عناصر الخطبة
1/ فوائد البرد وحِكَمِه 2/ برد الدنيا يذكرنا بنار الآخرة 3/ أهمية الاستعداد للوقاية من البرد 4/ نعمة الوقاية من البرد 5/ الشتاء ربيع المؤمناقتباس
إن هذه البرد الذي نعاني منه في بعض الأحيان، ويتمنى البعض سرعة ذهابه، إنما هو نَفسٌ من أنفاس النار، وجزءٌ من عذابها وزمهريرها، فإن الله تعالى يعذب أهل النار بالبرد كما يعذبهم بالحر؛ فمهما اشتد البرد أو الحر على العبد في هذه الحياة وقاسى منه وتألم - فإن ذلك لا يعدو أن يكون نفساً واحداً من أنفاس النار والعياذ بالله ..
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن تعاقب الليالي والأيام، وتتابع الشهور والفصول والأعوام - آيةٌ من آيات الله الباهرات، التي تحمل في طياتها الدروس والعبر والعظات، وإن المؤمن المستبصر يتخذ من كل حركة وسكنة في الكون آية تدله على عظمة خالقه وقدرته وحوله وقوته.
إننا -عباد الله- نعيش هذه الأيام في بدايات فصل الشتاء، ذلكم الفصل الذي يتكرر كل عام، أوجده المولى -سبحانه- لحكم عظيمة، ومنن جزيلة، أظهر المولى بعضها وأخفى بعضها الآخر؛ لعل قلباً يتعظ ونفساً تدكر، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض حديثه عن بعض حكم مخلوقات الله تعالى: " تأمل أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالح والحكم؛ إذ لو كان الزمان كلَّه فصلاً واحداً لفاتت مصالحُ الفصول الباقية فيه؛ فلو كان صيفاً كلَّه لفاتت منافعُ ومصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعاً كلَّه أو خريفاً كلَّه..".
ثم بدأ -رحمه الله- يذكر بعض فوائد البرد ودخول فصل الشتاء فقال: "ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء؛ فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها، واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية، واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان؛ فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين".
فوا عجباً كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كـل تحـريكـةٍ *** وتسكينةٍ أبـداً شاهـد
وفي كل شـيء لـه آيـةٌ *** تدل على أنه الواحـد
عباد الله: إن هذه البرد الذي نعاني منه في بعض الأحيان، ويتمنى البعض سرعة ذهابه، إنما هو نَفسٌ من أنفاس النار، وجزءٌ من عذابها وزمهريرها، فإن الله تعالى يعذب أهل النار بالبرد كما يعذبهم بالحر؛ فمهما اشتد البرد أو الحر على العبد في هذه الحياة وقاسى منه وتألم - فإن ذلك لا يعدو أن يكون نفساً واحداً من أنفاس النار والعياذ بالله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشدُ ما تجدون من الحر، وأشدُ ما تجدون من الزمهرير -يعني البرد-" أخرجه الشيخان.
قال ابن عبدالبر رحمه الله: "هذه الشكوى بلسان المقال"، وقال النووي رحمه الله نحواً من ذلك ثم أضاف: "حمله على حقيقته هو الصواب، وتنفسها على الحقيقة".
عبدالله: تذكر وأنت تفر من برد الدنيا وتتقيه، وتستعد له بما تجد من ملابس ووسائل تدفئة لك ولأفراد أسرتك.. تذكر زمهرير جهنم الذي لا واقي منه ولا حامٍ إلا التقوى والعمل الصالح بعد رحمة الله وفضله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) [التحريم: من الآية6].
عباد الله: إن أخذ الأهبة لهذا الفصل من العام، والاستعداد له بأنواع الملابس والمدافئ هو من باب الأخذ بالأسباب التي هيأها المولى سبحانه لنا، وأنعم بها علينا، ولقد امتن سبحانه على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام وأوبارها واشعارها ما فيه دفء لهم، قال سبحانه: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [النحل:5]، وقال سبحانه: (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) [النحل: 80].
روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان عمر رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم الوصية: "إن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً؛ فإن البرد عدوٌ، سريع دخوله، بعيد خروجه".
وإنما كان عمر -رضي الله عنه- يكتب ذلك إلى أهل الشام لما فتحت في زمنه؛ لأنه كان يخشى على من بها من الصحابة وغيرهم ممن لم يكن له عهدٌ بالبرد أن يتأذى ببرد الشام، وذلك من تمام نصيحته، وحسن نظره وشفقته وحياطته لرعيته -رضي الله عنه-.
أيها المسلمون: إن مما لا يحتاج إلى برهان كثرةُ النعم التي تحيط بنا، ورغدُ العيش الذي يطغينا، توفر لدينا بحمد الله ما ندفع به آذى البرد وشدته، مما يجعل أحدنا يمر به موسم الشتاء بلا كدر ولا مرض، يبيت دافئاً مطمئناً على أهله وبيته، وهذه النعم بتذكرها واستشعارها توجب شكر المنعم وحمده عليها، فبالشكر تقيدِّ النعم وتزداد، وبتركه تزول النعم وتفقد، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
إن شكر النعم يجعلها تدوم على أصحابها في الدنيا، ويبقى شكرها ذخراً لهم في الآخرة؛ عن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة" أخرجه الطبراني وغيره.
عباد الها: إن شكر النعم قد يكون باللسان وذلك بأن نحمد الله ونثني عليه مقابل إنعامه علينا، وقد يكون الشكر بالفعل، ولذلك صورٌ متعددة: منها ترك الإسراف والتبذير، وترك المباهاة والتفاخر، ومنها أيضاً مواساة المحتاجين والفقراء ممن يبيتون في العراء، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، بلا سكن ولا مأوى، ولا لباس ولا غطاء، عصفت بهم الكوارث والنكبات، وشردتهم الزلازل والفيضانات، إنهم إخواننا وبعضهم من بني جلدتنا؛ فلنمد إليهم يد المعونة والمساعدة، ولنغنهم عن السؤال في هذ الأيام، ولنؤثر إخواننا ولو بفضل حاجتنا، وبما استغنت عنه أنفسنا من ملابس الأعوام الماضية ولنتذكر أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على رسوله الذي أصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتدى وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
فيا عباد الله: أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشتاء ربيع المؤمن".
قال ابن رجب رحمه الله في اللطائف: "وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسِّر فيه، كما ترتع البهائم في المرعى الربيع، فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقه ولا كلفه تحصل له من جوع ولا عطش فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام، جاء في المسند والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة"، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "ألا أدلكم على الغنيمة الباردة قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء".
وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كلَّه من القرآن وقد أخذت نفسه حظها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه. وكان ابن مسعود رضى الله عنه يقول: "مرحباً بالشتاء تنزل فيه البركة، يطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
ومن كلام يحيى بن معاذ: "الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقيٌ فلا تدنسه بآثامك".
أما عبيد بن عمير فكان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن طال ليلكم لقرائتكم فأقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".
عبد الله:
إذا كان يؤذيك حر المصيف *** ويبس الخريف وبرد الشتاء
ويلهيك حسن زمان الربيـع *** فأخذ بالعـزم قل لي متى؟
هذا وصلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم