عناصر الخطبة
1/ عظمة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ مولده وسطوع الشمس المحمدية في ربيع الأول 3/ دلالات اختلاف العلماء في تحديد يوم مولده 4/ كيفية الاحتفال بمولده والتعبير عن حبنا له 5/ خبر وفاته وحرصه على أمته أثناء مرضه اقتباس
في هذا الشهر المبارك، شهر ربيع الأول، حدث حدثان عظيمان على مستوى تاريخ البشرية، حدثان جليلان كان لهما الأثر العظيم على حياتنا وعلى حياة الناس أجمعين، لا يمكن أن نكون في هذا الشهر ولا نعرج عليهما أو نشير إليهما، بل لا بد من أن نستذكر هذين الحدثين ونتحدث عنهما، لقد كان هناك ثلاثة وستون عاما بين الحدث الأول والحدث...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: أيها المسلمون عباد الله، في هذا الشهر المبارك، شهر ربيع الأول، حدث حدثان عظيمان على مستوى تاريخ البشرية، حدثان جليلان كان لهما الأثر العظيم على حياتنا وعلى حياة الناس أجمعين، لا يمكن أن نكون في هذا الشهر ولا نعرج عليهما أو نشير إليهما، بل لا بد من أن نستذكر هذين الحدثين ونتحدث عنهما، لقد كان هناك ثلاثة وستون عاما بين الحدث الأول والحدث الثاني.
أما الحدث الأول -أيها الأحباب- فهو مولد محمد -صلى الله عليه وسلم-، سطوع الشمس المحمدية في سماء البشرية، مولد خير خلق الله أجمعين، سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، الصادق الأمين، حبيب وخليل رب العالمين، الذي ما وطئ تراب الأرض خير منه، ولا تنفس هواءها أشرف منه، ولا أكل طعامها أعظم منه -صلى الله عليه وسلم-.
قدوتنا وأسوتنا، معلمنا ومربينا، قائدنا وهادينا، الذي رفع الله به خسيستنا، ورفع به شأننا، وأعلى به ذكرنا، فمن نحن لولاه؟ ومن نكون إذا ما اهتدينا بهداه؟ صلى الله عليه وسلم.
شهم تشيد به الدنيا برمتها *** على المنائر من عرب ومن عجم
أحيا بك الله أرواحا قد اندثرت *** في تربة الوهم بين الكأس والصنم
نفضت عنها غبار الذل فاتقدت *** وأبدعت وروت ما قلت للأمم
ربيت جيلا أبيا مؤمنا يقظا *** حسوا شريعتك الغراء في نهم
محابر وسجلات وأندية *** وأحرف وقواف كن في صمم
فمَن أبو بكر قبل الوحي مَن عمر *** ومَن على ومن عثمان ذو الرحم
من خالد من صلاح الدين قبلك من *** مالك ومن النعمان في القمم
من البخاري ومن أهل الصحاح ومن *** سفيان والشافعي الشهم ذو الحكم
من ابن حنبل فينا وابن تيمية *** بل الملايين أهل الفضل والشمم
مِن نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا *** أنت الإمام لأهل الفضل كلهم
كانت الأمة قبله -أيها الأحباب- في سبات عميق، وكانت في غفلة عظيمة، فبعثه الله -سبحانه وتعالى- على حين فترة من المرسلين وانقطاع من النبيين، فأقام الله -عز وجل- به الميزان، وحطم به الأوثان، وكسر به الصلبان، وأقام به العبادة للواحد الديان، أنزل عليه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
لا يوفيه حقه الكلام، ولا تنصفه الألسن ولا الأقلام، إذا تحدثنا عن غيره عصرنا الذكريات، وأما إذا تحدثنا عنه -صلى الله عليه وسلم- فإن الفؤاد يجيش بكل خاطر عاطر، وإن الذكريات تتدفق في القلب نهرا معينا صافيا يتذكر الإنسان أحواله، ويتذكر الواحد أخباره، فلا يدري عن ماذا يتحدث، ولا يدري عن ماذا يتكلم. إذا ذكر -صلى الله عليه وسلم- نسيت النفوس همومها، وأغفلت الأرواح غمومها.
أكرم بخلق نبي زانه خلق *** بالحسن مشتمل بالبشر متسم
كالبدر في شرف والزهر في ترف *** والبحر في كرم والدهر في همم
يكفيك عن كل مدحٍ مدحُ خالقه *** واقرأ بــربك مبدأ سورة القلم
يقول الله -سبحانه وتعالى- (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:1-4]. شهادة من الله -تبارك وتعالى- وأنعم بها من شهادة!.
أيها الأحباب الكرام: جمهور العلماء على أن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في شهر ربيع الأول، ثم اختلفوا بعد ذلك في اليوم الذي ولد فيه على التحديد، فمنهم من قال في اليوم الثاني، ومنهم من قال في الثامن، ومنهم من قال في التاسع، ومنهم من قال في الثاني عشر؛ وهكذا اختلفوا اختلافا كثيرا؛ وهذا الاختلاف يدل على أن العلماء لم يعتنوا عناية بالغة في تحرير اليوم الذي ولد فيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يشير إلى أنهم لم يكونوا يحتفلون بمولده، وإلا لو كانوا يحتفلون بهذا لاتفقوا على تاريخ مولده ولم يختلفوا فيه.
والذي هو موجود اليوم من الاحتفالات بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعرف في القرون الأولى، وإنما حدث في القرن الرابع الهجري، وذلك حينما صار كثير من المسلمين يتصورون محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنها أمور ظاهرية وأمور شكلية، صار عند المسلمين أن تحقيق محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون بالاحتفال بمولده بيوم واحد في العام.
وهذا -أيها الأحباب- ليس بالتصور الصحيح وليس بالمفهوم الصحيح، هذا من خداع الشيطان وتلبيسه على كثير من المسلمين، ليست محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالموالد والاحتفالات، ليست محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بتوزيع الهدايا والحلويات، ليست محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمظاهر والشكليات فقط.
إن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- شعور قلبي دافق وشوق متدفق لهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- محبة ومودة مقرونة بالإجلال والتعظيم لمقامه الشريف -صلى الله عليه وسلم-، هذه المحبة التي تجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدما على النفوس، ومقدما على الأموال والأولاد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين".
واسمع -أيها الأخ الحبيب- اسمع لهذا الحديث العجيب الذي يدل على حقيقة محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف تكون هذه المودة الحقيقة. يروي لنا أبو هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي"، يأتون بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا الحال -أيها الأحباب- وهذا الوصف ينطبق على كل من جاء بعده إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، يقول: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي"، ما هو وصفهم يا رسول الله؟ قال "يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ"، يتمنى الواحد أن يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويذهب في سبيل ذلك ماله ويذهب في سبيل ذلك أهله، كل ذلك شوقا لرؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذه -أيها الأحباب- هي المحبة الحقيقية، هذه هي العلاقة الروحية مع محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليست كأي علاقة، وليست كأي محبة، هذه المحبة التي تدفع إلى اتباع طريقته، والاتساء بهديه وسنته -صلى الله عليه وسلم-، هذه هي المحبة التي تظهر في الأفعال، وتظهر في الأقوال، وتظهر في سائر الأحوال...
هذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- كان من أشد الناس حرصا على اقتفاء أثار النبي -صلى الله عليه وسلم-، يحكي عنه مولاه نافع فيقول حاكيا وواصفا حال عبد الله: لو نظرت إلى ابن عمر إذا تبع أثر النبي -صلى الله عليه وسلم- لقلت هذا مجنون من شدة حرصه، كان يصلي في المكان الذي صلى فيه رسول الله، ويقعد في المكان الذي قعد فيه، ويقف في المكان الذي وقف فيه، وإذا وقف بعرفة وقف بمكان موقف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحرص كل الحرص على اقتفاء آثاره والأخذ بسننه -صلى الله عليه وسلم-. هذه هي المحبة الحقيقية التي نحتاج أن نتذكرها اليوم، وقد فصلتنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنوات وقرون طويلة.
أيها الأحباب الكرام : حين نتذكر حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حين نتذكر دعوته وجهاده في سبيل الله ليبلغ لنا هذا الدين، حين نتذكر صبره وثباته وتحمله للآلام والشدائد، فَقَدَ أحبابه وفقد أولاده وأوذي أذى شديدا لا تصبر على مثله الجبال، ومع ذلك لم يتراجع ولم يتقهقر ولم يتأخر؛ بل كان صابرا مثابرا لتبليغ دين الله لتصل إلينا هذه الرسالة كما جاءت من عند الله -سبحانه وتعالى-.
حين نتذكر هذه السيرة النضرة وهذه الأيام العطرة التي عاشها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نستشعر المسؤولية والأمانة أمام الله -تبارك وتعالى- ثم أمام هذا الرسول الكريم الذي ضحى بكل غال ونفيس لأجلنا، نستشعر مسؤوليتنا أمامه، أن نقر عينه وأن نسر قلبه بأن نتمسك بهذه الرسالة التي بلغها إلينا، أن نسير على طريقته، وأن نقتفي سنته، وأن نمضي على هديه -صلى الله عليه وسلم-، ليعلم أن بذله وتضحيته لم يذهب سدى، وأن ما بذله من مجهود لم يضع دون فائدة، فواجب الوفاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نكون أوفياء لسنته، أن نكون أوفياء لطريقته، أن نكون أوفياء لدينه ورسالته، فنعمل بها في أنفسنا، ونطبقها على أهلنا وأولادنا ومجتمعاتنا، ونبلغها للبشرية جمعاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
وبعد: أيها الأحباب الكرام، الحدث الثاني الذي جرى في هذا الشهر شهر ربيع الأول، وفاته -صلى الله عليه وسلم-، في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، بعد أن أكمل الله به الدين، وأعلى به هذا الدين، وأظهر به هذه الرسالة، ونفع به هذه البشرية، بعد أن بلغ رسالته، وأدى أمانته، وترك أمته على المحجة البيضاء، اختاره الله -سبحانه وتعالى- لجواره ليلحق بالرفيق الأعلى كما كان يتمنى -صلى الله عليه وسلم-.
بدأ به المرض في أواخر شهر صفر وأوائل شهر ربيع الأول، فكان يتنقل بين أبيات أزواجه، وكان يقول: أين أنا غدا؟ أي: أكون عند من أزواجي، يقول: أين أنا غدا؟ ففهم أزاوجه مراده فأذنّ له حيث يشاء، فاختار أن يكون في بيت عائشة -رضي الله عنها وأرضاه-.
مع اشتداد الألم به، ومع ما نزل به من البلاء، إلا أنه كان حريصا أشد الحرص على الصلاة، كان يقوم مع ما فيه من التعب والألم يقوم ليخرج إلى المسجد، فقام وقد اشتد به المرض ليخرج للصلاة، فسقط وأغمي عليه، فلما أفاق كان أول ما قال: "أصلى الناس؟"، فقالوا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فقام يتوضأ وأراد أن يخرج فسقط وأغمي عليه، فلما أفاق قال "أصلى الناس؟"، قالوا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فقام وتوضأ وأراد أن يخرج فسقط الثالثة، فلما أفاق قال: "أصلى الناس؟"، قالوا: لا يا رسول الله، فأمر أبا بكر -رضي الله عنه- أن يصلي بالناس.
انظروا -أيها الأحباب- إلى هذا الحرص "أصلى الناس؟"، أين المسلمون اليوم من هذه الصلاة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصا عليها في مثل هذه اللحظات الصعبة؟ كان يكرر ويردد ويوصي ويقول: "الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم! الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم!".
هذه آخر وصايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكثير من المسلمين اليوم -للأسف الشديد- ضيعوا هذه الوصية النبوية.
في آخر يوم من حياته الشريفة وفي صلاة الفجر خرج ليطلع على أصحابه ليتأكد من أنهم يؤدون الصلاة كما أمرهم، فكشف الستار الذي كان بين حجرته وبين المسجد، فرأى الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- واقفين كما علمهم، خاشعين كما أدبهم، رأى صفوفهم متراصة، ورأى قلوبهم متآلفة، فعند ذلك اطمأن -صلى الله عليه وسلم- وارتاح، تهلل وجهه، واستبشر، وعلته ابتسامة مشرقة مضيئة، وظن الصحابة أنه سيخرج ليصلي معهم، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم!.
اطمأن -صلى الله عليه وسلم- لما رأى أمته تصلي، لما رأى أمته مجتمعة في صلاة الفجر، اطمأن وارتاح ومات وهو قرير العين، فكيف بالله عليكم -أيها الأحباب- لو اطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم على أمته في صلاة الفجر؛ هل سيشرق وجهه ويتهلل كما تهلل عند رؤيته للصحابة؟ هل سيبتسم ويسر ويفرح كما فرح عندما رأى أصحابه قد اجتمعوا على صلاة الفجر؟.
مضى هذا اليوم، فلما كان في وسط النهار وفي وقت الضحى ارتقت نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وروحه إلى الرفيق الأعلى، وفارق هذه الدنيا، وترك هذه الأمة وقد قام بواجبه الذي أوجبه الله -سبحانه وتعالى- عليه، ما ترك خيرا إلا ودل البشرية كلها عليه، ولا ترك شرا إلا وحذر البشرية كلها منه -صلى الله عليه وسلم-.
يقول أنس -رضي الله عنه- لما ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي اشتد به المرض وجعل الكرب يتغشاه جعلت فاطمة بنته -رضي الله عنها- تقول: "وا كرب أبتاه! وا كرب أبتاه!"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا كرب على أبيك بعد اليوم"، فلما مات -صلى الله عليه وسلم- قالت فاطمة: "وا أبتاه! أجاب ربا دعاه، وا أبتاه! إلى جبريل ننعاه، وا أبتاه! جنة الفردوس مأواه".
فلما دفنه الصحابة وأهالوا عليه التراب قالت فاطمة لأنس: "أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله عليه التراب؟".
كان ثابت البناني راوي الحديث عن أنس، كان إذا حدث بهذا الحديث يبكي بكاءً شديدا حتى تختلف أضلاعه، يقول أنس حاكيا حالهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما توفي -صلى الله عليه وسلم- أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأيدي وإنا في دفنه حتى أنكرنا أنفسنا وكأن أرواحنا قد خرجت من أجسادنا.
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
بطيبةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ *** منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ وتهمدُ
بها حجراتٌ كانَ ينزلُ وسطها *** مِنَ الله نورٌ يُسْتَضَاءُ، وَيُوقَدُ
عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدهُ *** وَقَبْرَاً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلْحِدُ
لقد غَيّبوا حِلْماً وعِلْماً وَرَحمةً *** عشيةَ علوهُ الثرى، لا يوسدُ
وَرَاحُوا بحُزْنٍ ليس فيهِمْ نَبيُّهُمْ *** وَقَدْ وَهَنَتْ منهُمْ ظهورٌ، وأعضُدُ
يبكونَ من تبكي السمواتُ يومهُ *** ومن قدْ بكتهُ الأرضُ فالناس أكمدُ
وهلْ عدلتْ يوماً رزيةُ هالكٍ *** رزيةَ يومٍ ماتَ فيهِ محمدُ
بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- وفداه روحي! لكنه؛ وإن مات جسده فإن سنته باقية بيننا، وإن لم نسمع صوته فأحاديثه لا زالت تتلى علينا، والمحب الصادق من تمسك بسنته وهديه ليلقاه يوم القيامة غير مبدل وغير مغير؛ ليحشر في زمرته، وليكون من جماعته تحت لوائه -صلى الله عليه وسلم-.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يحيينا على سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم