عناصر الخطبة
1/ من صفات الملائكة 2/ مرافقتها للإنسان في الدنيا وبعض وظائفها تجاهه 3/ مهامها منذ قبض الأرواح إلى قيام الساعة 4/ تكريم الملائكة للمؤمنين وتعذيبهم للكافرين في الآخرةاقتباس
ونذكر هنا -يا عباد الله- بعض وظائف الملائكة، وعلاقتهم بالبشر، في رحلة تبدأ من خلق الإنسان عندما يكون نطفة في بطن أمه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الكرام: في هذا الكون لا نعيش وحدنا، بل هناك مخلوقات لا نراها، ولنأخذ مثالا على ذلك: الملائكة.
الملائكة خلق من خلق الله -سبحانه وتعالى- ، خلقهم الله -سبحانه وتعالى- من نور، هم جنود مطيعون، (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، لا يتزوجون ولا يتوالدون ولا يتكاثرون، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يتعبون ولا ينامون، فلا وقت عندهم يضيعونه في الشهوات والملذات، حياتهم كلها عبادات وطاعات.
فاجأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فسألهم: "أتسمعون ما أسمع؟" قالوا: ما نسمع من شيء! قال: "إني لأسمع أطيط السماء -والأطيط: هو الصوت الذي ينتج عن ثقل فوق السماء- وما تُلامُ أن تئطَّ، وما فيها موضعُ شبرٍ إلا وعليه ملك ساجد أو قائم".
ونذكر هنا -يا عباد الله- بعض وظائف الملائكة، وعلاقتهم بالبشر، في رحلة تبدأ من خلق الإنسان، عندما يكون نطفة في بطن أمه، ثم علقة، ثم مضغة، يحدث ذلك والملك الموكل بالأرحام، يستأذن الله، يأخذ الإذن من الله: "يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة، هذا القول يحتاج إلى أربعين يوما، نطفة، علقة، مضغة، فإن أذن الله له كان، وإن لم يأذن؛ سقط الحمل من بطن أمه، قبل أن تنفخ فيه الروح.
وبعد الأربعين الثالثة تنفخ الروح في هذا الجنين، ويكلَّف الملك الموكل بالأرحام، بأن يكتب على هذا الإنسان، عليَّ وعليك، وعلى البشر جميعا، ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، أربعَ كلمات: الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة أو السعادة، هذه وظيفة من وظائف الملائكة.
فإذا خرج الإنسان من بطن أمه استلمته الملائكة الحفَظة، فقد انتهى عمل الملك الموكل بالأرحام، ويبدأ عمل الملائكة الحفظة، الذين يحفظون الإنسان، من مولده إلى وفاته، قال -سبحانه-: (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [الأنعام:61]، وقال -تعالى-: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]، يحفظ مما لم يأت به قدر، فإن جاء قدر، تنحت الملائكة، ليسير قدر الله -سبحانه وتعالى- ، فأنت محفوظ ومحروس بأمر الله -سبحانه وتعالى- .
فابن آدم غيرُ متروك عبثا، ويحسب أكثر من حساب لبشرٍ مثلِه إذا راقبوه، وللناس إذا رافقوه، فكيف بمن هم معك ليلا ونهارا، في حِلِّك وترحالك؟!.
فإذا بلغ الإنسان سنَّ التكليف والبلوغ، دخل في مرحلة أخرى، وهي سن يحاسب عليها العبد، يحاسب عليها الإنسان، استلمه الملكان: رقيب وعتيد: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17-18]، هؤلاء لا عمل لهم قبل ذلك معك حتى بلغت، ووصلت إلى سن التكليف وسن الرشد، فيكتبون عليك أقوالك وأفعالك، وما ظهر منك، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ووكِّل عليك رقيب، ووكل عليك عتيد، ملك الحسنات، وملك السيئات.
لذلك؛ إنَّ ملك السيئات، أو صاحب الشمال كما ورد في الحديث، لينتظر ست ساعات، "إن صاحبَ الشمال ليرفعُ القلمَ سِتَّ ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء، فإن ندم واستغفر اللهَ منها ألقاها، وإلا كَتَبَ واحدة". فإذا عمِلتَ سيئة، ينتظر عليك ست ساعات، فإن تبت واستغفرت وعملت الصالحات محاها، وكتبت لك حسنات، وإلا بعد الست ساعات، لم تتب ولم تستغفر، ولم تأت بما يمحو السيئة، كتبت سيئة واحدة.
لذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ". قرين من الجن: الشيطان يوسوس لك لفعل الشر، وقرين من الملائكة يهيئك ويحضك ويحثك ويذكرك بفعل الخير، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِيَّايَ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ" رَوَاهُ مُسلم.
أما إذا جئنا إلى الملائكة وعلاقتهم بالبشر؛ فهؤلاء منهم من يأتيك في اليوم مرتين، لن يكونوا معك طول العمر، لكن مرتين في اليوم، دوريات؛ يأخذون أعمال اليوم، يرفعونه إلى الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يصلونَ، وأتيناهم وهم يصلونَ" متفق عليه.
فلا يكن في كتابك شيء غير ذلك يا عبد الله: أتيناهم وهم يلهون، وتركناهم وهم يعصون، لا نريد هذا الكلام يا عباد الله، فحافظوا على صلاة الصبح، وصلاة العصر، وغيرهما من الصلوات.
وهناك من الملائكة من تجمع أعمال الأسبوع، ليس أعمال اليوم مرتين، بل أعمال الأسبوع مرتين، تقارير ترفع عنكم يوميا يا عباد الله، ترفع إلى المالك الجبار، حتى تحاسب على ما فعلت، فربما لا تكتفي أنت يوم القيامة أن يشهد عليك رقيب وعتيد، ولا بملائكة الليل والنهار، في العصر والصبح، ربما لا تكتفي يوم القيامة، تريد شيئا آخر، فتأتيك ملائكة الأسبوع، يوم الاثنين ويوم الخميس، ترفع فيهما أعمال العباد الأسبوعية، سئل -صلى الله عليه وسلم- عن سبب صيامه ليوم الاثنين والخميس؛ فقال: "فيهما ترفع الأعمال إلى الله، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، فهنيئا لمن يصوم الاثنين والخميس!.
وهناك ملائكة يرفعون أعمال العباد التي فُعِلت في سنة كاملة، وذلك في ليلة القدر، سجلٌّ كامل للأيام، والساعات، والليالي والشهور في سنة، ترفع إلى الله.
وهناك ملائكة موكلة بأعمال خاصة بالعباد، موكلة بالصلوات، فإذا قال الإمام: ولا الضالين، وقال الملك: آمين، وأنت إذا وافقت فيها الملَك، غفر لك يا عبد الله؛ لأنَّ موافقةَ تأمين الملائكة، مغفرة لمن يوافقهم، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تقدم من ذَنبه". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: (غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين) فَقُولُوا: آمِينَ! فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ. وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تقدَّمَ من ذَنبِه" متفق عليه.
كذلك -يا عباد الله- هناك ملك موكل بمن يدعو لإخوانه بظهر الغيب، يدعو لهم بالخير، فيقول الملك: آمين، لأنه ورد في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم وغيره، "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ" رواه مسلم.
كذلك -يا عباد الله- وأبشروا! يا من تزورون المرضى، سبعون ألف ملك وكلهم الله -عز وجل- لمن يزور مريضا، وليس شرطا هذا المريض أن يكون رحما أو أخا أو قريبا، هذا أمر آخر، لكن حتى لو كان غريبا، ما دام مسلما، يدعون له ويشفعون له. "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الجَنَّةِ" رواه الترمذي.
وهناك ملائكة مختصة بمن يزور له أخا في الله، إخوة محبة في الله، فيجعل الله -سبحانه وتعالى- إذا خرج من بيته على مدرجته وعلى طريقه ملكا في صورة رجل، هذا الملك يقول: إلى أين؟ قال: إلى أخي فلان أزوره في الله، قال: هل لك عنده يد؟ أو هدية تردها، ويبدأ الملك يأتي بأعذار، ما يفعله كثير من الناس، فيقول: لا، إنما أزوره في الله، زيارة خالصة، فيبشره بأن الله -سبحانه وتعالى- قد غفر له، وجعله في مخرفة الجنة، فقد ثبت "أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ، عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ -عز وجل-، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ" رواه مسلم.
وهناك ملائكة آخرون، ملك موكل بكل إنسان، خاص بالليل، كم تكملنا عن ملائكة؟ والله لو واحد منهم، رافقه بشر مثله، في قيامه وجلوسه، وفي خروجه ودخوله، وعند نومه، وعند صلاته، لتأفف من ذلك، ولتحرج أن يفعل ما يغضب الله -سبحانه وتعالى- ، لكن هنا أنت مراقب، وملاحظ، وملاحق، ويسجل عليك ويدون، كل صغير وكبير، لذلك هذا الملك موكل بك في النوم، عندما تنام على طهارة، على وضوء، يبيت معك في شعارك، والشعار هو اللباس الداخلي، الذي يلي الجسد، كالـ "فانيلا" وما شابه ذلك، يلي الجسد، يبيت معك في شعارك، كلما استيقظت، قال الملك: "اللهم اغفر لعبدك فلانا، فإنه بات طاهرا". الشرط: أن تبيت على الطهارة.
وهناك ملائكة موكلة بالمساجد والجماعات، بأهل المساجد، الذين يتوضؤون في بيوتهم، لا يخرجهم إلا الصلاة في بيت من بيوت الله، تكتب لهم الحسنات في خطاهم، ترفع لهم الدرجات، تمحى عنهم السيئات، فإذا جلسوا في المساجد؛ الملائكة تدعوا لهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللهم ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ".
وَزَادَ فِي دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ. مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ -ما لم يؤذ أحدا، سواء بالفعل، أو يؤذي أحدا بالقول، والغيبة والنميمة- مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ -يعني يحدث حدثا" متفق عليه.
فإذا تحدثنا عن هذا اليوم، وملائكة الجُمُعات التي تجلس على أبواب المساجد، من ساعات الجمعة المبكرة، من أول ساعات النهار، تنتظر وتستقبل الذين يأتون لأداء صلاة الجمعة، يكتبون الأول فالأول، على قدر مجيئهم يكتبون، حتى يأخذوا أجر البدنة، والبقرة، والكبش الأقرن، وفي النهاية؛ الدجاجة والبيضة، فهؤلاء يحضرون كل أسبوع مرة، هؤلاء يأتون من أول ساعات يوم الجمعة، يسجلون أسماء القادمين إلى صلاة الجمعة، فيدوِّنون الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم، وتوقفوا عن التدوين والتسجيل، وجلسوا يستمعون الذكر والخطبة.
فإذا ذكرنا الملائكة السياحين في الأرض، يبحثون عن مجالس وحلق الذكر، ويحضرون حلقات العلم، والناس زهدت في هذه الأيام في حلقات العلم، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ، فُضُلًا عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ، فَإِذَا وَجَدُوا أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى بُغْيَتِكُمْ! فَيَجِيئُونَ فَيَحُفُّونَ بِهِمْ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا" رواه الترمذي.
و"مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نسبه" رَوَاهُ مُسلم.
وطالب العلم، وما أدراك ما طالب العلم! "وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ"، ملائكة يسيحون في الأرض، وفي الشوارع والطرقات، إذا عرفوا في مكان ما، هناك درس علم، وحلقة يذكر فيها الله -سبحانه وتعالى- ورسوله، أو يتلى فيه آيات من كتاب الله، تنادوا فيما بينهم: ألا هلموا! ألا هلموا!.
ملائكةٌ -صلوا على رسول الله، عليه الصلاة والسلام- وظيفتهم تبليغ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في قبره، الصلاةَ والسلامَ عليه من أمته، موكلون بهذا، في مشارق الأرض ومغاربها، تأخذها الملائكة، وتبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة... كل صلاة تصلي بها على النبي، -صلى الله عليه وسلم-، ملك موكل يبلغها مباشرة، لا تسأل عن السرعة، ولا عن المساحة، أو المسافة، فهذا كلمح البصر أو هو أقرب.
والآن، بناء على هذا الحديث، وصلت صلواتنا وسلامنا قبل قليل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِيَ السَّلَامَ" رَوَاهُ النَّسَائِيّ والدارمي.
قال أيوب السختياني رحمه الله: بلغني -والله أعلم- أن ملكًا موكَّلٌ بكلِّ من صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يبلغَه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفي رواية عنه -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي مرة، صلى الله عليه عشرا، ملك موكَّلٌ بها حتى يبلِّغَنِيها" رواه الطبراني في الكبير وحسنه لغيره في صحيح الترغيب والترهيب.
وهناك -يا عباد الله- ملائكة موكلون بغير وظيفتهم الأصلية، موكلون بالدعاء والاستغفار للمؤمنين على الأرض، وذلك بإذن من الرحمن الرحيم، قال -سبحانه-: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الشورى:5].
بل لم تنسَ حملةُ العرش، ومن حول العرش، لم تنس المذنبين التائبين من هذه الأمة، المذنب التائب الذي رجع إلى الله، فـ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر:7-9].
يا عبد الله: أنت مأمور بأن... تسلِّم على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردُّوا عليك ردَّت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردُّوا عليك ردَّت عليك الملائكة، ولعنتهم إن سكت عنهم...
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، وتوبوا إليه واستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: أما الملائكة في آخر الزمان، في آخر عمرك، في نهاية الدنيا، دنياك أنت، أو الدنيا عامة، عند الموت، الآن انتهينا من الملائكة، المعقبات الحفظة، وما شابه ذلك، انتهى عملهم عند غرغرة الروح، فيسلمونك إلى ملائكة آخرين، هذه هي وظيفتهم، الملائكة التي وظيفتها قبض الأرواح، فهو ملك الموت، وملائكة الموت، قل يتوفاكم ملك الموت، فإذا نزع ملك الموت الروح، الملائكة الآخرون لم يتركوها، فينزعها، "فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ"، فيسلمها لهم، فتأخذها الملائكة الموكلون بها.
قال -سبحانه- عن الكافرين المشركين الظالمين الذين يكذبون بمثل هذه الساعات، ساعات الموت: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:27-28].
فكأن روح الكافر إذا أراد ملك الموت نزعها، تفرقت في جسده، فلا تخرج إلا بصعوبة، فيكون الضرب من الملائكة، على وجه هذا الكافر، وعلى دبره من خلفه، حتى يجعل الروح تخرج، قال الله -تعالى- في حقهم: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام:93-94]، وقال -سبحانه-: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال:50-51].
وهؤلاء تنتهي مهمَّتُهم بعد إرجاع الروح إلى الجسد، بعد صعودها وإرجاعها إلى الجسد انتهت مهمتهم، فـ "إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ -أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ -الميت مؤمن، والرجل المسؤول عنه محمد -صلى الله عليه وسلم-، فَيَقُولُ: مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا..." رواه الترمذي. يعني: صدقت.
وما زالت رحلتنا مع الإنسان ومَن حوله من الملائكة، حتى وصلنا معه إلى يوم القيامة، يومِ الحسرة والندامة، حيث ينفخ إسرافيل في الصور، فإذا الناس، فإذا الموتى قيام ينظرون.
فالمؤمنون تحشرهم الملائكة، على صورة القمر ليلة البدر، وتحييهم وتهنئهم، (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:22– 24]، إنهم أهل الله وخاصته: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:103].
أما الكفار الظالمون فموقف الملائكة منهم يختلف: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل:28-29].
فيحشرون ويحيط بهم الجن، ويحيط بالجن الملائكة، ينتظرون أوامر الرحمن الرحيم، مالكِ الملك ذي العزة والجبروت، في ذلك اليوم هناك أناس لا يمشون على أرجلهم: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر:48]، وأناس يعاملون معاملة الوفود، (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم:85-86].
وأناس تسوقهم الملائكة: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر:71-72]، إنه يوم الحشر: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا) [طه:102].
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم