عناصر الخطبة
1/انتشار الأخبار الكاذبة والشائعات من علامات الساعة 2/خطر الشائعات وأثرها 3/التحذير من نشر الأخبار الكاذبة والشائعات 4/قاعدتان عظيمتان في تلقي الأخبار وسماع الكلاماقتباس
الأخبار في هذا الزمان انفتحت وانتشرت وفشت وظهرت، انتشار الأخبار أصبح كالهشيم في النار؛ بل سُرعتها كالبرق في لمعانه، والطرف في غمضة جفونه انتشار الأخبار في هذا الزمان ليس كما سلف من الزمان؛ إما بلقاءٍ أو خطٍّ أو رسالةٍ أو نقل، بيد أنه في هذه الأزمان سار مسار الركبان، في هذه الأجهزة الحديثة، والجوالات الذكية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الواحد القهار، العلي الغفار، أحمده سبحانه عدد ما توانى الليل والنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله رسم لنا الطريق عند ورود الأخبار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نهى عن قيلٍ وقال خشية الوقوع في الأخطار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وخُص منهم العشرة الأبرار، بل الأربعة الخلفاء الأخيار والتابعون لهم بإحسانٍ إلى يوم القرار.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله على الدوام، اتقوه في النور والظلام.
وتقْوَى اللهِ للأوَّاهِ زادٌ *** فنِعْمَ الذُّخْرُ في الْأُخْرَى مَآبَا
فلازِمْ دربَهَا تظْفَر بخيرٍ *** وحقِّقْ حكْمهَا تُحْرز ثَوَابا
أيها الناس: تذكروا يوم قيام الناس، تذكروا الموقف وهوله، تذكروا الآخرة وأحوالها، استعدوا لهذا الموقف بالأعمال الصالحة والتوبة الصادقة.
أيها المسلمون: الأخبار في هذا الزمان انفتحت وانتشرت وفشت وظهرت، انتشار الأخبار أصبح كالهشيم في النار؛ بل سُرعتها كالبرق في لمعانه، والطرف في غمضة جفونه انتشار الأخبار في هذا الزمان ليس كما سلف من الزمان؛ إما بلقاءٍ أو خطٍّ أو رسالةٍ أو نقل، بيد أنه في هذه الأزمان سار مسار الركبان، في هذه الأجهزة الحديثة، والجوالات الذكية، والتقنيات السريعة؛ ففي ضغطة زرٍ ولمسة يسير الخبر قبل نفَسُه، وهذا مشاهدٌ وملموس، ومسموعٌ ومحسوس؛ فالسناب والواتس وتويتر والانستجرام والفيس بوك ونحوها من المواصلات والاتصال روَّجت الأخبار والمقال؛ لا يُحدها حد ولا يقصرها عد، سارت بالأخبار مشارق الليل والنهار، فسارت مسير الشمس في كل بلدةٍ، وهب هبوب الريح في البر والبحر.
وهذه من أشراط الساعة وعلاماتها؛ بل هذا مصداق النبي المصطفى؛ فقد قال كما في البخاري: "الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ" وهذا الإعلام الفضائي، والشبكة العنكبوتيية أكبر شاهدٍ على ذلك؛ فيُرسل المرء رسالة أو يُرتوت لها أو يُغرد أو يُسنِّب أو يقص ويلصق، فيبلغ المقال والخبر كل من على الأرض من البشر، ورحم الله القائل:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلا *** وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
ويأتيكَ بالأنباءِ من لم تَبعْ له *** بَتاتاً ولم تَضْربْ له وقتَ مَوْعدِ
إذا علمنا هذا وهذا هو واقعنا وضررٌ دخل في بيوتنا، بل في جُنوبنا؛ فما موقفنا وما سلامة نجاتنا وحفظ حسناتنا، وسلامة أعراضنا، وصون إخواننا؟ إنه باختصارٍ وإيجاز التثبت والتروي والتعقل والتأني والتحصن والتوقي.
لقد أرشدنا القرآن الكريم كيفية التعامل مع الأخبار، وكيف نتصرف معها بأدبٍ وسلامةٍ وادِّكار؛ فالقرآن علاج وشفاءٌ لكل مرضٍ وداءٍ وإحراج (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات:6].
فلما كانت الأخبار لا تخلو منها المجتمعات، ولا يخلو منها زمانٌ أو مكان، وهي الداء الدفين والمرض المستبين؛ فإذاعة ونشر الأخبار من غير تثبُتٍ وتريُّث ونظرٍ في العواقب والمآلات والآثار والسلبيات، أو من غير رجوعٍ لأهل الاختصاص والعقول النيرات - يُثير الفتن ويزرع الأحقاد والإحن، ويُشتت المجتمعات ويأكل الحسنات ويُدمر الأُسر والاجتماعات، ويُحِدث القلق والأرق والشرور والحَرق.
إن فشو الأخبار والشائعات وإرسالها قبل التثبت من مرسليها فيه خطرٌ عظيم ووزرٌ وخيم، يخاف منه العاقل الحكيم تبعته ووزره وجُرمه وشره على مرسله وناقله؛ فهو سيئةٌ جارية، ومَن يرضى أن تكون له سيئةٌ جارية في حياته وبعد مماته؟؛ ففي مسلم "وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا"، وهو نوعٌ من التعاون على الإثم والعدوان.
وأنت -يا ناقل الخبر ومرسله وقاصه ولاصقه- هل ترضى أن يُنقل عنك أو عن أسرتك أو سرك خبرٌ لا حقيقة له ولا مستند له وكلامٌ لا أصل له؟
الأخبار -أيها الأخيار- لا تنفك الناس منها وفيها، لاسيما فيما يُعين على نشرها وفشوها؛ كالجوالات الذكية والتقنيات الحديثة مما سهَّلت ويسَّرت الانتشار، والناس فيها ما بين مؤثرٍ ومتأثر كما في حادثة الإفك.
الأخبار -أيها الأخيار- لما كان فيها الصدق والكذب، وليس هناك تمييزٌ بينهما - جاء في الحديث "كَفَى بِالْمَرْءِ إثمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"؛ ليصون لسانه ويحفظ حسناتِه؛ ولأن النقل يحتمل الصدق والكذب فرُجِّح جانب المنع، وفي الصحيح "وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ" علق النووي تعليقًا نفيسًا، فقال في رياض الصالحين عقب الحديث: "قِيلَ وَقَالَ": معناه: الحديث بكل ما يسمعه، فيقول: قيل كذا، وقال فلانٌ كذا مما لا يعلم صحته ولا يظنها "وَكَفَى بِالْمَرْءِ كذبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ".
والأخبار -أيها الأخيار- بكل ما هب وطار يُورث ألوانًا من الأخطار، وآفات اللسان الكبار؛ كالغيبة والنميمة، والكذب والسخرية، والزور والخيانة، والبُهت وسوء الطوية، والفُحش والرزية، واحذر أن تكون كحاطب ليل؛ فويلٌ لك كل الويل، ولا تُرسل إلا ما صح ودل.
إذا قلت فاعلم ما تقول ولا تكن *** كحاطب ليلٍ يجمع الدق والجزلا
والبعض -عباد الله- يُرسل ما هب ودب
وبعض القول ليس له عِناجُ *** كمخض الماء ليس له أتاءُ
والمعنى: أن من القول ما لا فائدة فيه ولا مُعتمد عليه، ولا أصل له؛ فهو كالماء يُمخض فلا يكون له أتاءٌ؛ أي: ثمرةٌ وفائدة! وهكذا الإرسال ونشر الأخبار؛ بل فيها الأوزار، كم أرسلنا ما لا أصل له؟! كم أرسلنا ما لا حقيقة له؟! كم وقعنا في الأعراض ونشرنا الفساد والأمراض؟!
احذروا رسائل المجموعات والسنابات، والشات والتغريدات، لا تكن إمعة ما جاءك أرسلته، وما وقع بصرك عليه أخرجته! تأمل وتريث؛ فالخطر عظيم والخطب جسيم إذا جاءك في المجموعات ورسائل الجوالات واستحسنتها وزان لك لفظها إن كانت فائدةً فأرسلها، وإن كان حديثًا لا تعلم صحته أو خبرٌ لا تعلم مخرجه أو كلامٌ في شخصٍ أو عالمٍ أو دولةٍ أو عرضٍ أو قولٍ لا تعلم مصدره فلا ترسل وتثبت، ورُد على صاحبك وتريث، وقُل له بكلمةٍ لطيفة أين مصدرها؟ أو ما مدى صحتها؟ أو صح نسبتها؟ أو حقيقة وقوعِها؟
وناصب نحو أفواه الورى أذنًا *** كالقُعب يلقط منهم كلما سقطا
تراه يلتقط الأخبار مجتهدًا *** حتّى إذا ما وعاها زقّ ما لقطا
والبعض -عباد الله- سرعان ما يأتيه رسالة أو مقطعٌ أو خبرٌ إلا ويُرسله، وربما لم يقرأه أو يقرأ طرفيه، أو يقرأ أوله أو بثقته بالمجموعة تارة وبالمرسل تارةً أخرى، وهذا لا يُبرر الإرسال، ولا يُخرج العبد من سوء المآل، وإذا جاءك قصةٌ أو خبر أو إشاعةٌ أو مقطع فاعلم أنه أمانة لا يجوز إرساله إلا بأمانة، ومن هذه الأمانة التريث والتأكد، والتعقل والتقعد.
ونُصَّ الحديثَ إلى أهلِهِ *** فإن الأمانة في نصهِ
أيها المرسل لتلك الشائعات والأخبار وغردت بها وسارت مسار الليل والنهار: ما شعورك إذا قيل: هذا الخبر مكذوب، وهذا النقل غير صحيح، وهذا الحديث ضعيف، أو هذا الحديث موضوع، وهذه القصة لا أصل لها، وهذا الإرسال لا حقيقة له، وقد سارت وطارت وذهبت ووقعت؛ وقعت في صحيفتك، وسوف تراها في ميزان حسناتك، وسوف تراها في ميزانك؟
وهمْ نَقَلُوا عَنّي الذي لمْ أفُهْ بهِ *** وما آفة الأخبار إلا رواتها
ما شعورك إذا وقفت بين يدي ربك، فيقول لك خصمك: يا ربِّ هذا ظلمني، يا ربِّ هذا كذب علي، يا ربِّ هذا بهتني، يا ربِّ هذا فكَّك أسرتي وضرَّني في مجتمعي، وفرَّق بين أقاربي ووالدي وأحبتي.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة:2-4]، وبعد:
معشر المسلمين: لقد أعطانا ربنا ووجهنا قرآننا إلى قاعدتين عظيمتين في تلقي الأخبار وسماع الكلام:
القاعدة الأولى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء:83].
هذه الآية آيةٌ جامعة في الأخبار العامة؛ ففيها التربية على التعامل مع الأخبار، ومصادر الأقوال؛ ليبقى المجتمع متماسكًا مُحصنًا من كيد الكائدين، وغرض المفسدين، وضعاف المؤمنين، ودسائس المنافقين، فإذا جاء الأمر من غير تثبتٍ ولا بصيرة صار ضرره ومفاسده كبيرةٌ خطيرة، فجاءت هذه الآية لترسم الطريق في علاج سماع الأخبار، فإذا جاء الخبر حال الأمن من الظفر والغنيمة وانتصار المسلمين، أو الخوف الذي يُوهن العزائم وضعف المسلمين، وقِلة عَددهم وعُددهم فهؤلاء أذاعوه ونشروه لأغراضٍ وأطماع؛ فلو من سمعه رده وأمسك عن الخوض فيه ولم يُرسل فرده إلى الله ورسوله، وإلى أولي الأمر منهم، وهو كل من له ولايةٌ ومرجع ومصدرٌ يُرجع إليه؛ لعلموا صحته مِن كذبه وحقه مِن باطله، وصلاحه من فاسده؛ فسلموا من نشره وحُفِظوا من وزره؛ فهي قاعدةٌ في الرجوع إلى مصادر الكلام، وأهل العقل والأفهام، والتأني والتريث في الأحكام.
والقاعدة الثانية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات:6]؛ فالله أمرنا إذا جاءنا خبرٌ من فاسق أو غيره -بخبرٍ أو رسالةٍ أو مقطعٍ- أن نتبين ونتثبت حتى لا نُصيب قومًا بجهالةٍ بسوءٍ كلامٍ ليس فيهم وليس له حقيقة، فعندها نُصبح على فعلنا نادمين؛ لأننا نقلنا وأرسلنا، وتكلمنا بما ليس فيه حق ومصدرٌ صدق.
ونقل الأخبار -أيها الأخيار- يشمل النقل بين الناس عامة، والأقارب خاصة، وكلما كان الشخص منزلته أعظم؛ كالعلماء والأمراء، والوالدين والأقارب كان نقل الخبر عنهم أعظم، وجرمه أجرم.
ونقل الأخبار -أيها الأخيار- ينبغي ألا ننظر إلى صلاح الناقل والمرسل وعبادته؛ فقد ينقل ما هو خطأ أو ما يعتقد صحته، أو عن غيره في مجموعته أو ثقته بصاحبه؛ فكم ممن هو صالح وفي النقل غير صالح، وكُتب الجرح والتعديل بهذا النموذج طافح، والبعض يستعيب التثبت في الأخبار والمجموعات وسائر التواصلات، وهذا في غير محله؛ إذ ذمتك أغلى عليك من غيرك.
وكم فككك نقل الأخبار من أُسرٍ وجماعات، وأفرادٍ ورئاسات، ودولٍ وبيوتات، وأقارب كانوا في المسرات، وأُسرٍ متآلفات مفاسده عظيمة وعواقبه وخيمة؛ فاحذر أن تُرسل ما لا تعلم، وأن تتلقى الأخبار بدون تحكم؛ فأساس النشر وأصله العلم بفصله وأصله، وما أجمل ما بوب البخاري بابٌ العلم قبل القول والعمل.
ومن قواعد الأمر والنهي: العلم بالمأمور والمنهي.
ومن قواعد الكلام: ما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".
ومن تعليقات النووي الفريدة الجميلة اللطيفة قوله: "اعلم أنه ينبغي لكل مُكلَّفٍ أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهر في المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسُّنَّة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرامٍ أو مكروهٍ، وذلك كثيرٌ في العادة والسلامة لا يعدلها شيء" ا.هـ.
هذا في الكلام؛ فكيف في الإرسال؟! ولو سِرنا على كتاب ربنا وسُنة نبينا لسلمنا وسلم غيرنا منَّا.
فخلاصة الكلام في هذا المقام: أن نتلقى الخبر بالتثبت والصحة والتأني والروية، وأن هذه التقنية الحديثة والجوالات الذكية نجعلها نعمةً لنا لا نقمة، وحجةً لنا لا حُجةً علينا، وفي صحيفة حسناتنا لا في صحائف سيئاتنا؛ فاحذروا وتوقوا وتريثوا وتثبتوا.
هذا وصلوا وسلموا على من رفعه مولاه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه وسلم.
صلوا على المختارِ فهوَ شفيعكمْ *** في يومِ يبعثُ كلَّ طفلٍ أشيبا
صلى وسلمَ ذو الجلالِ عليه *** ما أزكاه في الرسلِ الكرامِ وأطيبا
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم