عناصر الخطبة
1/ استذكار سير السلف مما يعين على الثبات 2/ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 3/ نماذج من ثبات السلف ومداومتهم على الطاعات 4/ ثمرات المداومة على الطاعةاقتباس
إِنَّ اسْتِذْكَارَ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ وَسِيَرِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِشَحْنِ النُّفُوسِ لِلْمَعَالِي، وَارْتِقَاءِ الْهِمَمِ لِلْخَيْرِ، وَعَدَمِ الْإِعْجَابِ بِالْعَمَلِ لَقَدْ كَانَ سَلَفُكُمْ رَحِمَهُمُ اللهُ أَصْدَقَ الْأُمَّةِ عَمَلًا، وَأَشَدَّهُمْ لَهَا إِتْقَانًا، وَخَبَرُهُمْ فِي هَذَا عَجَبٌ مِنَ الْعُجَابِ، لَمْ يَكُونُوا مَوْسِمِيِّينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، فَاتِرِينَ بَقِيَّةَ عَامِهِمْ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَتَثَبَّثُ بِعَمَلِهِ، حَتَّى لَكَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ جَسَدِهِ، فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا إِلَّا خُرُوجُ الرُّوحِ..
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
تَأْتِي مَوَاسِمُ الرَّحَمَاتِ، فَتَهُبُّ عَلَى الْعِبَادِ بِخَيْرِهَا وَخَيْرَاتِهَا، وَنُورِهِا وَهِدَايَاتِهَا، تَأْتِي فَتَتَرَوَّضُ فِيهَا النُّفُوسُ عَلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَتَكْتَسِبُ فِيهَا كُلَّ هُدًى وَرَشَادٍ.
لَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْ أَهَمِّيَّةِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَنْ نَتَذَاكَرَ الْأَسْبَابَ الْمَعْنِيَّةَ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهَا - مَعَ أَهَمِّيَّةِ التَّذْكِيرِ بِهَا دَوْمًا - وَإِنَّمَا سَنَقِفُ مَعَ صَفَحَاتٍ وَضَّاءَةٍ، وَصُوَرٍ بَرَّاقَةٍ، مِنْ سِيَرِ سَلَفِنَا وَصَالِحِي أُمَّتِنَا، وَشَأْنِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَضِّهِمْ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ.
إِنَّ اسْتِذْكَارَ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ وَسِيَرِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِشَحْنِ النُّفُوسِ لِلْمَعَالِي، وَارْتِقَاءِ الْهِمَمِ لِلْخَيْرِ، وَعَدَمِ الْإِعْجَابِ بِالْعَمَلِ.
لَقَدْ كَانَ سَلَفُكُمْ رَحِمَهُمُ اللهُ أَصْدَقَ الْأُمَّةِ عَمَلًا، وَأَشَدَّهُمْ لَهَا إِتْقَانًا، وَخَبَرُهُمْ فِي هَذَا عَجَبٌ مِنَ الْعُجَابِ، لَمْ يَكُونُوا مَوْسِمِيِّينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، فَاتِرِينَ بَقِيَّةَ عَامِهِمْ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَتَثَبَّثُ بِعَمَلِهِ، حَتَّى لَكَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ جَسَدِهِ، فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا إِلَّا خُرُوجُ الرُّوحِ.
هَذِهِ الْجَوَارِحُ الَّتِي تَمَسَّكَتْ بِصَالِحِ الْعَمَلِ كَانَتْ تَحْمِلُ قُلُوبًا مَلْأَى بِالتَّقْوَى وَالْإِيمَانِ ، وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْمَلِكِ الدَّيَّانِ، حَتَّى هَانَ كُلُّ نَصَبٍ وَتَعَبٍ فِي سَبِيلِ الْجَنَّةِ وَالرِّضْوَانِ، بَلْ كَانَتْ حَلَاوَةُ الْحَيَاةِ لَا تُذَاقُ إِلَّا فِي جَوِّ هَذِهِ الطَّاعَاتِ.
· وَمَعَ قُدْوَتِنَا وَحَبِيبِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَبَرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ:
كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا وَاظَبَ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، وَإِنْ شَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْهُ قَضَاهُ فِيمَا بَعْدُ، تُحَدِّثُنَا أُمُّنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَتَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ تُسْأَلُ الْخَبِيرَةُ عَائِشَةُ عَنْ عَمَلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ؟ فَتَقُولُ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ، (وَالدِّيمَةُ: الْمَطَرُ الدَّائِمُ، شَبَّهَتْ عَمَلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَوَامِهِ بِدِيمَةِ الْمَطَرِ).
مَسْجِدُ قِبَاءَ يَبْعُدُ عَنْ دَارِهِ وَمَسْجِدِهِ مَسَافَةً لَيْسَتْ بِالْقَلِيلَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَارَةَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ جُزْءًا مِنْ بَرْنَامَجِهِ الْأُسْبُوعِيِّ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي قِبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ، وَكَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا".
هَذِهِ الْقُدْوَةُ الْمُثْلَى، وَالْهِمَّةُ الْمُشْتَعِلَةُ بِالْأَعْمَالِ، كَانَتْ صُورَةً حَيَّةً انْعَكَسَتْ عَلَى صَحَابَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فَهَذَا بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ يُبَشِّرُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ سَمِعَ دَفَّ نَعْلَيْهِ فِيهَا، فَيَسْأَلُهُ عَنْ أَرْجَى عَمَلٍ عَمِلَهُ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَإِذَا الذِّكْرَيَاتُ تَطُوفُ فِي ذَاكِرَةِ بِلَالٍ، فَلَا يَرَى سَبْقَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَجِهَادَهُ، وَلَا يَرَى تَعَرُّضَهُ لِلِابْتِلَاءِ أَوَّلَ الدَّعْوَةِ، وَصَبْرَهُ عَلَى أَلَمِهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَ أَرْجَى عَمَلٍ عِنْدَهُ هُوَ مُوَاظَبَتَهُ وَاسْتِمْسَاكَهُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَعْرُوفِ، فَيَقُولُ: "مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطَّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".
اشْتَكَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَهَا لِأَبِيهَا، وَشِدَّةَ حَاجَتِهَا وَزَوْجِهَا لِلْخَادِمِ؛ فَأَوْصَاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوْرَادٍ مَخْصُوصَةٍ، قَالَ لَهُمَا: "أَلَا أُعْلِمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَنْ تُكَبِّرَاهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ".
فَإِذَا الزَّوْجَانِ يَتَلَقَّيَانِ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، فَلَا يَدَعَانِهَا طِيلَةَ حَيَاتِهِمَا، لَا فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ، وَلَا فِي سِلْمٍ وَلَا حَرْبٍ، يُحَدِّثُنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: "مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فَقَالَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: "وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ".
وَمَعَ خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْعَمَلِ،وَمَا أَعْجَبَ أَخْبَارَ ابْنِ عُمَرَ! يَرَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رُؤْيَا فِي مَنَامِهِ، فَيَقُصُّهَا عَلَى أُخْتِهِ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَحْكِيهَا حَفْصَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ".
انْتَهَى التَّعْبِيرُ، وَلَكِنْ هَلِ انْتَهَى أَثَرُهُ؟ كَلَّا، كَلَّا، لَقَدْ فَعَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمَعْدُودَاتُ فِعْلَهَا فِي نَفْسِ ابْنِ عُمَرَ فَهَلَعَ، وَشَحَذَ هِمَّتَهُ لِقِيَامِ اللَّيْلِ، لَيْسَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا مَرَّاتٍ، وَإِنَّمَا لِجَمِيعِ لَيَالِي الْعُمْرِ، غَيَّرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ مُجْرَى حَيَاةِ ابْنِ عُمَرَ وَبَرْنَامَجَهُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ.
قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.
وَهَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ شَابًّا يَافِعًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِعُّ هِمَّةً وَعَمَلًا فِي الطَّاعَاتِ، فَكَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ سَرْدًا، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: "صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ"، فَقَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسٌ"، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "سَبْعًا"، فَقَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ، فَقَالَ: "تِسْعًا"، فَقَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ، حَتَّى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا".
فَاسْتَمْسَكَ ابْنُ عَمْرٍو بِهَذَا الْعَمَلِ وَهُوَ فِي أَوَّلِ شَبَابِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَمَا زَالَ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ طِيلَةَ عُمْرِهِ حَتَّى شَابَ وَضَعُفَ وَرَقَّ عَظْمُهُ، فَكَانَ يَقُولُ: "لَيْتَنِي كُنْتُ أَخَذْتُ بِرُخْصَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"؛ أَيْ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ عَمَلَهُ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ طِيلَةَ حَيَاتِهِ، فَكَانَ يَصُومُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى.
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ خَبَرُ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَخَبَرُ مَنْ بَعْدَهَا فِي التَّسَلْسُلِ عَلَى مُوَاظَبَةِ الْعَمَلِ، تَقُصُّ عَلَيْنَا أُمُّ حَبِيبَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ خَبَرَهَا، فَتَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ".
قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: "فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الرَّاوِي عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ".
وَيَسْتَمِرُّ التَّسَلْسُلُ الْعَمَلِيُّ لِرُوَاةِ الْخَبَرِ، فَيَقُولُ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ:"مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عُتْبَةَ"، وَيَقُولُ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: "مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ".
* وَهَا هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ لَهَا مَعَ صَلَاةِ الضُّحَى شَأْنٌ وَأَيُّ شَأْنٍ! كَانَتْ تُصَلِّي كُلَّ ضُحًى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْغَلَهَا أَيُّ شَاغِلٍ عَنْهَا، تُعَبِّرُ عَنْ شِدَّةِ اهْتِمَامِهَا بِهَا، فَتَقُولُ: "لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتُهُنَّ".
عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ أَحَدُ الصَّحَابَةِ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: "مَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا وَأَنَا عَلَى وُضُوءٍ".
وَهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِمَامُ التَّابِعِينَ،تَنْزِلُ بِهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ وَعِنْدَ رَأْسِهِ بَنَاتُهُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ،فَقَالَ لَهُنَّ:"أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللهِ؛ فَوَاللهِ مَا فَاتَتْنِي تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً".
نَزَلَ الْمَوْتُ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ إِدْرِيسَ الأودي، فَبَكَتْ عِنْدَهُ ابْنَتُهُ، فَقَالَ:" لَا تَبْكِي؛ فَقَدْ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ".
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَقُرَّائِهِمْ، جَلَسَ سَبْعِينَ سَنَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ الْقُرْآنَ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِلَى أَيَّامِ الْحَجَّاجِ، فَأَخَذَ عَنْهُ الْقُرْآنَ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ.
وَمَاتَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَغَسَّلُوهُ، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى آثَارِ سَوَادٍ فِي ظَهْرِهِ، فَسَأَلُوا؛ فَعَرَفُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَحْمِلُ جِرَابَ الدَّقِيقِ لَيْلًا عَلَى ظَهْرِهِ لِيُعْطِيَهُ الْفُقَرَاءَ!
تِلْكَ عِبَادَ اللهِ شَذَرَاتٌ مِنْ أَخْبَارِ الْقَوْمِ مَعَ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَمُسْتَحَبَّاتِ الطَّاعَاتِ، فَلَا تَسَلْ بَعْدَ ذَلِكَ: كَيْفَ يَكُونُ حِرْصُهُمْ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَاهْتِمَامُهُمْ بِالْفَرَائِضِ.
لَا تَعْرِضَنَّ بِذِكْرِنَا مَعْ ذِكْرِهِمْ *** لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَى كَالْمُقْعَدِ
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِ اللهِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: الثَّبَاتُ عَلَى صَالِحِ الْعَمَلِ هُوَ نِدَاءُ الرَّحْمَنِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِصَفْوَتِهِ مِنْ رُسُلِهِ؛ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}
فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ شَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ، تَحْتَاجُ إِلَى سِقَايَةٍ وَرِعَايَةٍ لِتَنْمُوَ وَتُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَلَنْ يَبْلُغَ الْعَبْدُ مَنْزِلَةَ عِبَادِ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِالثَّبَاتِ عَلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ ثَبَاتًا لَا يَنْقَطِعُ دُونَ الْمَوْتِ.
عِبَادَ اللهِ: وَإِذَا وُفِّقَ الْعَبْدُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَاتِ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الْمَكَاسِبُ، وَحَفَّتْ بِهِ الْمَوَاهِبُ، فَمَحَبَّةُ اللهِ تُزَفُّ لَهُ؛ "أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ".
وَسَيِّئَاتُهُ وَخَطِيئَاتُهُ فِي تَكْفِيرٍ دَائِمٍ؛ "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ".
وَإِنْ حَبَسَهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ عَنْ طَاعَتِهِ، فَأَجْرُهُ مُدَّخَرٌ، وَثَوَابُهُ مَحْفُوظٌ؛ "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا".
الْمُدَاوِمُ عَلَى الطَّاعَةِ أَهْلٌ لِأَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِخَيْرٍ؛ فَالْوَاقِعُ وَالسُّنَنُ تَشْهَدُ أَنَّهُ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ، الدَّوَامُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الرَّخَاءِ سَبَبٌ لِتَقَشُّعِ الْكُرُوبِ فِي الشِّدَّةِ؛ "تَعَرَّفْ عَلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ".
الدَّوَامُ عَلَى الطَّاعَةِ سَبَبٌ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَرَاحَةِ النَّفْسِ؛ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
فَيَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، هَا قَدْ طَرَقْتُمْ أَبْوَابًا مِنَ الطَّاعَاتِ فِي أيام العشر الخاليات، فَوَاصِلُوا الْمَسِيرَ فِي دُرُوبِ الطَّاعَاتِ، وَامْلَؤُوا دِيوَانَ حَسَنَاتِكُمْ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَمَنْ زَرَعَ فِي دُنْيَاهُ حَصَدَ فِي أُخْرَاهُ، وَمَنْ تَغَافَلَ عَنْ بَذْرِ الْحَصَادِ، تَأَوَّهَ نَادِمًا يَوْمَ التَّنَادِ.
ثُمَّ أَبْشِرُوا أَيُّهَا الْعَامِلُونَ وَأَمِّلُوا؛ فَرَبُّكُمْ كَرِيمٌ شَكُورٌ، يُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَيُضَاعِفُ الْأُجُورَ؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم