عناصر الخطبة
1/ سنة الله في التغيير في الأمم والشعوب 2/ ضرورة عودة الأمة إلى القرآن 3/ ضوابط الحرية ومعانيها 4/ مظاهر الحرية في الإسلام 5/ كيفية التعامل مع الاصطلاحات المستحدثة 6/ ضوابط الحرية في الإسلاماقتباس
لقد جاء الإسلام ليضمن الحرية للإنسان؛ لأن الحرية إحدى مقومات الشخصية، وهي أساس لأي مجتمع إنساني، ولذلك حرص الإسلام على تربيتها وتهذيبها وتقويمها وضمن للمسلم الحرية الشخصية، حرية العمل والمأوى، والتملك والتعلم، وغيرها من أنواع الحريات. وإن أول وأعظم وأرقى مظهر من مظاهر الحرية في الإسلام هو التوحيد الذي هو تحرير للإنسان من قيود الشرك، الحرية الصادقة لا تكون إلا بالتذلل لله والعبودية له ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى والمختص بالملك الأعز الأحمى الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وأتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: لا يزال العالم يراقب ما يحصل من تطورات وتغيرات كانت إلى الأمس القريب أشبه بالخيال والمحال، فقد حدثت أمور واستجدت أحوال لا يمكن لذي لبّ بعد الإمعان فيها إلا أن يدرك عظمة الله وقدرته سبحانه وحكمه المطلق، وأن الكون كله طوع أمره وأن المقاييس البشرية عاجزة ومنهارة أمام إدراك حقيقة تسيير الكون..
أحداث غريبة عجيبة مفاجئة لكنها رغم حدوثها المفاجئ كانت وليدة انحرافات عن منهج الله، وبما أن سنة الله ثابتة لا تتغير جاء التغيير وفق سنن الله بعد إمهال وإنذار..
وكان الأولى بالمسلمين في ظلال هذه الأحداث أن يرجعوا إلى قرآنهم حتى في تحليلاتهم لهذه الوقائع؛ لأن القرآن لن يحوجهم إلى مصادر أخرى للتحليل أو التأويل، فنصوصه غنية صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غبش تؤكد أن المصائب وليدة الكسب (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ..) [الشورى: 30].
وأن الرجوع إلى الله والتضرع إليه وسيلة الكشف (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 43].
وأن الظلم سبب خراب الديار (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل: 52].
وأن العدل سبب التمكين (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].
كتاب عظيم معجز مبهر كلما قرأته وجدته وكأنه يتحدث عن زمانك وأوانك، عندما تقرأ مثلا قوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ *كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان: 25- 29].
عندما تقرأ هذه الآية تجدها متجددة وتراها ممثلة في مصائر أناس مكّنهم الله، فطغوا وبغوا وظلموا فجاء المصير المحتوم الاستئصال والاجتثاث..
أرادوا البقاء في ظلال الفناء وظنوها قرارًا واستقرارًا، فزال المُستقر والمستقر وبقيت العبر قائمة ليتلقفها أرباب البصائر وأولى الألباب.
هذه الأحداث كانت سببًا لعدد من الأمور ولألون من المطالب منها الصالح، ومنها دون ذلك، ومنها الفاسد المدمر وكثر اللغط والخلاف، وتلك نتيجة حتمية للفتنة، أعاذنا الله وإياكم منها.
وخرج أناس بكثير من البلاد العربية يطالبون من جملة ما يطالبون بالحرية أو بمزيد من الحريات، ومعلوم أيها الأحباب أن الحرية مطلب عظيم، وكلمة ينشد حقيقتها كل فرد، ويسعى إليها، ولكن السؤال أية حرية؟ هل الأمر على الإطلاق أم هناك تقييد؟ هل هي الحرية التي تتخطى كل الحدود وتحطم كل القيود؟
ومن ثم وجب علينا أن نعرف ونُعرف، أن نعرف جميعًا ما هي ضوابط هذه الحرية في ديننا الإسلامي الذي هو مرجعنا ودستورنا..
معاشر الأحباب: لقد جاء الإسلام ليضمن الحرية للإنسان؛ لأن الحرية إحدى مقومات الشخصية، وهي أساس لأي مجتمع إنساني، ولذلك حرص الإسلام على تربيتها وتهذيبها وتقويمها وضمن للمسلم الحرية الشخصية، حرية العمل والمأوى، والتملك والتعلم، وغيرها من أنواع الحريات.
أول وأعظم وأرقى مظهر من مظاهر الحرية في الإسلام هو التوحيد الذي هو تحرير للإنسان من قيود الشرك، الحرية الصادقة لا تكون إلا بالتذلل لله والعبودية له جل في علاه، إذ في العبودية لله تحرر من سلطان الشهوة..
فعبادة غير الله وعبادة الشهوات والملذات والأموال أخلال وأثار والإسلام جاء ليحرر المنتسب من كل ذلك، قال الله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...) [الأعراف: 157].
وأي حرية أيها الأحباب أعظم من حرية المصلي في المسجد، وهو متحرر من كل رق يركع ويسجد لله وحده لا شريك له ويخضع له لا لسواه..
إنها أرقى صور الحريات على الإطلاق، إن التحرر الحقيقي يعني الخضوع لله وحده، وأخذ منهجه دون سواه، والتحاكم إلى شرعه دون بقية الشرائع والقوانين، فإن رفض البشر هذه العبودية لله ورفضوا الاحتكام إلى شرعه فإنهم سيقعون في عبادة الأهواء والآراء والذات والملذات.. ويصدق فيهم قول الله (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان: 43- 44].
لقد كفل الإسلام للإنسان أن يعيش آمنًا لا يعتدي عليه أحد، ومنعه أن يعتدي على الآخرين فلا عدوان إلا على الظالمين، أعطاه الحق في أن يتصرف في أمور نفسه وحمّله مسئولية هذا التصرف (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة: 286].
أعطاه حرية التفكير في خلق الله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) [آل عمران: 190].
أعطاه حرية الحركة والسير في الأرض والاستمتاع بخيراتها (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك: 15].
منع الإكراه في الدين (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256] وإسلام المكره لا يعتد به؛ لأن الإسلام يقيم رسالته على الإقناع لا على الإخضاع، وسيلته في ذلك الحجة الدامغة والبرهان الساطع.
الإنسان حر لكنها حرية تتضمن مسئولية مناطة بالابتلاء والامتحان (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا..) [الكهف: 29].
فلا حرية في الإسلام دون مسئولية وحساب، ومن أعطي الحرية فإن من العدالة أن يصبح مسئول عن عمله فيجازى عليه..
وإن الناظر أيها الأحباب في تاريخنا الإسلامي المجيد يجده حافلاً بمعاني الحرية، فحرية الرأي مثلاً نراه في موقف سيدنا الحباب بن المنذر رضي الله عنه الذي أبدى رأيًا شخصيًّا غير رأي النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، والصحابة أدلوا بآرائهم وكانت مختلفة في حادثة الإفك وغير ذلك من المواقع والمواقف..
وأبو بكر رضي الله عنه قال في أول خطبة له بعد توليه الخلافة "إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوّموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن لم أطعه فلا طاعة لي عليكم".
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للناس: " لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".
الحرية التي يريدها الإسلام هي الحرية التي تبني الشخصية، وتحرص الأمن، وتحفظ النفس والفطرة وتقيم الحق والعدل، وإذا تجاوز الإنسان حدود وضوابط الحرية كان ذلك سببًا للهدم والتدمير.
أيها الأحباب: إننا نستمد مفهوم الحرية من ديننا وشريعتنا، ولا نبحث عنه في نظم أرضية ومناهج وضعية.
لقد افتتن الكثير مع الأسف بمصطلح الحرية وشعار الحرية الذي روّج له أعداء الإسلام ووسعوا دائرته لتحقيق أهدافهم من تدمير القيم الدينية والخلقية وإماتة الوازع الديني والخلقي وتحطيم النظم الاجتماعية.
إن مشكلة كل معنى من المعاني الكريمة مشكلته في شيئين في التوصيف والتوظيف، والحرية ككل معنى كريم تعرضت في توصيفها وتوظيفها للتلاعب والتحريف، فالمجرم يفهم الحرية ممارسة السلب والنهب والقتل، والمحتال يفهم الحرية سلب الأموال وممارسة الغش الاحتكار وحيل المضاربة والقمار.. وقد تصور للمرأة الحرية على أنها انفلات من ضوابط العفة والقوامة، وكل الضوابط الأخلاقية.
أيها الأحباب: يخطئ من يجعل الحرية مركبًا يستبيح بها كل شيء دون ضوابط، فليس من الحرية أن يرضي الإنسان شهوته على حساب آلام الآخرين.. ليس من الحرية أن يدمن المسكرات ويترك وراءه ذرية محطمة الملكات.
إن الحرية الفكرية التي ينادي بها اليوم بعض منتكسي الفطرة هي أن تجهر بشتم العقيدة وأن تستخف بالدين.
الحرية عند آخرين هي أن تعمل ما تشاء وترتكب من المنكرات ما يحلو لك دون مراعاة لتعاليم الدين ولا لآداب المجتمع..
