عناصر الخطبة
1/ الغفلة حين تستحكم بالمرء 2/ أشد النسيان نسيان الموت 3/ كثرة موت الفجأة من علامات الساعة 4/ خطورة التأفف من ذكر الموت وأسبابه 5/ ثمرات وفوائد كثرة ذكر الموت 6/ وجوب إحسان الظن بالله عند نزول الموت.اقتباس
عجبًا لنا: كيف نتجرأ على الله فنرتكب معاصيه، وأوراحنا بيده؟! وكيف نستغفل رقابته، والموت بأمره يأتي فجأة؟! أما سأل أحدنا نفسه: لماذا لا يستطيع أحد أن يعلم متى سيموت، إنها حكمة بالغة، ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وداع الدنيا، مستعدًّا للقاء ربه. وإن المتابع لأخبار الزمان اليوم ليجد عجبًا عجابًا من كثرة ما يقع من موت الفجأة، وهو ما يسمى اليوم بالسكتة القلبية، ومع هذه الكثرة إلا أن جملة منا في غفلة، وكأن ما أتى غيرنا لا يأتينا ولا يقرب من دارنا.
الخطبة الأولى:
الحمد لله تفرد بالبقاء، والعظمة والكبرياء، وسع خلقه رحمةً وحلمًا، وأحاطهم معرفة وعلمًا، وأشهد ألا إله إلا الله، كاشف الكرب، ومزيل الهم، ومثبت الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أنذر وبشر، ونصح وجاهد، حتى ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
أيها الأحبة في الله: كم يسعى الإنسان ويجهد في هذه الحياة الدنيا، قد ملأ قلبه بالطموحات، وغرَّه طول الأمل، وغفل عن كثرة العلل، فانطلق كالسهم يركض خلف مبتغاه، يعرق ليجمع، ويجمع لينفق أو ليبخل، قد أطغاه حب الجاه، وأرهقه التطلع للمنصب، وأشغله همّ الأولاد، وقصم ظهرَه اللهثُ وراء الأموال، فيفلح حينًا، ويعثر حينًا آخر، وينهض مرة أخرى لا يبالي بتعب، ولا يفكر في جهد، فقط أن يصل ما وصل غيره بل يزيد على ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن أصدق من الله قيلاً: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن: 15].
يا الله كم للدنيا من فتن مغرية تأخذ بلب المرء وقلبه، وتهد من جسده وقوته، يظن أنه سيبلغ غايته، وينال مبتغاه، وفي لحظة من اللحظات لم يحسب لها حسابًا، قد انغمس في عمله، يدقق حساباته الدنيوية غافلاً عن حساب الآخرة الشديد، وفي لحظة من اللحظات وهو في غمرة السعادة بين أهله وذويه، أو بين أصحابه وأحبابه..
وفي لحظة من اللحظات يعيش نشوة الأموال، وكثرة الأولاد، واستقرار الصحة والجسد، في تلك اللحظة التي يبصر بها من حوله، ويسمع من يحدثه، ويحدث من يسمعه، ويحرك فيها جسده، لا مرضًا يشكو، ولا علة يعالج، ولا طبيبًا يزور، قوة في جسمه تركب فوق قوة، ونشاطًا في عقله تختصم فيه الأفكار بالأفكار..
لحظة رهيبة، ومفاجأة غريبة، فيها توقف كل شيء، ماذا جرى للجسم الصحيح؟! ماذا حصل للعقل المدبر؟! ماذا وقع لصاحب الأموال والمنصب والجاه؟! ما هذه الصفرة التي سرت في جسده؟! أين سافرت نضرة هذا الجسم المترف؟!
عجبًا أرى: عينين كانتا جميلتان بالبصر، مالهما قد زاغتا لا لفت أو نظر!! قم يا رجل، انهض، فوراءك حياة مليئة بالعمل، أتترك أعمالك، أموالك، جاهك ومنصبك؟! تحرك!! لقد ارتخى اللسان السليط، وخفت الصوت الصارخ، فلا حس أو خبر.
حينها تنادى الأحباب، وتعالت الأصوات، أحضروا الطبيب، حركوا الأموال، اتصلوا بأصدقاء الجاه والمراتب العالية، أخبروهم بالمفاجأة، علهم يجدوا الخلاص، والنجاة من المصيبة.
أين المفر من القضا *** ء مشرقًا ومغربا
انظر ترى لك مذهبًا *** أو ملجأً أو مهربا
سلّم لأمر الله وارض *** به وكن مترقبا
فلقد نعاك الشيب يوم *** رأيت رأسك أشيبا
يمسي ويصبح طالب *** الدنيا مُعنًى متعبا
لقد انتهى كل شيء، وجاء الوعد الحق، لتنسل به الروح من الجسد، وتقلع منه حثيثًا، ومن أصدق الله حديثا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
يا لها من مفاجأة يباغت فيها الإنسان، فيأخذ على غرة، تعددت أسبابها، وتلونت أشكالها، واختلفت أعمارها، وتنقلت أوقاتها، لا تميز بين الطفل والشاب والشيخ، كل له أجله المكتوب، وعمره المحسوب، عند رب رحيم حليم.
غير أنها الغفلة التي تقتل القلوب عن هذه الساعة المملوءة بالفاجعة، المقرونة بالبكاء والصراخ، الممزوجة بالدموع، المتلونة بالحسرة واللوعة، على من.. علي أنا وأنت وكل مولود كبير أو صغير.
يا غافلاً عن ساعة مقرونة *** بنوادب وصوارخ وثواكل
قدِّم لنفسك قبل موتك صالحًا *** فالموت أسرع من نزول الهاطل
حتّام سمعُك لا يعي لمذكر *** وصميم قلبك لا يلين لعاذل
تبغي من الدنيا الكثيرَ وإنما *** يكفيك من دنياك زاد الراحل
آي الكتاب تهزُّ سمعك دائمًا *** وتصم عنها معرضًا كالغافل
كم للإله عليك من نعم تُرى *** ومواهب وفوائد وفواضل
كم قد أنالك من موانح طوله *** فاسأله عفوًا فهو غوث السائل
عباد الله: اعلموا رعاكم الله أن من علامات الساعة الصغرى كثرة موت الفجأة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة" (رواه الطبراني وحسنه الألباني).
وإن المتابع لأخبار الزمان اليوم ليجد عجبًا عجابًا من كثرة ما يقع من موت الفجأة، وهو ما يسمى اليوم بالسكتة القلبية، ومع هذه الكثرة إلا أن جملة منا في غفلة، وكأن ما أتى غيرنا لا يأتينا ولا يقرب من دارنا.
عجبًا لنا: كيف نتجرأ على الله فنرتكب معاصيه، وأوراحنا بيده؟! وكيف نستغفل رقابته، والموت بأمره يأتي فجأة؟! أما سأل أحدنا نفسه: لماذا لا يستطيع أحد أن يعلم متى سيموت، إنها حكمة بالغة، ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وداع الدنيا، مستعدًّا للقاء ربه.
روي أن ملك الموت دخل على داود -عليه السلام- فقال: "من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعدُ! قال: يا داود أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!".
يا حسرتنا -يا عباد الله- على غفلة قد طمَّت، ومهلة قد ذهبت، أضعناها في المغريات، وقتلناها بالشهوات، وأهدرناها في التفاهات، نسير كأن أحدنا سيعمر ألف سنة، ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعاد مؤجل، كم قريب دفنا، وكم حبيب ودعنا، نفضة غبار القبور من أيدينا أنستنا هول ما رأوا، وعظم ما شاهدوا، وعدنا من دور اللحود وعادت معنا الدنيا، لنغرق في ملذاتها..
أين العيون الباكية من خشية الله، أين القلوب الوجلة من لقاء الله، ألا نعود أنفسنا على توديع هذه الدنيا كل يوم، فنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبها الله، ألا نعزم على مضاعفة الأعمال الصالحة من صلاة واستغفار وذكر وبر وصلة، ألا نفكر بجدية مقرونة بعمل أن نقلع من معاصينا، ونتوب من تقصيرنا في حق الله تعالى، ألا نجعل ساعة الموت هذه واعظًا لنا في هذه الدنيا الفانية من الغفلة عن الله تعالى؟!
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
اللهم ارحم ضعفنا، وآنس وحشتنا، وذكِّرنا بك ما حيينا، واللهم ارزقنا التوبة النصوح قبل الممات يا رب العالمين، استغفروا الله وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، وسار على سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، إنه من الخطير حقًّا أن نتأفف من ذكر الموت وأسبابه، نراعي في ذلك مشاعرنا، أن لهثًا خلف الفرحة بهذه الدنيا، كيف وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ"، (رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ).
وما ذاك إلا لأن ذكر الموت يعين -بعد الله تعالى- على فعل الطاعات والاستزادة من المعروف والخير، ويزهِّد في الدنيا وزهرتها، ويكشف لك غرورها وزوال متعاها، ويهوِّن عليك فوات نعيمها، لتفكر في نعيم الآخرة المقيم، فتجتهد في العبادة، وتعمل لتلك السعاة.
قال حوشب بن عقيل: سمعت يزيد الرقاشي يقول لما حضره الموت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]: "ألا إن الأعمال محضورة، والأجور مكملة، ولكل ساع ما يسعى، وغاية الدنيا وأهلها إلى الموت"، ثم بكى وقال: "يا من القبر مسكنه، وبين يدي الله موقفه، والنار غدًا مورده، ماذا قدمت لنفسك؟ ماذا أعددت لمصرعك؟ ماذا أعددت لوقوفك بين يدي ربك؟".
وأجمل ما يكون العبد في حياته متذكرًا الموت، مستعدًّا له، غير أنه إذا اقترب منه كان حسن الظن بربه، فإن الله يقول في الحديث القدسي: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ" (رواه أحمد).
حدث حاتم بن سليمان قال: دخلنا على عبد العزيز بن سليمان وهو يجود بنفسه فقلت: كيف تجدك؟ قال: أجدني أموت، فقال له بعض إخوانه: على أية حال رحمك الله؟ فبكى ثم قال: "ما نعول إلا على حسن الظن بالله"، قال: فما خرجنا من عنده حتى مات.
ليذكِّر بعضنا بعضًا بفناء أعمارنا، وفناء هذه الدنيا، ولنستعذب الحديث عما أعدَّه الله لعباده من الجنان والفوز بالرضوان، علَّ قلوبنا أن تلين لباريها، وتخشع لخالقها العزيز الحكيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم احفظ هذه الأرض من شر الأشرار، وكيد الفجار.
اللهم من أرادها وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده تدميرًا له، اللهم رد كيده في نحره، واجعله عبرة لمن يعتبر.
اللهم إنك أنت القوي فأمدنا بقوتك، وإنك أنت الحليم فأسبغ علينا حلمك، وإنك أنت الرحيم فأنزل علينا سكينتك، وإنك أنت الرزاق فامنن علينا بكريم رزقك، وإنك أنت العفو فاسترنا بعظيم عفوك.
اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، وأمدهم بمدد من عندك وجند من جندك، واحفظ ديارهم وأموالهم وأهليهم، ورد عنهم بقوتك وجبروتك.
اللهم وفق أولياء أمورنا للعمل بما يرضيك، واجعلهم هداة مهتدين، سلمًا لأوليائك، حربًا على أعدائك، ووحد على الحق كلمتهم، ووفقهم لإصلاح رعاياهم.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا ولجميع المسلمين، وصلوا وسلموا على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم