عناصر الخطبة
1/ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم 2/الحلف بغير الله3/الحنث باليمين 4/تعظيم اليمين وتصديقها 5/اليمين الغموس 6/المستثني بمشيئة الله لا يحنث في يمينه 7/حكم الحلف بالقرآناقتباس
ومن العجب أن تجد واحداً من الناس عادته جعل اليمين لُجة في اللجاجة والخصومة، فترى الشخص يحلف على أمر ثم يجد أن المصلحة في الرجوع عنه، ومثاله أن يحلف أن لا يزور أخاه أو لا يأكل من طعام جاره ونحو ذلك ثم يظن انه لا مخرج له فيستمر على قطيعته وآثامه..
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأناديكم بنداء الله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)؛ أما بعد:
أيها المسلمون: إن للأيمان في الإسلام حرمة عظيمة وشأناً كبيراً؛ فلقد جاءت الشريعة بأحكام خاصة للأيمان تحفظ لها حرمتها وتوجهها الوجهة الصحيحة دون إفراط أو تفريط، ومن المؤسف جداً أن يشيع الجهل بهذه الأحكام في بعض أوساط المسلمين. مع كثرة انتشار الأيمان بينهم، ومع سيلانها على ألسنتهم غدواً وعشياً, إن أحكام الأيمان أحكام كثيرة ليس هذا مقام بسطها وتفصيلها ولو أردنا ذلك ما كفتنا هذه الدقائق المعدودة.
أيها الأخوة: دعونا نتفق أولاً أن الله -سبحانه وتعالى- أعظم من أن نجعله عُرضةً للغو والنكث وعدم الإيفاء بالمواعيد، الله أعظم وأجل من أن نجعل الحلف به دعاية لترويج السلع وفرض الولائم على الزائرين والزائرات، نقول ذلك لأنه يتكرر بين الناس هذه الأفعال حتى ألفوها واعتادوها؛ فتجد الرجل يحلف على ضيفه ويُضيق عليه أن يأكل ويأكل حتى يشبع، وآخر يحلف على صاحبه أن يأخذ تلك القطعة من نعاله أو لباسه، وذلك الزوج يحلف على زوجته إن تفعل كذا وتُعرض عن كذا فيجعل من أمرها عسرا، وتلك الأم تحلف على ابنها وذلك الأب يحلف على ولده وغير ذلك من صور، وهذا قليل من كثير وغيض من فيض وإلا فإن الأمر قد عمّ وطمّ وشاع وذاع.
أيها الأخوة: وفي هذه الكلمات -بمشيئة الله- تعالى سنقف مع مسائل عديدة في الحلف والأيمان وهي مسائل مهمة يهمنا جميعاً معرفتها وفقه معانيها. وأول هذه المسائل وهي أعظمها: مسألة الحلف بغير الله -جلّ وعلا-, فينبغي أن يُعلم أنه لا يجوز الحلف بغير الله جل جلاله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله"(رواه الشيخان).
وقد شاع التهاون بهذا في كثير من بلاد المسلمين فتسمع من البعض الحلف بالمخلوقين جهاراً نهاراً حتى اعتادوا عليه وألفوه -والعياذ بالله-, سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- عمر -رضي الله عنه- وهو يحلف بأبيه جهلاً منه بتحريم ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله ينهاكم عن الحلف بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت", ولقد ازداد الأمر سوءاً في بعض البقاع حتى هُجر تماماً الحلفُ بالله، وشاع وانتشر بضده الحلف بغيره، وكأن الأمر عندهم هين ألا إنه عند الله عظيم.
ومن ذلك أن تجد البعض قد اعتاد الحلف بالنبي أو بالنعمة أو برأس فلان وعلان، وكل ذلك من شرك الألفاظ كما نص على ذلك أهل العلم ونبهوا عليه مراراً وتكراراً، وإن تعجب فأعجب من هؤلاء القوم كيف يتساهلون بذلك وهم يسمعون الوعيد الشديد في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"(رواه الإمام احمد وغيره)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من حلف بالأمانة فليس منا"(رواه أبو داود).
وإنما نهى الشرع عن هذا الحلف لأن من حلف بأمر فإنما مقصده تعظيمه وتبجيله وليس ذلك إلا لله ولا يستحقه إلا الله -عز وجل- وعلى هذا الإجماع كما نقل ابن عبد البر -رحمه الله-، وقد قرر العلماء أن من حنث في حلف بغير الله فلا كفارة عليه لأنه قسمٌ غير شرعي ولا أثر له إلا الإثم، ويلزم التوبة منه.
أيها الأخوة: والمسألة الثانية من مسائل الأيمان والتي ينبغي التنبيه عليها والاهتمام بها هي: جواز الحنث باليمين للمصلحة الراجحة ولكن مع التكفير عنها فقد جاءت الشريعة بحمد الله سهلة سمحة ليس فيها إصرٌّ ولا غل ولا مشقة؛ فمن حلف على يمين ثم رأى المصلحة في الحنث بها فانه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير, فعن عبد الرحمن ابن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيراً منها فأتى الذي هو خير وكفر عن يمينك"(متفق عليه).
ومن العجب أن تجد واحداً من الناس عادته جعل اليمين لُجة في اللجاجة والخصومة، فترى الشخص يحلف على أمر ثم يجد أن المصلحة في الرجوع عنه، ومثاله أن يحلف أن لا يزور أخاه أو لا يأكل من طعام جاره ونحو ذلك ثم يظن انه لا مخرج له فيستمر على قطيعته وآثامه والواجب عليه أن يصل رحمه ويكرم جاره و يُكفر عن يمينه ويتوب إلى الله تعالى من زلته واستمع إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: " لئن يلج أحدكم في يمينه في أهله آثم له عند الله تعالى من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه"(متفق عليه)، وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها", وأما كفارة اليمين، فكما قال الله تعالى في كتابه: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم و احفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون).
أيها الإخوة: وفي هذه الآية مسائل عديدة منها: أن الله -تبارك وتعالى- ولرحمته بنا فإنه لا يؤاخذنا بتلك اليمين التي حلفنا بها بغير قصد ولا دراية بل جرت على ألسنتنا هكذا، كما فسرت ذلك عائشة -رضي الله عنها- بحديثها عنه -صلى الله عليه وسلم- وفيه قوله: (هو كلام الرجل في بيته) (لا والله) (وبلى والله) واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يدخل في لغو اليمين كذلك أن يعقد الحالف اليمين يظن صدق نفسه ثم يتبين أن الأمر بخلافه فهذان النوعان ليس على صاحبها إثم ولا كفارة.
ومن مسائل هذه الآية أن كفارة الحنث باليمين قد حددها الشارع بنص من كتاب الله والكفارة هي:
أولاً: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم كبار كانوا أو صغار والإطعام يكون بما يقارب الكيلو من الأرز مثلاً مع قطعة من اللحم لكل مسكين من هؤلاء العشرة أو كسوتهم فتكسو لكُلّ مسكين ثوباً وشماغاً للرجل أو جلباباً للمرأة من أوسط ما تلبسون وإلا كان الاختيار البديل وهو عتق رقبة والأحوط أن تكون مؤمنة خروجاً من الخلاف في هذه المسألة، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فصيام ثلاثة أيام متتابعة, وقد نبه العلماء إلى أن من صام ثلاثة أيام ولكنه فرق بينها فإنها لا تصح والكفارةُ باقية في ذمته وبعض الناس تجده يحنث بقسمه فيهرع للصيام وهو قادر على إطعام عشرة مساكين وفي ذلك مخالفة منه لأمر الله ولكنه الجهل الذي يورد صاحبه الموارد.
أيها الأخوة: ويختم الله -سبحانه وتعالى- تلكم الآية بقوله (واحفظوا أيمانكم) إنها الوصية الربانية لعباده كي يحفظوا أيمانهم فلا ينثروها عند هؤلاء وأولئك، وعند كل حقير وعظيم، ولكن هل يستمع الناس لهذه الوصية؟ وهل يستشعرونها في حياتهم؟ الواقع يشهدُ بغير ذلك، فعددٌ من الناس غفير يأتون يسألون عن المخرج فلقد حلفوا على أمور ثم نقضوها وحنثوا بها بل من عجيب ما ترى، أن تجد شاباً صغيراً جاء إلى أحد العلماء وقال له قد تزوجت منذ أيام قليلة وحتى الآن حلفت على زوجتي كذا مرة، فمن أين تعلم هذا الأمر؟؟ ومن رباه على هذا السلوك؟ من رباه على الحلف على كل صغيرة وكبيرة؟ ولذا كان من حكمة الله أن جعل للناس رادعاً من التساهل وعدم حفظ الأيمان فكانت الكفارة لمن لم يحفظها.
أيها الإخوة في الله: احفظوا أيمانكم.. وصية الله لعباده تكلم عنها العلماء وشرحوها؛ فهذا ابن عباس -رضي الله عنه- يقول: "احفظوا أيمانكم" يريد الله لا تحلفوا وقال آخرون: "احفظوا أيمانكم؛ أيّ من الحنث فلا تحنثوا"، وقال ابن جرير -رحمه الله-: "لا تتركوها بلا تكفير", وهذه الأقوال متلازمة فإنه يلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف بشان اليمين وعدم تعظيم الله -عز وجل-؛ إذ هو معنى القسم به -جل وعلا-.
ومن آثار التساهل في الأيمان في البيع: محق الكسب؛ كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وهذا حال من صرف رغبته إلى الدنيا فخف أمر اليمين عنده لقلة خوفه من الله وعدم استشعار رقابة الله لحاله. هذا وللكلام بقية فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أيها المسلمون: ومن المسائل المهمة في شأن الأيمان: أنه ينبغي أن يكون لليمين وقع في النفوس؛ فمن حُلف له في خصومة رضي، ومن حُلف له بالله في اعتذار قبِله بكل حفاوة، ومن حُلف عليه أن يفعل شيئا فليستجب حلف أخيه ما أمكن، وقد روى ابن ماجه بسند صحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحلفوا بآبائكم ومن حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرضى ومن لم يرضى فليس من الله".
وجاء في الحديث أن من حق المسلم على أخيه أن يبرأ قسمه، قال الفقهاء: فان امتنع هذا الأخ ولم يفِ بقسمك ويمينك فعليك الكفارة؛ لأنك سبب الحنث.
ومن المسائل المهمة في شأن الأيمان: ما يُلحظ عند بعض الناس من الحلف بالله كاذباً وهي اليمين الغموس التي من فعلها لقي الله وهو عليه غضبان. جاء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان".
ومن المسائل في هذا الباب: أن المستثني بمشيئة الله لا يحنث في يمينه، لماذا؟ لأنه علق العمل بما حلف عليه بمشيئة الله؛ فالحالف يقول بعد الحلف إن شاء الله، ومشيئة الله نافذة على كل شيء، قال -صلى الله عليه وسلم- بعد أن سرد حادثة سليمان -عليه السلام-: "لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركا لحاجته"(متفق عليه).
وعلى هذا فمن حلف على أمر ونطق بمشيئة الله فقال: والله إن شاء الله..؛ فلو ترك ما حلف عليه, فإنه لا كفارة عليه.
أيها الأخوة: وكثير من الناس يتساءل عما يسمعه من فعل بعض الناس من الحلف بالكعبة, والصحيح أنه لا يجوز الحلف إلا بربها وخالقها.
أما القرآن فإنه يجوز الحلف به، قال الشيخ ابن عثيمين: "الحلف بالقران تنعقد به الأيمان لأن القرآن صفة من صفات الله". وقال الشيخ -رحمه الله- حول القسم بآيات الله: "إن كان المراد الآيات الكونية كالشمس والقمر والليل والنهار فإنه لا يجوز الحلف بها لأنها مخلوقة وإن أراد الآيات الشرعية؛ أي القرآن المنزل على رسوله فهو كلامه -سبحانه وتعالى- ويجوز الحلف بها -أيّ هذه الآيات-؛ لأنها من صفاته. ونبه العلماء إلى أن من حلف بغير قصد فإنه لا عبرة بيمينيه؛ فلو حلف المجنون أو (المهذري) الذي خرف بكبر سنه، وكذا السكران، والحالف وهو نائم في حلمه، والغضبان، وكذا الصبي الصغير الذي لا يميز، أما المميز غير البالغ ففيه خلاف والأحوط وجوب تكفيره عن يمينه إذا حنث.
أيها الأخوة: هذه بعض المسائل العابرة في هذا الموضوع المهم، ومن استمع لها وتأمل في ثناياها علم أن القول فصل ليس بالهزل وإنما ذكرناها للذكرى فهل من مدكر؟ نسأل الله أن نكون كذلك، اللهم جنبنا الزلل في القول والعمل.
عباد الله: صلوا على نبيكم؛ فلقد أمركم الله بذلكم اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم