عناصر الخطبة
1/الحث على نصرة الضعفاء والمظلومين 2/الوصية بالمسارعة لفعل الخيرات وترك المنكرات 3/وجوب تطهير المجتمع من كل ما يشينه 4/الشد على أيدي الصابرين المحتسبين في غزة هاشم 5/التحذير من الاعتداء على المسلماقتباس
إن المصيبة واحدة إن صبرتُم، ومصائبُ إن لم تصبروا، وقد مضى لكم سلف يَحسُن عليهم البكاءُ، وبَقِيَ خلفٌ في مثلهم يَحسُن العزاءُ، فلا البكاء يردُّ الماضي، وبالعزاء يطيب عيشُ الباقي، ونحن عمَّا قليل بهم لاحقون، فآثِروا الصبرَ؛ فإنَّه أردُّ الأمرينِ عليكم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المحمود بالعوائد، المأمول منه الزوائد، المرتجى منه الثواب، والمختشى منه العقاب، ونشهد ألَّا إلهَ إلا الله، وحدَه لا شريكَ له، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[الْقَصَصِ: 88]، ونشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله المولى -تبارك وتعالى- بعد الفترة، والرسل الماضية، والقرون الخالية، والأبدان البالية، والجبلة الطاغية، فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، ونُصلِّي ونُسلِّم على مَنْ خُصَّ بالمقام المحمود، والحوض المورود، وعلى آله الموفين بالعهود، وأصحابه خير الجنود، اللهمَّ إنَّا نتوجَّه إليكَ مِنْ هذه الرحاب الطاهرة، ومن بيتك المقدَّس، والذي هو على التقوى مؤسَّس، أن ترحم أمتنا الإسلاميَّة في كل مكان، وفي غزَّة وفي هذا المكان، وفي أرض الشام المباركة يا ربَّ العالمينَ.
فالحمد لله الذي جعلنا من أهل الشام، الذي بارك المولى -تبارك وتعالى- فيه للعالمين، وأسكنه الأنبياء والمرسَلينَ، والأولياء والمخلصين، وحفه بالملائكة المقربين، وجعله في كفالته، وجعل أهله على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم إلى يوم الدين، وبه ينزل المسيح عيسى ابن مريم لإعزاز الدين ونصرة الموحدين.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: أنتم في أرضكم المقدَّسة، اتقوا الله حقَّ تقاته، ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، قُولُوا الحقَّ، وارحموا اليتيمَ، وأَعِينُوا الضائع، وكونوا للظالم خصمًا، وللمظلوم ناصرًا، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، واحذروا الله -تبارك وتعالى-، فقد حذركم نفسه، وعليكم بالوحدة والتمسُّك والاعتصام، وإيَّاكم والفرقة والخلاف والخصام، فإنهم شين، وفيهم هلك الأولون، وذل ذوو العز المعظمون، وكونوا بني أم بررة، وإلا دبت بينكم العقارب، كونوا أحرارًا، وللمعروف منارًا، ولعلكم تعلمتُم ممن قدحَتْه جرائمُه، وأوحشته مظالمه، فقد خذله أخلاؤه، وشمت به أعداؤه، وأسلمه البعيد، وجفاه القريب، فيا لها من حسرة وندامة، فاحمدوا الله يا عباد الله أن هداكم للإسلام، وجعلكم من أمة محمد -عليه الصلاة والسلام-، واشكروه على نعمه؛ فقد جعل أرزاقنا بيده، ولم يكلنا لغيره، فاحفظوا -رحمكم الله- ما استرعاكم المولى -تبارك وتعالى-، واحفظوا بيته المقدس، فهو مهوى أفئدتكم، وهو صفوة الله من بلاده، وفي هذه الأرض الطاهرة خيرة الله من عباده، الرحمة فيها نازلة، والبركة فيها شاملة، وقد ورد في الأثر، في قول الله -تبارك وتعالى-: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)[ق: 41]، "يقف إسرافيل على صخرة بَيْت الْمَقدسِ فيقول: يا أيتها العظام النخرة، والجلود المتمزقة، والأشعار المتقطعة، إن الله -تبارك وتعالى- يأمركِ أن تجتمعي لفصل الخطاب"، ويا له من حساب!
أيها العبد المتفرد في حُفرته: انقطع عنكَ الأخلاءُ والأهلونَ، ولا أنيسَ لكَ سوى اللهِ، فَطُوبَى لمن كان أنيسه صالحًا، والويل لمن كان أنيسه عليه وبالًا.
أيها الإنسان: إلى متى تقول: غدًا أفعل كذا، وبعد غد أفعل كذا؟! وإذا أفطرت فعلتَ كذا، وإذا قدمت من سفري فعلت كذا، أغفلت سفرك البعيد، ونسيت ملك الموت، أما علمت أن دون غد ليلة تخترم فيها أنفس كثيرة؟! أما علمت أن ملك الموت غير منتظر بك أملك الطويل؟! أما علمت أن الموت غاية كل حي؟! أما رأيته صريعًا بين أحبابه؟! لا يقدر على رد جوابه، بعد أن كان جدلًا خصمًا، سمحا كريمًا عليهم.
فيا أيها المغترُّ بشبابه، وبطول عمره، يا من تفتخر بمالك وسلطانك: أَكْثِرْ مِنْ ذِكرِ الموتِ، وكُنْ صاحبَ عبادةٍ، وتَوَكَّلْ، واستغفِرْ.
عبادَ اللهِ: يقول الصحابي الجليل، وكاتب الوحي، معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-: "سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه لم يبقَ من الدنيا إلا بلاء وفتنة"، أعاذنا الله وإيَّاكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر، ليس في الوقت مرح، الوقت كله جد.
فيا أيها المسلمُ: إذا نزلت عليك بلية استعمل الصبر، وإذا نزلت عليك نعمة استعمل الشكر، وإذا نزل بك القضاء استعمل الرضا، ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء، قال الإمام أبو الحسين النوري -رحمه الله-: "وقفت على شيخ يضرب بالسياط، فعددت عليه ألفًا وهو ساكت، فاستحسنت صبره مع كبر سنه، فلما أدخل الحبس دخلت عليه، فسألته عن صبره مع كبر سنه، فقال: يا أُخَيَّ إنما يحمل البلاءَ الهِمَمُ، لا الأجسامُ"، الأغراض والشدائد جعلها الله -تعالى- مطهرات، ودوام البلاء خاص بأهل القربات، وذلك ليكونوا دائمًا مع الله، ويمتنعوا من الميل إلى غير الله، ثم كلما دام البلاء بالعبد قوي قلبه، وضعف هواه، ورجع إلى مولاه.
وتذكروا -يا عباد الله- أن الهلكة كل الهلكة أن يعمل بالسيئات في أزمان البلاء.
أيها المسلمون: نحن في هذه الأيام الصعبة بحاجة لمجتمع طاهر من أصحاب القلوب السليمة، لسنا بحاجة لمن يأكل الرشى، ولا من طعام الظلمة، ولا من يؤذي الناس بلسانه، ويخاف الناس من شره، ولا من ينقل النميمة والأخبار الكاذبة، ولا من يشيع الكلمة، التي تؤذي الناس، ويحلف أنَّه ما أشاعها، ولا من كلامه مر لإخوانه المسلمين، ولا من ينام وعنده شحناء على أخيه، ولا من يطلق بصره بغير حاجة، كفانا ما نحن فيه، ونحن هنا في أرضنا المقدَّسة فقد ابتلينا البلاء المبين، والحمد لله، فقد صبرنا، ورضينا بما كتب الله لنا، ومن هنا نقول لأهلنا في غزَّة: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرَّعْدِ: 24]، عظَّم اللهُ أجرَكم، وألهَمَكم الصبرَ، ورزَقَنا وإيَّاكم الشكرَ، وتذكروا أن أنفسنا وأهلينا وأموالنا وأولادنا ونساءنا من مواهب الله الهنية، يُمتَّع بها الرجلُ إلى أجل معدود، وتُقبَض لوقت معلوم، ثم افترَض علينا الشكرَ إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، فلكم الرحمة والهدى، لكم الرضا والرضوان، من صاحب الرحمة والإحسان.
عبادَ اللهِ: إن المصيبة واحدة إن صبرتُم، ومصائبُ إن لم تصبروا، وقد مضى لكم سلف يَحسُن عليهم البكاءُ، وبَقِيَ خلفٌ في مثلهم يَحسُن العزاءُ، فلا البكاء يردُّ الماضي، وبالعزاء يطيب عيشُ الباقي، ونحن عمَّا قليل بهم لاحقون، فآثِروا الصبرَ؛ فإنَّه أردُّ الأمرين عليكم، وأرجعهما بالنفع لكم.
نحن في شدة، لقد وصل الأمر حتى تقوم النائحات الباكيات، فباكية تبكي على دنياها، وأخرى تبكي على ذلها بعد عزها، وباكية تبكي شوقا إلى قبرها، وأخرى تبكي من جوع أولادها، وباكية تبكي من انقلاب جنودها عليها، فوا أَسَفَا على أمة هذا هو حالها! فالمرأة المسلمة عزيزة كريمة، كانت إذا مات ولدها تضع رأسه على حِجْرها وتقول: "والله لتقدُّمُكَ أمامي خيرٌ عندي من تأخرك بعدي، ولصبري عليك أولى من جزعي عليك، ولئن كان فراقك حسرة، فإن في توقع أجرك لخيرة".
عبادَ اللهِ: موت الابن صدع في الفؤاد، وموت الأب قاصمة الظهر، وموت الأخ قَصُّ الجَناح، وموت الأم حزن يدوم، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحفظنا جميعًا، وأن يحفظ أسرانا، وأن يتقبل شهداءنا، وأن يكتب الشفاء العاجل لجميع جرحانا.
عبادَ اللهِ: ورَد عن خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُرَدُّ الدعاءُ بينَ الأذانِ والإقامةِ"، فادعوا اللهَ وأنتُم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي له الخلقُ والأمرُ، وملكُ الدنيا والآخرةِ، يؤتي الملكَ مَنْ يشاء، ويَنزِع الملكَ ممَّن يشاء، ويُذِلُّ مَنْ يشاء، بيدِه الخيرُ وهو على كل شيء قدير.
ونشهد ألَّا إلهَ إلا الله، في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، باسمه يشفي كل داء، وبه يكشف كل غم وبلاء، إليك ترفع الأيدي بالتضرع والدعاء، في الشدة والضراء والسراء، -سبحانه- يجيب المضطر إذا دعاه.
ونشهد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما أرسل، وأن القرآن كما أنزل، وأن القضاء كما قدر، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: ما الذي نشاهده اليوم؟! ضَعْف وتشتت، وهذا كله يؤدِّي إلى الهزائم وإلى الدمار والهلاك، دُنيا مؤثَرة، وأهواء متشرعة، وضغائن محمولة، بأي وجوه سوف تلقون ربكم، زهدكم في أمر فرغبتم فيه، ورغبكم في أمر فزهدتم فيه، إنهم يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون تكتسون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون.
وأنتم أيها المسؤولون: اجبروا الكسير، وسهِّلوا العسير، فالغني قد أطرق، والمقل قد أملق، وبلغ منه المخنق، أجمَعُوا أمركم، وإيَّاكم ثم إيَّاكُم ودماء المسلمين، ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال -صلى الله عليه وسلم-: من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب على جبهته: آيس من رحمة الله"، لزوال الدنيا وما فيها أهون على الله من قتل المسلم بغير حق.
فيا أيها المسلمُ: اعتبر بما ترى، واتعظ بما تسمع، قبل أن تصير عبرة للناظرين، وعظة للسامعين، وأنتم يا أسرانا البواسل: لا تيأسوا من رحمة الله، وتذكروا مهما اشتد الألم والجرح فالفرج قريب لا محالة، وسوف تنعمون بالأمن والأمان، والسلم والسلام، والعزة والكرامة، جعلنا الله وإيَّاكم من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.
إلهَنا ومولانا: أخلقتِ الوجوهُ لكثرة الذنوب ومساوئ الأعمال، وقد حبستَ عَنَّا الغيثَ لتؤدب عبادك، فنسألك يا حليم، يا مَنْ لا يُعرَف منه إلا الجميلُ، اسقنا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اكشف عَنَّا من البلاء ما لا يكشفه غيرُكَ.
اللهمَّ إنَّا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهارًا.
يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، وأنت الغني الكريم، فلا تخيب رجاءنا، ولا ترد دعاءنا، واجعلنا آمنين من عذابك قبل الموت، وبعد الموت وحين الموت.
اللهمَّ قد أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك يا ربَّ العالمينَ.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكرا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم؛ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم