عناصر الخطبة
1/الشكوى من ضيق الرزق ومسلَّمات إيمانية متعلقة بالرزق 2/من مفاتيح الرزق والزيادة فيه: التوبة والاستغفار 3/من مفاتيح الرزق والزيادة فيه: تقوى الله 4/من مفاتيح الرزق: التوكل على اللهاقتباس
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدَّر المقادير، وقسم الأرزاق، وحدَّد الآجال قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومن أسمائه تعالى: الباسط، القابض، فهو الذي يبسُط الرزق لمن يشاء ويوسِّع عليه، ويضيِّق على من يشاء، وهذه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله. نحمَدك ربَّنا على ما أنعمتَ به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضلَ رُسلك، وأنزلت علينا خيرَ كتبك، وشرعتَ لنا أفضلَ شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: يشتكي الكثير من الناس من ضيق الرزق بسبب الأزمة التي تسبَّب فيها وباء كورونا، فاحتاج الأمر إلى التفقه في مفاتيح الرزق، فما هذه المفاتيح؟ وقبل الحديث عن هذه المفاتيح لا بد من ذكر مسلَّمات إيمانية عقدية فيما يتعلق بقضية الرزق: أولا: تقدير الرزق قبل خلق السماوات والأرض، يجب العلم أن الله هو الذي قدَّر المقادير، وقسم الأرزاق، وحدَّد الآجال قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)[الحديد: 22] أي: قبل خلق الأرض فهي مكتوبة ومقدرة، وقال تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[الذاريات: 22].
ثانيا: تقدير رزقك في بطن أمِّك، حينما يكون الإنسان في بطن أمِّه، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ..."(رواه مسلم)، ومحل الشاهد: أنه يؤمر المَلك بكَتْب رزقك وأنت جنينٌ في بطن أمِّك فلا تَقلق.
ثالثا: الله هو الباسط القابض، ومن معَانيه: أنه يبسُط الرزق لمن يشاء ويوسِّع عليه، ويضيِّق على من يشاء، وهذه قسمة الله لا يُسأل عما يفعل سبحانه، فالفقر ودرجاته قسمة الله، والغنى ودرجاته قسمة الله، فلا حول لي ولا حول لك، وإنما الحول لله، وهذا كله داخل في الابتلاء، قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[المائدة: 48]، وقال: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك: 2]؛ فالفقير ابتلاه الله بالفقر لينظر أيصبر أم لا، هل يرضى أم لا؟ وابتلى الغَنيَّ بالمال لينظر هل يشكر أم لا؟ هل يؤدي حقَّ الله في ماله أم لا؟ هل يُراعي حق الفقراء والمساكين أم لا؟
إذن، هناك ابتلاء.
رابعا: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقَها، فأبرِد على نفسك، واطلب المال من حلِّه، قال صلى الله عليه وسلم: "أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ، فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها وإن أبطأَ عنْها فاتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ، خذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُمَ"(صحيح ابن ماجه).
إذن، الرزق محسوم، وقد يسأل سَائل: ما الجدوى من هذه المفاتيح؟ نعم الرزق محتوم ولكن لن تصل إليه إلا بأسبابه ومفاتيحه، فما بعض مفاتيح الرزق؟
المفتاح الأول: التوبة والاستغفار: لماذا التوبة والاستغفار؟ لأن العبد قد يُحرم الرِّزق بالذنب يُصيبه، ماذا قال نوح -عليه السلام- لقومه؟ قال لهم: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، فما فوائد هذا الاستغفار؟ (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 11-12]؛ فالمطرُ رزق، ويأتي بالأرزاق، والمال رزق، والبنين رزق، فعلينا أن نكثر من الاستغفار معاشر الإخوة الأفاضل.
قصة: ذكر الإمام القرطبي عن ابن صَبيح قال: "شَكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبةَ فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بُستانه، فقال له: استغفر الله، فقال له الربيع بن صَبيح أتاك رجال يشكون أنواعًا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من عندي شيئًا، إن الله -عز وجل- يقول في سورة نوح: (قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12]، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "مَن لزمَ الاستغفارَ جعلَ اللَّهُ لَهُ من كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومن كلِّ همٍّ فرجًا، ورزقَهُ مِن حيثُ لا يحتسِبُ"(ضعيف أبي داود).
فرزقُك يأتيك من حيث لا تحتسب شريطة الاستغفار، فأسأل نفسي، واسأل نفسك: كم مرة نستغفر الله في اليوم؟ وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة"(رواه مسلم).
وعن ابن عمر أنه كان قاعدًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم اغفر لي وتبْ عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم"، حتى عدَّ العادُّ بيده مائة مرة"(رواه أحمد، وصححه شعيب الأرناؤوط)، هذا وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
المفتاح الثاني: تقوى الله، والتقوى أن يُطاع الله فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، وقال طَلق بن حَبيب: "التقوى أن تطيع الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معاصي الله على نور من الله تخشى عقاب الله"، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96]، وقال: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197]، ومن اتقى الله رأى العجب.
والسؤال: لماذا تزيد التقوى في الرزق؟
لأن المتقي يتجنَّب الإسراف والتبذير، فيربَح ما يبذِّره غيره في الحرام بسبب تقواه التي منعته أن يكون أخًا للشيطان، ولا يُسرف حتى في الحلال؛ لأن الله لا يحب المسرفين، فلا يشتري ما لا يحتاجه، ويوفر مالًا للنفقة على أهله أو للصدقة وفعل الخير، وهذا طريق لحفظ المال، يخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رجل فقال: "بَيْنا رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ"(رواه مسلم) بهذه التقوى استحق الرزق.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى.
ثم أما بعد: فرأينا في الخطبة الأولى مفتاحين من مفاتيح الرزق: الأول: التوبة والاستغفار، والثاني: تقوى الله، ومن مفاتيح الرزق: المفتاح الثالث: التوكل على الله: هل نحن متوكلون حقيقة؟ انظروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد دخل ذات يوم على عائشة رضي الله عنها فقال: "يا عَائِشَةُ هلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ؟" قالَتْ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ ما عِنْدَنَا شيءٌ، قالَ: "فإنِّي صَائِمٌ"(رواه مسلم).
ليس لأن الفطور لم يُعَد، ولكن الفطور غير موجود أصلًا، فافترض لو نحن في مكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف نتصرف؟ لكي تعرفوا التوكل الحقيقي، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 3]، فالتوكل الحقيقي لا بد له من أسباب، ولذلك قال الله لمريم -عليها السلام-: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ * تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)[مريم: 25]، يعلِّمنا الله الأسباب، ويعلِّمنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لو أنَّكم كنتُم توَكلونَ علَى اللهِ حقَّ توَكلِه، لرُزِقتُم كما يرزقُ الطَّيرُ تغدو خماصًا وتروحُ بطانًا"(صحيح الترمذي)، وقال: "بورِكَ لأمَّتي في بُكورِها"(السلسلة الصحيحة).
وهذه قصة بديعة، يُروى أن شقيق البلخي عزم على السفر في تجارة، فودَّع شيخه إبراهيم بن أدهم ثم سافر، وفيما كان في طريقه في الصحراء رأى طائرًا أعمى، وجناحه مكسور، فوقف شقيق يتأمل الطائر، ويتساءل: كيف يجد هذا الطائر رزقه في هذا المكان المنقطع؟ لم يمضِ وقت طويل حتى جاء طائر آخر فأطعم الطائرَ كسير الجناح وسقاه، تعجَّب شقيق من هذا المشهد، وأثَّر فيه، فقال في نفسه: إذا كان الله -تعالى- يرزق هذا الطائر الكسير الجناح ولم يُهمله، فلماذا أذهبُ إلى التجارة؟ ولماذا العناء والسفر وأنا في هذا السن؟ سأرجع بيتي، وسيرزُقني الله وأنا في البيت.
عاد شقيق إلى بيته، ولما زاره شيخه إبراهيم، قال له الشيخ: لماذا عدتَ يا شقيق؟ ألم تذهب للتجارة؟
فقص عليه القصة، عندها قال له إبراهيم بن أدهم: سبحان الله يا شقيق لماذا رضيتَ لنفسك أن تكون الطائرَ الأعمى العاجز الذي ينتظر عونَ غيره؟ لماذا لا تكون أنت الطائرَ الآخر الذي يسعى ويكدَح، ويعود بثمار ذلك العمل على مَن حوله؟ واليد العليا خير من اليد السفلى.
فاللهم ارزُقنا من فضلك، واجعلنا من المتوكلين عليك حق التوكل.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم