيام قلائل.
ألغيت جميع الارتباطات العائلية، توقف سيل الرحلات والنزهات الهادر، كل شيء في البيت جُنِّدَ لإضفاء جو من الهدوء والراحة، ليتسنى لفلذات الأكباد صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، الاستعداد الأمثل لخوض غمار الامتحانات النهائية.
قبل الامتحان، ترقب وأمل، وبذل للغالي والنفيس، للأوقات والأموال، وبعد الامتحان سؤال ونقاش، وعند النتيجة سرور وحبور وضحكة وألم.
يتغير كل شيء في حياة الناس، بل في سير المجتمع بأسره.
وكل هذا يدل دلالة قطعية على اهتمام الناس بتعلم أبنائهم، وحرصهم على مستقبلهم وغدهم، أن تشرق في سمائه شمس التوفيق والسعادة، والأمن والأمان.
وكل هذا أمر يبشر، وسجية تحمد، والسؤال المهم: هل يقف الاهتمام بالأبناء عند هذا الحد؟
وهل تنتهي مسؤولية التربية عند هذا؟
هل فهم الناس كلمة المستقبل التي لم تزل ترددها ألسنتهم؟!
نعم، إن الحياة العلمية والعملية مستقبل، ولكنه مستقبل معرَّض للنقص والخلل، والنوائب والعوارض التي توقفه؛ بل هو موعود بالزوال والانقضاء في يومك الشاهد أو غدك القريب.
فهل سعى الآباء والأمهات لتأمين مستقبل حقيقي لأبنائهم، نتيجة فوز وفلاح لا يحول ولا يزول، أو خسارة فادحة لا تعوض أو تستدرك إلا برحمة أرحم الراحمين؟
أيها الأب المبارك: أستأذنك في خطاب أوجهه لك أنت دون غيرك، وأستبيحك عذرًا أن يكون الحديث أكثر صراحة ووضوحًا.
وبدايةً أُراه لا يخفى عليك تلك المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقك تجاه أبنائك وبناتك، ويكفي بيانًا لها وحصرًا لمهامها قول ربك ومولاك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التحريم:6].
وفي المتفق عليه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته".
فالمسألة خطيرة فهي مسؤولية وتكليف، ولا بد بعد التكليف من سؤال ونظر.
هل أجاد المكلف ما كلف به؟
وهل قام بالمسؤولية على أكمل وجه أم لا؟
لقد اختل مفهوم الثواب والعقاب في التربية عند كثير من الناس، فأصبح معلقًا بالأمور الدنيوية فحسب، لينشأ الطفل منذ نعومة أظفاره متعلقًا بالدنيا وملذاتها وشهواتها، هشًا في تعظيم شعائر الله وحرماته.
فأنت لو نُبِئتَ أن ابنك قُدِّرَ له الرسوب في الامتحان، كيف سيكون شعورك؟ وأي حال هي حالك؟
ندم وألم، ضيق وهم، توبيخ وتأنيب، بل مفارقة وهجر.
وفي المقابل: أين ذلك الألم وتلك الحسرة، وهل ثمَّ ضيق أو هم لو فرط ابنك في حق ربه؟
نام عن صلاة، أو تكاسل عن أدائها في جماعة المسلمين، هل سألته؟ وبخته؟ عاقبته؟
تكرر منه ذلك، أنصحته؟ أهجرته؟ ليعود ويستقيم.
وكلما حدثك محدث أو نصحك ناصح عن تقصير أبنائك في الصلاة وغيرها، رددت ذلك الدعاء الجامد: "الله يهديهم" أو قلتها باردة ضعيفة "والله عجزت عنهم".
أين هذا الكلام من أقوالك وأفعالك في الحرص المتناهي والجهد الذي ليس له مثيل على دراسة أبنائك ونجاحهم؟
فتُدفع الأموال الباهظة، ويُجلب المدرسون، وتُنشر الوعود بالسفر وترصد الجوائز القيمة، كل هذا وغيره كثير، أو تعتذر بقولك: "لم يزالوا صغارًا" وأحدهم قد تجاوز العاشرة بكثير.
فآه! أي فهم للحياة نفهمه، وأي واقع مؤسف نعيشه؟!
روى أبو داود بسند حسنه النووي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" [وصححه الألباني].
أراك لم تقل إنه صغير حين أدخلته المدرسة، بل سارعت لإدخاله.
فلماذا حكمت عليه بالصغر حين دعيت لأمره بالصلاة؟ فآه! أي فهم للحياة نفهمه؟!
وأي واقع مؤسف نعيشه؟!
إنها الغفلة -أيها المؤمنون- داء خطير استحكم على القلوب، وإلا فأين الآباء عن أبنائهم، وهم يتسكعون في الشوارع والطرقات، يؤذون الغادي والرائح ويضايقون نساء المسلمين وبناتهم؟
أولئك الأحداث الذين نراهم هنا وهناك في السيارات وعلى الأرصفة بملابس غريبة وأشكال مريبة، أبناء من يا ترى؟!
ما هو موقف الأب وهو يرى ابنه يتردد على محلات الحلاقة، التي يستحي العاقل الشهم أن يدخلها، فضلاً عن أن يجلس فيها، وهي تمتلئ بأشباه الرجال.
يرى ابنه بين فترة وأخرى يدخل عليه ويخرج بمشيته متكسرة وشعيرات قضى نهاره في تصفيفها أمام المرآة؟.
قل لي بربك: هل يعي معنى التربية الحقة على الدين والأخلاق والمثل؟
وهل تصح دعوى الحرص على الأبناء وفلذات الأكباد، من جلب لهم جهاز الاستقبال والبث المباشر، وأودعه غرفهم ودورهم ينظرون ما شاؤوا متى شاؤوا؟!
وهل هو حريص على مستقبله الدنيوي في دراسته، والمدارس والجامعات تحول كثير من فصولها وقاعاتها إلى غرف للنوم لا يسمع فيها المعلم المسكين إلا النفخ والغطيط.
ولن أسهب في الحديث عن هذا الجهاز، فقد سبق الحديث عنه، ولكني أختصره لك بسؤال حار: بأي جواب ستجيب ربك ومولاك حين يسألك عن أبنائك وتربيتهم؟! ماذا ستقول؟
تركتهم في أحضان شاشة الاستقبال، يقلبون القنوات، ينظرون إلى الحرام ويسمعون الحرام، ويتمنون الحرام.
روى البخاري ومسلم واللفظ له من حديث الحسن قال: عاد عبيدُ الله بن زياد، معقلَ بن يسار المزني ، في مرضه الذي مات فيه، فقال معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة".
وثمة صورة متكررة في المجتمع تفت الفؤاد، وتؤلم قلوب الغيورين، وتقرح أكبادهم، ألا وهي: تلكم الصورة لبنات المسلمين في شوارعهم وأسواقهم وغيرها.
تبرج وسفور، تسكع وتميع، أمام والدها تركب مع السائق وحدها، تذهب لمن شاءت، متى شاءت.!
أمام والدها تلبس عباءتها بطريقة مغرية فاتنة!
أما والدها ترمي بغطائها –عذرًا- قطعة الحرير الشفاف، وتعُبُّ من طيبها، ثم تسلّم عليه وتقبله قبلة الوداع إلى السوق، وهو يودعها بابتسامة الرضى والسرور.
لا -والله- بل ابتسامة الغفلة واللامبالاة، وقلة الغيرة.
أنا لا أقول دعوا النساء سوافرًا *** بين الرجال يخُلن في الأسواق
يَدرُجن حيثُ أردن لا من وازعٍ *** يحذرن رقبته ولا من واق
كلا ولا أدعوكمُ أن تسرفوا *** في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكم أثاثًا يقتنى *** في الدور بين مخادعٍ وطباق
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا *** فالشر في التقييد والإطلاق
روى أبو داود وحسنه الألباني عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت".
الخطبة الثانية:
وختامًا: أذكر بعض الأمور التي آمل أن تعينك في تربية أبنائك وبناتك، وهي يسيرة على من يسره الله عليه:
أولاً: تذكر أنها مسؤولية، وأمانة عظيمة، ستسأل عنها يوم القيامة، فاعمل الآن ما دمت في زمن الإمكان، ووكِّل النتائج إلى خالقك ومولاك.
ثانيًا: ذكِّر نفسك دومًا بذلك الأجر العظيم الذي رتبه الله على تربية الأولاد، والسعي في صلاحهم.
روى الترمذي وابن حبان وأبو داود عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن فله الجنة"[رواه الترمذي وأبوا داود وصححه الألباني].
وفي بعض الروايات: "وواحدة" [رواه أحمد وصححه الألباني].
ويكفي تلك البشرى العظيمة في قول ربنا -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور:22].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه".
ثالثًا: القدوة الحسنة في شخصية الآباء للأبناء، فصلاحك أنت أيها الأب المبارك هي نقطة البداية في السعي في صلاح أبنائك، ولقد طال الخير الأحفاد بصلاح الآباء والأجداد، فقال سبحانه: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)[الكهف:82].
وتذكر أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا دعوت ابنك للصلاة فلتكن سباقًا وليرك أسرع المستجيبين لنداء ربك ومولاك، إذا أمرته بالصدق فلا تكذب، إذا دعوته إلى القرآن وتلاوته فرتل كتاب ربك آناء الليل وأطراف النهار.
رابعًا: اجلس مع أبنائك أكثر وقت ممكن، علمهم، لاطفهم، اسمع من هذا آية من كتاب الله أو سورة، اشرح لهم حديثًا، اروِ لهم قصص الأنبياء وأتباعهم.
خامسًا: كن حازمًا في الأمور التي لا تقبل المساومة، فالحشمة والحياء للفتاة، وإقامة الصلاة مع الجماعة للابن وغيرها أمور ليس فيها مجال للمعاذير، وفتح مسببات للتقصير والغفلة، فأمر الله لا يقدم عليه أمر.
سادسًا: إن استعمال أسلوب الثواب والعقاب كالدواء، يحتاج إلى طبيب يصرفه، فإذا وعدت بأحدهما فلا تخلف.
سابعًا: من طبيعة بني البشر أنه يَمَلُّ كثرة التوجيه والتلقي من مصدر واحد، فحاول أن تعدد المصادر ممن تثق بهم من مدرسين وصحبة صالحة.
أخيرًا: الدعاء الدعاء، فارفع يديك، وقل بقلبك قبل لسانك: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان:74].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم