هبة الله

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ الله- حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

إخوة الإيمان: سافر أبناء عمر بهاء الأميري ولما ودعهم اشتد فقدهم عليه وتلمس آثارهم في كل زاوية من البيت فتساءل قائلاً:

أين الضجيجُ العذب والشغب *** أين التدارس شابه اللعب؟

أين الطفولةُ في توقدها *** أين الدمى في الأرض والكتبُ؟

أين التسابقُ في مجاورتي *** شغفا إذا أكلوا وإن شربوا؟

يتزاحمون على مجالستي *** *** والقرب مني حيثما انقلبوا؟

فنشيدهم: بابا إذا فرحوا *** ووعيدهم: بابا إذا غضبوا

بالأمس كانوا ملء منزلنا *** واليوم، ويح اليوم قد ذهبوا

ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهم *** في القلب، ما شطوا وما قربوا

حتى إذا ساروا وقد نزعوا *** من أضلعي قلباً بهم يجب

قد يعجب العذال من رجل *** يبكي، ولو لم أبكي فالعجب

هيهات ما كل البكا خور *** إني وبي عزم الرجال أبُ

نعم الأبناء هم الحياة هم أكبادنا تمشي على الأرض، هذه مشاعر أبٍ؛ فكيف بمشاعر الأم إنها تربو على ذلك أضعاف أضعاف، وحتى نسعد بذريتنا وتنعم أُسرنا بالسعد والمسرات علينا أن نستشعر أن أن الذرية هبة الله وأن أعظم وظيفة لنا في الحياة هي أن نقوم على تربيتهم وإصلاحهم لنسعد بهم ويسعدوا بنا دنياً وأخرى.

علينا أن نشكر الله على نعمة الأسرة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ونشكره على نعمة الذرية فهي هبة الله وعطيته، (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) علينا أن نلهج لله عز وجل بقولنا (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف: 15]

ومن شكر هذه النعمة أن نعلمهم ونؤدبهم ونسهم في بنائهم ليكونوا لبنات صالحة لأنفسهم وأهليهم ومجتمعهم ووطنهم وأمتهم، فالمسؤولية عظيمة جداً لذا قال -صلى الله عليه وسلم-: “كُلُّكُمْ ‌رَاعٍ ‌وَمَسْئُولٌ ‌عَنْ رَعِيَّتِهِ، ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا" رواه البخاري.

علينا أن نربيهم على محبة الله وتوحيده والإيمان به وصرف جميع العبادة له والحذر كل الحذر من الشرك ومظاهره قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)

علينا أن نربيهم على تعظيم شأن الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها في بيوت الله فهي صلتهم بربهم وهي سر فلاحهم، فالمنادي يناديهم عند كل فريضة “حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح” ولذا كان من دعاء إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) إن ترك الصلاة وتضييعها كفر بالله -عز وجل-؛ فعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر” رواه الإمام أحمد وصححه الألباني، وعن جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة” رواه مسلم.

قال عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: “وَلَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ” رواه الإمام مالك

عباد الله: ومن شكر نعمة الأبناء أن نربطهم بكتاب الله تلاوة وحفظاً فإنه من أعظم أسباب الفلاح والنجاح والتوفيق والهدى (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ومن ذلك أن نلحقهم بحلقات تحفيظ القرآن الكرم، يقول الأمام أحمد رحمه الله: توفي والدي وأنا طفل فحفظتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات وكانت أمي تلبسني اللباس، وتوقظني، وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر، وأنا أبن عشر سنوات، وكانت تختمر وتتغطى بحجابها وتذهب معي إلى المسجد؛ لأن المسجد بعيد؛ والطريق مظلمة. وهذا الإمام الشافعي -رحمه الله- توفي والده وعمره سنتان فألزمته أمُّه حفظَ القرآن الكريم، فأتمَّه وهو ابن سبع سنين، ثم أقبل على مَعين السُّنَّة ينهلُ منها، فحفظ الموطَّأ وهو ابن عشر سنين، ثم أخذ يطلب العلم في مكة حتى أُذنَ له بالفتيا وهو دون عشرين سنة.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد:

عباد الله: ومن شكر نعمة الأبناء أن نربيهم على محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتأسي والاقتداء به: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)

علينا أن نربيهم على تعظيم شعائر (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فالحلال ما أحل الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) وقال رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" رواه مسلم.

علينا أن نربيهم على الحياء قال -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ” رواه ابن ماجه. -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ” رواه البخاري ومسلم. وفي حديث آخَر: “الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ” رواه مسلم.

ومن الحياء للذكور: التحلي بالرجولة والفتوة والحرص على الستر في الملبس والبعد عن سيء الأخلاق.

ومن الحياء للنساء: أن تحافظ الفتاة على الحجاب والستر، والبعد عن الخلوة بالرجال ولين الكلام والضحك والخضوع لهم بالقول قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) هذا الخطاب لأطهر النساء زوجات النبي فغيرهن من باب أولى، علينا أن نربي فتياتنا على أن لبس الحجاب عبادة وطاعة لله وليس عادة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).

ومن الحياء: ألا يتشبه الرجال بالنساء ولا النساء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ ، وَقَالَ: “أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ” رواه البخاري وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: “لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ” رواه أبو داود وصححه الألباني.

علينا أن نربي أنفسنا وأسرنا على أن السبيل إلى دخول الحنة أن تُكره النفوس على طاعة الله وتصبر على التكاليف التي أمرها الله بها وأن السبيل للنجاة من النار البعد عن الشهوات المحرمة التي يزينها الشيطان ودعاته وتميل إليها النفس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ” قَالَ: “فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا” رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.

عباد الله: إن الفوز العظيم أن يجتمع المسلم بأهله وأسرته في جنة الله (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

ونربيهم على أن الخسران البين العظيم أن يخسر نفسه وأهله فيكون من أهل النار عياداً من ذلك: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ).

اللهم اجعل ذرياتنا قرة أعين لنا، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم وهدايتهم وأجعلهم مقيمين للصلاة يا حي يا قيوم.