لا شك أن فهم الحرية على هذا النحو سيسوق المجتمع إلى الدمار ويعرض ثوابته للخراب وأي تماسك يبقى في المجتمع وكل فرد فيه يعمل بما يرى ولو ضرَّ ذلك الآخرين.
إن العار كل العار أن تسحق المبادئ والقيم باسم الحرية، والعار كل العار أن يتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الأماجد وعلى رموز الإسلام تحت مسمى الحرية.
إنها حرية وأقولها بكل حرية.. لا بارك الله في هذه الحرية..
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكر، وأخلص عمله لله سرًّا وجهرًا، آمين..آمين والحمد لله رب العالمين..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الملك الحق لا غير، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، بيده الخير، أحمده حمدا دائمًا لا انقطاع لأوانه ولا زوال لعنوانه، وأشكره على فضله وإحسانه، والصلاة والسلام على خير خلق الله وأكرمهم على الله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا بقربه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر الأحباب: إن الإسلام وضع الإطار المتين الذي يحمي كلمة الحرية البراقة من الانحدار إلى الهاوية، وحدد معالمها الصحيحة حتى لا تستغل هذا الاستغلال السيئ في تدمير المجتمعات..
كما أن الحرية في الفكر والرأي محكومة بقواعد الشريعة التي أنزلها الله لعباده، ولا تعني الانفلات والتسيب، وزعزعة الثوابت، والشطط في التفكير والتطاول على المبادئ والقيم وما جاء في كتاب الله الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن حرية الرأي لا تعني ما يذهب إليه بعض الناس من أن يعلن إلحاده ويهاجم العقيدة الإسلامية بحجة تحرير الفكر من الجمود أو الخرافة أو الطغيان، وليس للكاتب أو الأديب أن يفهم الحرية بأن يقول ما يقول، فالحرية تُمَارس لكن في إطار النظام العام وميزان الشريعة.
وإذا انحرف الكاتب أو تجاوز حدود الشريعة صُودرت حريته، ومن استغل الحرية للتعدي على ثوابت الدين ومسلمات الشريعة، وعمل على إضلال الناس، فإن حقه العقوبة والحجر، فإذا كان معنى الحرية أن يخرب المجتمع المسلم، وتنتقد أسسه التي قام عليها، فهذا غير مقبول ونحن بحاجة إلى أن نفهم الحرية من نصوص الوحي لا من خلال التصورات البشرية قائمة على الأهواء والشهوات والمصالح، قال الله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50].
إن علينا أن نفهم أننا عبيد لله، والحرية تنافي العبودية، بمعنى أن كل حرية تنافي هذا الأصل وهو عبوديتنا لله هي حرية زائفة تالفة، وإننا إذا أردنا أن نمارس حريتنا علينا أن نمارسها وفق هذا الأصل وهو أننا عبيد لله.
أيها الأحباب الكرام: لقد بدأنا نسمع في الآونة الأخيرة دعوات من بعض المعتوهين إلى ممارسة الحرية، ويذكرون من ضمن هذه الحريات: حرية الإفطار في رمضان، ويدعون إلى عدم تجريم هذا العمل، وسبحان الله هؤلاء المساكين يرون في الصوم تقييدًا للحرية ويرون في الطعام الحرية.. ولو أمعنوا قليلاً لوجدوا العكس، فتشريع الصوم تشريع من؟ والطعام طعام من؟ فالتشريع تشريع الله والطعام طعام الله فكيف يهربون من شرعه إلى طعامه؟!
كان المناسب لحالهم أن يأكلوا من غير طعامه، وأن يتنفسوا من غير هوائه، وأن يعيشوا في ملك غير ملكه، ولكن الفطرة عندما تنتكس تختل الموازين، قال تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس: 25- 32] ومعلوم أن الأنعام هي التي تأكل ولا تكاليف شرعية عليها.
وهناك فئات أخرى تنادي بحريات أخرى كلها تشبه بحياة البهائم، وكأن عندهم معاهدة حب مع البهائم..
بعضهم ينادي بحرية الشذوذ ويطالبون في حقوقهم (يعني حقوقهم في البهيمية) نقول لهم: خذوا حقوقكم وهنيئًا لكم حياة البهائم، قال الله (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].
فهل هذه هي الحرية التي ينشدون؟ هل هذه هي الحرية التي بها يتشدقون؟ إنها الفوضى، فوضى القيم والأخلاق، فوضى الانحدار والانحطاط..
أيها الكرام: لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل من أروع الأمثلة يبين الحد الفاصل بين الحرية والفوضى، قال صلى الله عليه وسلم " مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا" رواه البخاري.
فأنت ترى هؤلاء أردوا أن يستغلوا حريتهم فيما يخصهم، ولكنهم يجب أن يمنعوا من استعمالها إبقاءً على حياة السفينة ومن فيها.
في هذا المثل الرائع يتبين الموقف ممن يسيئون استعمال حريتهم الشخصية فيما يؤذي الأمة ويضر الوطن، ويفسد الأمر على الناس جميعا، فدائرة حرية الفرد تتسع في نظر الإسلام ما دام لا يؤذي بهذه الحرية نفسه أو مجتمعه أو دينه..
أما إذا استغل هذه الحرية للإضرار بنفسه أو إيذاء مجتمعه أو الإضرار بدينه عند ذلك يقف الإسلام في وجهه، فإن أخذ على يده نجا ونجوا وإن تركوه هلك وهلكوا.
من الحرية كذلك التي كثر الكلام حولها: مسألة حرية التعبير، وهذا مطلب سليم إن من أعظم من رسخ الإسلام في قلوب مُنتسبيه ليعبروا عن آرائهم وما يدور في أنفسهم، والقرآن رسخ هذا المبدأ وأشار إليه في آيات كثيرة منها قوله تعالى حكاية عن خليل الله إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة: 260].
وقال الله لنبيه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: 159] (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى: 38] وغير ذلك من الأدلة مما لا يتسع المجال لذكرها..
ولكن حرية التعبير كذلك في المنظور الإسلامي لها ضوابط وعليها قيود، وليس الأمر على الإطلاق، فحرية التعبير تنتهي عند حدود حرمة أخيك، فلا يجوز لك اغتيابه ولا الاعتداء على عرضه، ولا اقتحام حياته وخصوصياته ولا المس بكرامته، ولا تجريحه تحت دعوى حرية التعبير، قال الله: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12].
ولا يجوز ذلك أبدًا إلا في الحالات التي أشار إليها الشرع، ومع الأسف أصبحنا نشاهد اليوم استغلالاً سيئًا لهذه الحرية فيما يتعلق بحرية الآخرين، فبعض الصحف تفيض بصور من صور اقتحام حياة الناس الخاصة وتجريحهم واتهامهم، وفي الغالب مرد ذلك إلى الظن أو قصد التشويه والتشويش..
بل إننا رأينا في بعض الصحف اقتحامًا لحرمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رأينا في بعض الصحف مؤخرًا عنوانًا عريضًا "الحرية المثيرة لأشهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم" يقصدون عائشة رضي الله عنها..
وهذه ليست حرية تعبير إنما قلة أدب، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس شخصية عادية تقتحم، هذا صفوة خلق الله والأدب معه، أدب مع الله (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) [الأحزاب: 53]، (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 57- 58].
حرية التعبير لا تخول لك الحق في السخرية من الناس واستصغارهم واحتقارهم وازدرائهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ..) [الحجرات: 11].
حرية التعبير لا تخوّل لك انتقاص من والاهم الله أمرك؛ حتى في مقام النصح لهم، هناك ضوابط وشروط وآداب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا قدره" وقال: "أنزلوا الناس منازلهم".
حرية التعبير لا تخوّل لك نشر الإشاعات المغرضة الكاذبة من أجل التشويه والإيقاع بين المسلمين (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
حرية التعبير لا تخول لك نشر الأكاذيب واختلاقها ومطاردة الناس بها، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من جملة ما رأى ليلة الإسراء والمعراج رجلاً يشرشر شدقه إلى قفاه، ثم يرجع كما كان ثم يشق بلا نهاية.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم متسائلاً: "من هذا يا جبريل؟" هذا الرجل من أمتك يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، واليوم قد تكتب كذبة فتقرأ في بلاد كثيرة من بلاد العالم.
حرية التعبير لا تخول لك التجسس على الناس واستراق السمع كالشيطان ونشر حصاد التجسس؛ لأن هذا عيب وخسة وحقارة..
حرية التعبير أن تراعي الأدب والصدق والإخلاص، ومراعاة الأقدار وإعطاء كل ذي حق حقه..
حرية التعبير أن تنتصر للحق لا لنفسك ولا لأغراض زائلة..
الحرية يا عباد الله مطلب فطري إنساني إسلامي عقلي أكدته الفطرة، وأيدته الخلقة، ودعمته الشريعة، ولكنها ينبغي أن تظل في الحدود التي وضعها واهبها وهو الله جل في علاه.
لقد كثرت النداءات والمطالبات بالحرية، ولكننا نريد حرية لا تمكّن للخرافات، ولا تسمح بالمخالفات، حرية يشعر المرء في ظلالها بجمالية العبودية لله جل في علاه.
اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، وإلى الخيرات مآلنا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم