عناصر الخطبة
1/ قيام السورة على إخلاص التوحيد لله 2/ سبع مقارنات بين الفريقين: المؤمنين والكافرين 3/ المسجد روح المجتمع الإسلامي 4/ زيارة إمام المسجد النبوي لمسجد عمرو بن العاصاقتباس
إن سورة الزمر -كما أبنَّا- تقوم على محور واضح هو إخلاص التوحيد لله، ونفي النقص، وإثبات الكمال لله في جميع الشؤون، والمؤمن يدرك من أعماق قلبه أن الله -جل شأنه- هو... في سورة الزمر سبع مقارنات بين الفريقين، نريد أن نذكرها ثم نرى التعقيب القرآني عليها، وقبل أن نذكرها نريد توجيه الأنظار إلى إشارة بلاغية في هذه المقارنات، فأحيانًا يحكي القرآن المقارنة بين الطرفين فيثبت...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فقد شرحنا في الجمعة الماضية صدر سورة الزمر، ومع التفسير الموضوعي للقرآن الكريم نمضي في استكمال هذه السورة المباركة، آملين أن يجعلنا الله ممن قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
إن سورة الزمر -كما أبنَّا- تقوم على محور واضح هو إخلاص التوحيد لله، ونفي النقص، وإثبات الكمال لله في جميع الشؤون، والمؤمن يدرك من أعماق قلبه أن الله -جل شأنه- هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ما من شيء إلا وهو خالقه، وما من خير إلا وهو سائقه، وما من ضوء إلا وهو مشرقه، وما من رزق إلا وهو رازقه، وما من أمر إلا وهو مدبره، والله -سبحانه وتعالى- يسبح كل شيء بحمده، ويهتف بمجده، ويعنو أمام وجهه، ويشعر بالذل في ساحته، أكرم منزلة للإنسان أن يكون بين يدي ربه راكعًا أو ساجدًا يقول: سبحان ربي العظيم أو سبحان ربي الأعلى.
وقد تضمنت سورة الزمر مقارنات بين الفريقين: الفريق الذي آمن ووحَّد ونزَّه وانتقل التوحيد في حياته من التوحيد في العقيدة إلى التوحيد في العمل والسلوك، فأصبح مؤمنًا ظاهرًا وباطنًا. والفريق الذي اختلطت عليه الأمور وتوزعته الأهواء في كل ناحية.
في سورة الزمر سبع مقارنات بين الفريقين، نريد أن نذكرها ثم نرى التعقيب القرآني عليها، وقبل أن نذكرها نريد توجيه الأنظار إلى إشارة بلاغية في هذه المقارنات، فأحيانًا يحكي القرآن المقارنة بين الطرفين فيثبت الطرفين معًا، وأحيانًا يذكر طرفًا ويسكت عن الطرف الآخر.
المقارنة الأولى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، كمن هو نائم ملء أجفانه لا تؤرقه فكرة ولا يزعجه عن الكسل والخمول والخنوع إيمان أو تهجد أو رغب في طاعة الله؟! أيستوي الكسول والنشيط؟! أيستوي الخامل والناهض؟! أيستوي من طهر فمه بتلاوة القرآن ومن أغلق فمه فلم يتلُ حرفًا؟! والواقع أن المجتمع المتدين يفرقه عن المجتمع الملحد فارق، فإن الإنسان منا قد يكون في كيانه فضل نشاط وزيادة حركة فلا يكفيه النهار حتى يضم إليه الليل، فإن كان المجتمع مؤمنًا كان نشاطه الليلي أبيض، يصرفه في قيام الليل وأداء العبادات ومناجاة الله، وأما إذا كان المجتمع منحلاً أو ملحدًا فإن نشاطه بالليل يَحْمرُّ من الأعراض المذبوحة والحرمات المسفوكة والحدود المضيعة.
ولا تزال الفوارق قائمة، فليالي المؤمنين بيضاء لأنهم يقومونها في طاعة الله، أما ليالي الفاسقين فحمراء؛ لأنهم يذبحون الشرف فيها.
لا تزال الفوارق قائمة، فليل المؤمن كما قال الله تعالي: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ).
أو كما قال الشاعر:
في ظلام الليل منفردًا *** قام يدعو الواحد الصمدَ
عـابد لم تُبقِ طاعتُه *** منه لا روحًا ولا جسدًا
المقارنة الثانية: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ).
وهذه المقارنة كسابقتها حذف فيها طرف وأثبت فيها طرف، وهنا أثبت الطرف الخسيس الذي حق عليه كلمة العذاب لأنه زاغ وضل، والله -جل شأنه- يجعل إضلاله عقوبة لمن استحق في تفكيره ولمن شرد في مسلكه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).
فالذي يضل ويستكبر ويتجبر ويطغى يضله الله وينسج على بصيرته غشاوة سوداء، وعندئذ لو تجمع أهل الأرض على استنقاذه من ضياع الدنيا وبوار الآخرة لعجزوا عن أن ينجوه من بطش الله.
أفمن حق عليه كلمة العذاب لأنه تكبر وطغى فأضله الله وأذله كمن عاش على نحو آخر استحق به أن يلهمه الله رشده وأن يتم له نوره وأن يحفظ عليه نعمته؟!
هذه المقارنة يدل عليها ما ذكر بعدها مباشرة: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ).
المقارنة الثالثة: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
وهذه المقارنة كسابقتها ذكر فيها طرف وحذف فيها طرف، إلا أن الذي ذكر هنا هو النوع الطيب، والذي طُوي النوع الخبيث.
ما الذي تعنيه كلمة (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)، يمكن أن تعني هذه الكلمة أمرين:
الأمر الأول: أن الكافر يأكل فلا يدري مَنْ رزقه، ويشرب فلا يدري مَنْ سقاه، ويكتسي فلا يدري من ستره، ويصح ويرزق العافية فلا يدري من أسبغ عليه خلل العافية، ومنحه ما يستمع به من قوة في حواسه ومشاعره، وفي هذا النوع من الناس يقول الله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
أما المؤمن فإنه يأكل ويشكر، يعرف أن ما عنده من فضل هو خير الله ساقه إليه، كان النبي إذا فرغ من طعامه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين". وقال: "من لبس ثوبًا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوه غفر له ما قدم من ذنبه وما تأخر".
المؤمن الذي على نور من ربه يدرك أن ما فيه هو أمر الله وخيره وفضله، فإن كان يرضيه شكر، وإن كان يتعبه صبر، لأنه على نور من ربه، لأنه يعرف أن كل شيء من الله.
المعنى الثاني للنور: أن المؤمن المستنير في حياته يجعل هواه تبعًا لما جاء به الإسلام، فهو إذا أمر اللهُ قال: لبيك أنا أول من يطيع، وإذا نهى اللهُ قال: أنا أول من يجتنب، إذا كان هناك لله حد كان أول من يحفظه، وإذا كانت هناك وصية كان المنفذ المحب لها، فهو في الحلال والحرام، وفي الخير والشر، وفي الأمر والنهى، يمشي متبعًا أمر الله مستنيرًا بتعاليمه، صافًّا قدميه على الصراط المستقيم، وماضيًا إلى الهدف؛ لأنه على نور من ربه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا).
هذه الآية ذكرت الطرفين: الذي في الظلمات ليس بخارج منها، والذي استنار بأمر الله، أما آية الزمر فقد ذكرت طرفًا وطوت الطرف الآخر: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)، أي كمن هو في الظلمات ليس بخارج منها؟!
ونلاحظ أن القرآن الكريم يتحدث فيه رب العزة عن قيمة هذا القرآن في أعقاب كثير من المقارنات، وهنا يقول الله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
ومعنى هذا أن القرآن خير الكتب؛ لأنه كتاب لا ريب فيه، وهو أحسن الحديث لأنه لا خداع فيه ولا ختل ولا كذب فيه ولا انحراف، وكلمة (مُتَشَابِهًا) تحتاج إلى شرح، ففي سورة آل عمران يقول الله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ).
المحكم هنا: ما تحدث عن العقائد والأخلاق والأحكام والعبادات والفضائل وما إلى ذلك، وهو أم الكتاب؛ لأن التكليف به، ولا يتحمل آراءً شتى.
والمتشابه هنا: ما تحدث عن الله وذاته وصفاته، ولما كان العقل الإنساني قاصرًا بطبيعته عن أن يدرك أبعاد ما وراء المادة فإن الحديث في المتشابه رفض، وقد قيل: إن العقل يدري الكثير ولكنه لا يدري نفسه ما هو، كما أن الأسنان تقضم الطعام ولكنها لا تقضم نفسها.
هذا هو المحكم والمتشابه في سورة آل عمران، لكن قد يطلق على القرآن كله أنه محكم، وقد يطلق على القرآن كله أنه متشابه، ومعنى أن القرآن كله محكم أنه محبوك الصياغة دقيق المعاني، يستحيل أن يتطرق إليه تناقض أو أن يتسلل إليه لغو أو وهم، ومعنى أن القرآن كله متشابه أنه يهدي الناس إلى حقائق محددة ويجري إلى غايات معينة، ففي سورة يونس يقول الله سبحانه: (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ).
هذا المعنى الذي نزل في مكة هو هو الذي نزل في المدينة بعد عشر سنين في سورة آل عمران في قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
وكلمة (مَثَانِي) تعنى أنه يتضمن الخوف والرجاء والأمر والنهي والوعد والوعيد والنعيم والجحيم، وكثيرًا من المتقابلات التي يحتاج الناس إليها لضبط سلوكهم، وتحديد مواقفهم في دنياهم.
وكلمة (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) تحتاج إلى شرح، فإن أثر القرآن الحقيقي ليس في تصايح الحمقى، وليس في هذا الجؤار الهمجي الذي يصحب تلاوة القرآن كما نرى في بعض الأماكن؛ ما يدل على عدم الوعي وقلة الفقه، بل التأثر الحقيقي أن ترى إنسانًا اخترقت الهدايات السماوية كيانه، واستقرت في قلبه، فجعلته خلقًا آخر، لأن روح القرآن شرحت صدره، ورفعت مستواه، وجعلته يحس من جلال الله ما يرتعد به بدنه، أو من بشاشة الرحمة الإلهية ما يفتح أقطار نفسه على أمل كبير وخير كثير.
المقارنة الرابعة: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).
ومعنى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فتسود ملامحه، وتنطمس معالمه، ويكسو حريق النار أديم وجهه، كمن يجيء آمنًا يوم القيامة: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
هذا هو الفارق بين الاثنين، وهو فارق كبير، لكن هل يظلم ربك أحدًا؟! لا، ولذلك يقول بعد هذه المقارنة: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).
المقارنة الخامسة: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
هذه المقارنة تحكي صنفين من الناس: صنفٍ صادقٍ يتبع الصدق في حياته ويهتدي بسناه في سيرته وأخلاقه.
وصنفٍ كاذبٍ يتبع الضلال ويمشي في الدنيا معوجَّ المسلك.
ألطف ما في هذه المقارنة أن الله جل شأنه -رحمةً منه بعباده وبرًّا منه بالمؤمنين- يقول: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).
نسأل الله أن يجعلنا ممن قال فيهم: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ثم نسمع من رب العالمين -جل شأنه- عتابًا لعبيده، هذا العتاب يقول للعبد الفقير المسكين العاجز المحتاج: لم ذهبت إلى باب غير بابي؟! هل الباب الآخر فيه الغنى وعندي الفقر؟! هل الباب الآخر فيه قضاء الحاجات وعندي الحرمان؟! هذا العتاب يقول: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، ثم يقول الله: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)، من هم الذين من دون الله؟! وما قيمتهم؟! وماذا يصنعون؟! يقول -جل شأنه- مبينًا قيمتهم: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).
هذا المعنى الجليل هو الذي وعظ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عندما قال له: "يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".
المقارنة السادسة: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
المقارنة واضحة، الذين كذبوا على الله لهم مصير أسود، والذين صدقوا معه وصدقوه لهم مصير طيب.
ومن الكذب على الله أن تشرك به، ومن الكذب على الله أن تختلق حديثًا على نبيه، ومن الكذب على الله أن تبتدع خرافة من عندك ثم تجعلها دينًا، وكثير من الذين ألحدوا أو انحلوا إنما ألحدوا أو انحلوا لأنهم نظروا إلى الدين لا من خلال الوحي النقي، ولكن من خلال أعمال الناس الخرافية التي جعلوها دينًا وليست من دين الله لا في قليل ولا في كثير.
المقارنة السابعة: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
وختمت المقارنات بهذه المقارنة الأخيرة، إلا أنه بين المقارنات الأخيرة في السورة اطلع الرحمن على عباده ليقول لهم: من ضل يستطيع أن يهتدي، ومن كفر يستطيع أن يؤمن، ومن زاغ يستطيع أن يستقيم، ومن أساء يستطيع أن يحسن، لا تستكثر على الله ذنبك إذا نويت أن تصلح ما بينك وبينه.
قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
واعلموا -أيها الناس- أن كل ذنب يصدر وصاحبه متشبث بربه، ويرجو رحمته، ويخشى عذابه، ويفر من الإصرار، ويطلب من ربه غفران الذنب وتكفير السيئة؛ فإن هذا الذنب مغفور بعفو الله، واعلموا أن كل من تبجح بمعصيته وعالن بها وأراد أن يصبغ المجتمع بشرها وأن يجعلها تقليدًا قائمًا وعادة متبعة، فهيهات هيهات أن ينال ذرة من غفران الله ما بقي على هذا الضلال.
سورة الزمر سورة جليلة استطعتُ بعون الله أن أعطي خطوطًا سريعة تدل على مسار الوحي الإلهي فيها، يستطيع الحافظ بعد ذلك أن يراجع نفسه، ويستطع أي منكم أن يقرأ في مصحفه ليرى هذه المقارنات بعد العقيدة الأولى، ونرجو -كما قلت أولاً- أن نكون ممن قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). وأشهد أن لا اله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
واعلموا -أيها المسلمون- أن المسجد روح المجتمع الإسلامي، فيه يلتقي المؤمنون ليتصلوا بربهم في الصلاة الخاشعة والمعرفة المبرأة والصداقة المتحابة بروح الله -جل شأنه-، ثم هو مصدر التوجيه الدائم للخير والبر والعدل، ولذلك كان أول ما عُني به النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما ملك القدرة على العمل في المجتمع أن بنى المسجد في المدينة، وكان أول ما صنعه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما قدم إلى هذا الوادي المبارك كي يحرره من قيود الرومان ومن آثار الخرافة ومن ظلمات الشرك أن بنى هذا المسجد، وأنا أعلم أن مؤامرات قوية محبوكة بذلت جهدًا هائلاً لمنع تجديد هذا المسجد حتى سميته "جُرنًا"، وعندما شرفني الله وجاء بى إلى هذا المكان كان من قدر الله أن رجلاً ألهمه الله الرشد وبث في عزيمته القوة وجعله يغالب كل أسباب الضعف وكل عناصر التفريط والتكاسل والتهاون، واختفت بجهود هذا الرجل القناطير المقنطرة من القمامة التي كانت حول هذا المسجد، ولا يزال السيد الوزير محافظ القاهرة على العهد به يتعهد المسجد ويجيء إليه بين الحين والحين، ورب العالمين يعطيه من الأمل والقوة ما يرد المسجد به إلى أيامه الأولى يوم كان مشرقًا للتعاليم الإسلامية.
ومن خير الله وبره بنا أن جاءنا اليوم سماحة الشيخ الجليل إمام المسجد النبوي وخطيبه وقاضي قضاة المدينة وكبير علمائها، جاء إلى مسجد عمرو بن العاص، وإنني سأصلي معكم وراءه إن شاء الله، لعل قبسًا من الرحمة والخير والذكريات الطيبة يسري في مشاعرنا ويجعل جو هذا المسجد مليئًا بالقبول إن شاء الله.
إننا نرحب بخطيب المسجد النبوي المبارك، والقاهرة تستقبله وهى فرحة بقدومه، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أقم الصلاة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم