نظرات في سيرة أبي بكر الصديق

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/ مناقب الصديق رضي الله عنه 2/ خصوصية علاقته بالنبي الكريم 3/ استخلاف النبي الكريم له في الصلاة بالناس عند مرضه 4/ وفاته رضي الله عنه

اقتباس

انظر إليه -رضي الله تعالى- عنه وقد مر ببلال يعذب فيقف عند سيده ويصرف من حُر ماله ليخلص من بلال من هذا العذاب، ثم يقول أنت معتق لوجه الله! فيمر بعده بأيام فإذا زنيرة -رضي الله عنها- تعذب فيشتريها بماله ويعتقها لوجه الله! ثم يمر بعدها بأيام وإذا عامر بن فهيرة يعذب فيشتريه بحر ماله -الذي ربما يجمعه غيره لينعم في بيته وفرشه ودوابِّه- لينصر به الدين، يشتري عامر بن فهيرة ثم يعتقه أيضا لوجه الله تعالى ..

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والنظير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه؛ أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّرَ به من الجهالة، وكَثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العَيلة، ولمّ به بعد الشتات؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتَّصَلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الأخوة الكرام: لقد بعث الله تعالى نبينا وسيدنا محمدا -صلى الله عليه وآله وسلم- بالهدى والنور، واصطفاه الله تعالى على البشر، ثم اصطفى الله تعالى له أصحابا خُيَّرَاً كانوا حريصين على الخير، داعين إليه.

قال عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: من كان منكم مُسْتَنَّاً فليستنَّ بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. وكان يوجه التابعين -رضي الله عنهم- ويقول إذا أردتم قدوة في الخير فاستنوا بأصحاب رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

قال: من كان منكم مستناً فليستن بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ ثم عبد الله بن مسعود: أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبا، وأصدقها ألسُنا، وأثبتُها عند اللقاء، فكان يأمر الناس أن يقتدوا برسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

ولقد كان نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه- يذكر نماذج من الأمم السابقة، نماذج لغير الأنبياء من عامة الناس؛ لأجل أن تقتدي بها أمته، سواء من أصحابه الذين يسمعونه، أو من إخوانه الذين يأتوا من بعدهم.

فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قصة الثلاثة اللذين كانوا يمشون فأصابهم مطر، فآواهم المبيت إلى غار، ثم انطبقت عليهم صخرة حتى وقع لهم ما وقع من دعاء الله تعالى بأعمالهم الصالحة وخرجوا؛ وكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لأصحابه اقتدوا في العفة بذاك الذي عف عن ابنة عمه وهي أحب الناس إليه، اقتدوا في الأمانة بذاك الذي حفظ المال لذاك الأجير، اقتدوا ببر الوالدين بذاك الذي وقف باللبن على رأس أبيه وأمه حتى استيقظ؛ وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في موطن أخر قصة جوريد العابد وكيف أنه ابتلي في عرضه حتى نجاه الله تعالى من ذلك.

أيها المسلمون: إن منهج ذكر أخبار الصالحين هو منهج نبوي، بل إنه منهج رباني ذكره الله تعالى في كتابه، ذكر الله -جل وعلا- أخبارا من أخبار الصالحين في كتابه؛ لأجل أن يقتدوا بهم، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضا شيئاً من ذلك.

فتعالوا اليوم نقف مع صحابي جليل هو خير الأمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هو صاحبه إذ هما في الغار، هو الذي ثبَّت الله تعالى به المؤمنين في يوم الردة؛ تعالوا نقف مع عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي -رضي الله عنه- المشهور بــــ: أبي بكر الصدِّيق.
 

أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- له القدح المعلى عندما يذكر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكيف لا يكون كذلك والنبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة يثني على أبي بكر، ويذكر انتفاعه -عليه الصلاة والسلام- وانتفاع الإسلام بمال أبي بكر، وصحبة أبي بكر، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما نفعني أحد كما نفعني أبو بكر، وما امتنَّ عليَّ أحدٌ بماله وصحبته كما امتنَّ عليَّ أبو بكر؛ وأبو بكر -رضي الله تعالى- عنه يخفض رأسه ويبكي!.

وكان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- من أوائل الذين أسلموا، بل هو أول من أسلم من الرجال، كما أن خديجة -رضي الله تعالى- عنها هي أول من أسلمت من الناس، وأن عليَّاً -رضي الله عنه- وكان غلاما صغيراً لما جاء بالإسلام هو أول من أسلم من الغلمان.

أسلم أبو بكر فكان شعلة يقتدى بها في الدعوة إلى الخير، وتعبيد الناس لرب العالمين، حتى أسلم على يده في مكة وحدها قبل أن يهاجر إلى المدينة أكثر من ثلاثين صحابي، ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة!.

فانظر إلى نشاطه، انظر إلى حرصه، انظر إلى احتراق قلبه في سبيل أن يدعو إلى الإسلام! وكان أبو بكر محبا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، معظما للدين، باذلا لجهده وماله في سبيل أن يحيي الله تعالى راية الإسلام، وأن يرفعها.

انظر إليه -رضي الله تعالى- عنه وقد مر ببلال يعذب فيقف عند سيده ويصرف من حُر ماله ليخلص من بلال من هذا العذاب، ثم يقول أنت معتق لوجه الله! فيمر بعده بأيام فإذا زنيرة -رضي الله عنها- تعذب فيشتريها بماله ويعتقها لوجه الله! ثم يمر بعدها بأيام وإذا عامر بن فهيرة يعذب فيشتريه بحر ماله -الذي ربما يجمعه غيره لينعم في بيته وفرشه ودوابِّه- لينصر به الدين، يشتري عامر بن فهيرة ثم يعتقه أيضا لوجه الله تعالى، حتى بلغ من أعتق من اللذين يعذبون في مكة قرابة عشرة ما بين رجال ونساء!.

يشتري بحُرِّ ماله، حتى قال له أبوه يوماً أبو قحافة قبل أن يدخل في الإسلام: يابني، إنما الناس إنما يعتقون من المماليك من لهم قوة، ومن لهم شيء من الخبرة والعتاد، وأنت يا بني تعتق هؤلاء الضعفاء. يعني أولئك يعتقون العبيد الأقوياء ليكونوا سندا لهم وموالى بين أيديهم وإن كانوا لا يملكونهم، وأنت تعتق هؤلاء الذين لا تستفيد منهم. فقال: يا أبي، إنما أرجو بعتقهم ما عند الله -سبحانه وتعالى-.

وقال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: ما عرف أحد أبداً في الدنيا أدرك هو وأبوه وابنه وابنه... أربعة، كلهم أدركوا النبي -عليه الصلاة والسلام- وصاروا صحابة إلا أبو بكر؛ فإن أباه قحافة الصحابي أدرك النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأبو بكر صحابي أدرك النبي -عليه الصلاة والسلام-، وابنه عبد الرحمن صحابي أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبو بكر بن قحافة صحابي أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهم أربعة أجيال تناسلت تباعاً، وكلهم أدركوا النبي -عليه الصلاة والسلام-.

أبو بكر كان -رضي الله تعالى عنه- أفهم الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وربما فهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يفهمه غيره، انظر إليه وقد حضر الصحابة جميعا خطبة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فإذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: "إن عبدا من عباد الله خيره الله تعالى بين الخلود في الدنيا وبين ما عند الله، فاختار هذا العبد ما عند الله".

وإذا الصحابة يستمعون ويقع في نفوسهم أنه مثل لعبد تعلق قلبه بالآخرة، فإذا بأبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وكان محتبيا ضاما ركبتيه إلى صدره، إذا به يسند جبهته على ركبتيه وله نشيج من البكاء، ثم رفع رأسه ونظر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: نفديك بأرواحنا يا رسول الله، فعجب الصحابة وقالوا: ما بال هذا الشيخ يبكي؟!.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولها في أواخر حياته، وأبو بكر قد شابت لحيته، فإنه كان بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط سنتان من العمر، قال الصحابة: عجباً! مال بال هذا الشيخ يبكي وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قصة رجل من الرجال؟! النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن رجل معين وأبو بكر يبكي!.

فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بكاءه وسمعه وهو يقول: نفديك بأرواحنا يا رسول الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله لو كنتُ متَّخِذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وما امتنَّ عليَّ أحدٌ بصحبته ولا ماله كما امتنَّ عليَّ أبو بكر"، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولكن صاحبكم خليل الرحمان".

فكان -صلى الله عليه وسلم- يعرف معنى هذه الدموع التي تخرج من عين أبي بكر الطاهرة، ويرى نشيجه، ويرى انتفاضه، ويرى دموعه تسيل على لحية بيضاء، ويعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- صدق أبي بكر في محبته -عليه الصلاة والسلام-.

وكان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- رجلا منفقا في الخير، حريصا عليه، وكان يتتبع الفقراء، بل زد على ذلك أنه كان يكفل عددا من قرابته ممن كانوا فقراء من أبناء عمه وقرابته، وكان يتتبعهم وينفق عليهم.

ولما وقع ما وقع من الاتهام للصدِّيقة بنت الصديق أُمنا جميعا عائشة -رضي الله عنها- لما اتهمها المنافقون في قصة الإفك، وانتشر الخبر، وتناقله بعض الناس، كان من ضمن اللذين تناقلوه ونشروه رجل من الصحابة اسمه مسطح، وكان فقيراً معدما، لكنه كان قريبا من أبي بكر نسبا، فكان أبو بكر ينفق عليه تباعا، ينفق عليه ويرسل إليه المال، فإذا بهذا الرجل يكافئ أبا بكر بأن يكون ممن ينشرون خبر الإفك عن ابنة أبي بكر! أنفق عليك وتتكلم في عرضي؟! أنفق عليك من حُر مالي ثم لا تجد شيئا تتكلم به عليَّ إلا ابنتي!.

فلما أنزل الله تعالى براءة عائشة في القرآن، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ...) [النور:11]. وجعلت الآيات تتتابع في براءة أمنا زوجة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الصدِّيقة بنت الصديق، ثم جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين افتروا ثم جلدهم حد القذف؛ فلما رأى أبو بكر أن مسطحناً كافأه على إنفاقه بأن تكلم عن ابنته واتهمها بالإفك، توقف عن الإنفاق عليه، قال: والله لا أنفق عليك بعد اليوم أبداً؛ فأنزل الله تعالى قوله -جل وعلا-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) [النور:22].

سامِـحْهُ يا أبا بكر! اُعْفُ عنه يا أبا بكر! فكأنك بأبي بكر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلو عليه هذه الآيات، كأنك به وهو الأسير الرقيق ينتفض باكيا وقد خفض رأسه والنبي -عليه الصلاة والسلام- يتلو عليه: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22].

فجعل أبوبكر يبكي ويقول: بلى! أُحِبُّ. بلى! أحب، يعني أحب أن يغفر الله لي؛ أنا لماذا تركت بلدي؟ هل ذلك إلا طلباً لهذه المغفرة؟ أنا لماذا أنفقت مالي؟ أليس إلا طلبا لهذه المغفرة؟ أنا لماذا جاهدت في سبيل الله؟ أليس ذلك إلا طلباً لهذه المغفرة؟ أنا لماذا اشتريت بلالا وعامراً وزنيرة وغيرهم، أليس ذلك إلا طلباً لهذه المغفرة؟ أنا لماذا صبرت على أذى الكافرين؟ أليس ذلك إلا طلباً لهذه المغفرة؟ آتي الآن وأضيعه بقرار؟ كلا! قال: بلى! أُحِبُّ أن يغفر الله لي. بلى أحب أن يغفر الله لي.

ثم يأتي بقديمه إلى بيت مسطح الذي تكلم لسانه في عائشة -رضي الله عنها-، وتكلم في عرضها، ويخرج من حر ماله ويعطيه لمسطح، طاعة لله -سبحانه وتعالى-؛ قال الله -جل وعلا-: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:17-21]. أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-.

وقد استخلصه النبي -صلى الله عليه وسلم- واختاره من بين جموع الصحابة ليصاحبه في رحلته الخطيرة التي هي أخطر رحلة في التاريخ، أخطر من رحلة موسى عليه السلام لما خرج من مصر إلى مدين، وأخطر من رحلة غيره من الأنبياء، أخطر رحلة في التاريخ، رحلة الهجرة، وإذا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- يبحث عمن يأتمنه على نفسه، ويأتمنه على سِرِّه، ويأتمنه على دينه، ويأتمنه على كل شيء، فلا يجد آمَن ولا أقوى ولا ألزم ولا أوثق من أبي بكر -رضي الله عنه-.

فأتى إليه في حَر الظهيرة فقال له: "إن الله قد أذن لي بالهجرة"، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله! فبكى أبو بكر؛ قالت أسماء -وكانت أكبر من عائشة، وهم صغار-: فنظرتُ لأبي فإذا هو يبكي، فلم أكن أظن أن أحدا يبكي من الفرح إلا لما رأيت أبي يبكي تلك الساعة.

وخرج، ويعطشان في وسط الطريق، ويمران بخيمة لامرأة اسمها أم معبد، فيستسقيانها لبناً، فتقول إن الغنم قد خرج بها زوجي، ما عندي إلا هذه الشاة الحائل الضعيفة حبسها الهزال والضعف عن الخروج، ما تستطيع تمشي فجلست عن المرعى، فجاء النبي -عليه الصلاة والسلام- ومسحها ومسح ضرعها فإذا به ينطلق لبناً ويمتلئ.

فأقبل أبو بكر بإناء فجعل يحلب حتى ملأه باللبن، ثم ناوله النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اشرب أنت يا أبا بكر"، قال: بل اشرب أنت يا رسول الله، فشرب النبي -عليه الصلاة والسلام- مُسقة منه، ثم ناوله إياه؛ قال أبو بكر: اشرب يا رسول الله، فشرب النبي -عليه الصلاة والسلام- مرة أخرى، ثم مده إلى أبي بكر فقال: اشرب يا رسول الله، قال أبو بكر بعدها: فوالله إني لأنظر لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- يشرب ويشرب، فوالله ما زال يشرب من اللبن حتى رَوِيتُ!.

يقولُ إنه ما زال النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرب وأنا أشعر بالارتواء والشبع في داخلي! كأنهما روحان حلَّا بدَنا، عطش النبي -عليه الصلاة والسلام- هو عطشه، وجوعه هو جوعه، وارتواؤه هو ارتواؤه، وشبعه هو شبعه، إذا عطش النبي -عليه الصلاة والسلام- كأنما نزل العطش بأبي بكر -رضي الله تعالى عنه-؛ لذا كان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- في حكمته وفي شجاعته وفي وزارته للنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يكن كغيره من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم جميعا-.

ولما مرض النبي -عليه الصلاة والسلام- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يمر بذاكرته على كل أصحابه فيمر عليهم جميعاً، ثم يقف عند أبي بكر فيقول: "مُرُوا أبا بكر فلْيُصَلِّ بالناس"؛ وأبو بكر رجل بكَّاء، إذا وقف في مقام النبي -عليه الصلاة والسلام- غلبه البكاء، فلم يكد الناس يسمعون قراءته من شدة البكاء، فقالوا لمن عنده من زوجاته: اقترحن عليه. قالا يا رسول الله! لعله يصلي بهم عمر. قال: "مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس".

فلما خرجوا فإذا عمر -رضي الله عنه- قد تقدم بالناس فصلى، فسمع النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو على فراش مرضه يُغَمُّ عليه مراراً، سمع صوت عمر فغضب وقال: أين أبو بكر؟ يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر. أين أبو بكر؟ أين أبو بكر؟ ومنع النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدا أن يصلي بهم إلا أبا بكر.

وكأنه يقول: إذا أنا غير موجود فأبو بكر هو الذي بعدي، إذا أنا غائب عنكم مباشرة تذهبون إلى أبي بكر، إذا أنا مت فأبو بكر الخليفة من بعدي! قال عمر -رضي الله عنه-: وكيف لا نرضى أبا بكر لدنيانا وقد رضيه النبي -عليه الصلاة والسلام- لديننا؟.

وجاءت امرأة -كما في الصحيحين- إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فأمرها بأمر، يعني أن تأتي إليه بعدها، فقالت: "أرأيت إن لم أجدك؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر". إذا أنا غير موجود معناها أبو بكر هو الخليفة من بعدي، هو الذي يكون إماما على المسلمين، هو الذي يكون حاكما ولا ينازع في ذلك أبدا؛ عرف الصحابة جميعاً ذلك.

انظر إلى محمد بن الحنفية -رضي الله تعالى عنه- ابن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهما- لما وقف بين يدي أبيه يوما، قال: يا أبتِ: مَن خير صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ مَن خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال له علي -رضي الله تعالى عنه- قال: خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أبو بكر؛ قال: ثم مَن؟ قال: ثم عمر؛ ولما قال ثم عمر خشي أن يقول له ثم مَن فيقول عثمان، قال: ثم أنت يا أبي؟ قال له: يا بني، إنما أبوك رجل من المسلمين!.

فكان علي -رضي الله عنه- يقر بذلك، وعمر يقر بذلك، وكل الأمة تقر لأبي بكر -رضي الله تعالى عنه- الإمام، واجتمعوا على أنه الخليفة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

نسأل الله تعالى أن يلحقنا بهؤلاء الصالحين، وأن يجعلنا معهم في أعلى عليين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن صار على نهجه واقتفى أثره واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأخوة الكرام: سئل أبو جعفر الصادق -رضي الله تعالى عنه ورحمه- عن أبي بكر، فقال: ولدني أبو بكر مرتين. يعني أنه يتصل بأبي بكر مرتين من جهة الأم ومن جهة الأب في النسب.

فكان أئمة آل بيت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من أحفاد علي -رضي الله تعالى عنه- بل حتى من أحفاد غيره من آل البيت، كلهم يعلمون لأبي بكر الفضيلة والتقدم بينهم؛ لذلك كان من أبناء الحسن من سماه أبا بكر، ومن أبناء الحسين من سمي بأبي بكر، ومن أبناء من جاء من بعدهم من آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يسمون بأبي بكر -رضي الله تعالى عنه-.

أما عن وفاته -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: كان أول الأمر بأبي بكر -رضي الله تعالى عنه- أنه اغتسل في غداة باردة، قالت: فأصابته حمى، فلم يزل فيها خمسة عشر يوما حتى مات.

وكان -رضي الله تعالى عنه- خلال مرضه قد أوصى إلى عمر بأن يصلي بالناس، ثم أوصى إلى عمر -رضي الله تعالى عنه-، بالخلافة فاجتمعت الأمة بعد أبي بكر على عمر -رضي الله تعالى عنهم جميعا-.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضى عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.

 

 

 

 

 

المرفقات

في سيرة أبي بكر الصديق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات