عناصر الخطبة
1/ فضائل معاذ بن جبل رضي الله عنه 2/ إسلام معاذ ومبايعته 3/ محبة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ ووصيته له 4/ تكليف معاذ بمهام جليلة 5/ إمام العلماء يوم القيامة 6/ جهاد معاذ ومرضه ووفاته.اقتباس
اختُصر له الزمن، فنال من فضائل القوم في الزمن اليسير الشيء الكثير، فالفضائل لا تُقاس بالأزمان، وإنما تُقاس الأزمان بالفضائل، وعمرك الحقيقي ما أمضيته في رفعة نفسك، والبذل لدينك، وإعزاز أمتك،.. لما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأقام دعوته في مكة سرًّا، وبلغت دعوته المدينة عن طريق العائدين من الحج، فالتقى معاذ بمصعب بن عمير أحد العائدين من مكة، فأسلم. ثم ها هو يكون ضمن الوفود التي شرُفت بفضيلة السبق، ووضعت يدها في يد النبي -صلى الله عليه وسلم- الطاهرة مبايعةً على السمع والطاعة، والنصرة والحمية هي يد معاذ بن جبل الفتى اليثربي،...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
فـ"إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين"، قالوا: أخطأت يا أبا عبدالرحمن! إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقال أبو عبد الرحمن: "إنا كنا نشبِّه معاذًا بإبراهيم -عليه السلام-".
وأبو عبد الرحمن هذا هو عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- الصحابي الفقيه، ثم قال: "هل تعلمون من هو الأمة والقانت؟! فقالوا: الله أعلم. فقال: الأمة الذي يعلِّم الناس الخير، والقانت المطيع لله والرسول، وكان معاذ يعلِّم الناسَ الخيرَ، ويطيع الله ورسوله".
هذه شهادة عبد الله بن مسعود أبي عبد الرحمن لصاحبنا معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، فأكرم بها من شهادة! وأي فخر يقارب أن يشبَّه الرجل بنبي من أنبياء الله، بل أن يشبه بأبي الأنبياء؟!
معاذ بن جبل يشبه خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-.
من صغار الصحابة سنًّا، وأسرعهم وفاةً، توفي وعمره ثمان وثلاثون -رضي الله عنه-.
فاختُصر له الزمن، فنال من فضائل القوم في الزمن اليسير الشيء الكثير، فالفضائل لا تُقاس بالأزمان، وإنما تُقاس الأزمان بالفضائل، وعمرك الحقيقي ما أمضيته في رفعة نفسك، والبذل لدينك، وإعزاز أمتك، وكلٌّ بحسبه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
أيها الإخوة: لما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأقام دعوته في مكة سرًّا، وبلغت دعوته المدينة عن طريق العائدين من الحج، فالتقى معاذ بمصعب بن عمير أحد العائدين من مكة، فأسلم.
ثم ها هو يكون ضمن الوفود التي شرُفت بفضيلة السبق، ووضعت يدها في يد النبي -صلى الله عليه وسلم- الطاهرة مبايعةً على السمع والطاعة، والنصرة والحمية هي يد معاذ بن جبل الفتى اليثربي، فلقد اختاره الله ليكون أحد الرهط الاثنينِ والسبعين الذين قصدوا مكةَ، وسعدوا بلقاءِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وَشرفوا ببيعتهِ، لِيخطوا أسماءهم في سجل السابقين للخير، ليدخلوا حياتهم الجديدة، ويولدوا الولادة الحقيقية من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، يرجون ما عند الله، وليكونوا من أهل الجنان!
وميَّز الله صاحبنا بجمال خِلقة وحُسن خُلق، فهو ذو الهمة العالية، والبسمة الصادقة، فاق أقرانه بحِدَّة ذكاءِ، وقوةِ بديهة.
مع بهاء الطلعة وجمالُ الملامحِ، أكحلَ العينِ جعدَ الشعرِ برَّاقَ الثنايا، يحبه قلبك من أول لقاء وإن لم تعرفه !
عن أبي إدريس الخولاني قال: "دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى برَّاق الثنايا، وإذا أناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقالوا: هذا معاذ بن جبل. فلما كان من الغد هجَّرت -يعني بكّرت- إلى المسجد، فوجدته قد سبقني بالتهجير، فوجدته يصلي. قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، وقلت له: والله إني لأحبك لله. قال: فقال: آلله؟! قلت: آلله. قال: آلله؟! قلت: آلله. قال: فأخذ بحبوة ردائي، فجذبني إليه وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تبارك وتعالى-: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ، والمتزاورين فيّ".
تمت البيعة وعاد الفتى من مكة إلى المدينةِ، وفي قلبه ذكرى اللقاء الصادق، وفي مخيلته صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولحظات البيعة، وفي نفسه آمال مرتقبة، وحلم يسأل الله أن يعجله.
ومن أفضل العبادات انتظار الفرج.
بقي عليك أن تقول: كم كان عمره وقت البيعة ومقابلة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
فأقول: سبع عشرة سنة.
ولكنه يعدل ابن سبع وعشرين، أو ابن سبع وثلاثين بل وأكثر من أبناء زماننا إلا من وفقه الله.
فابن سبع عشرة في زماننا لم يزل متمسكاً ببقايا صباه، ولم يقضِ نهمته من ألعابه، فهو لا يزال يستمتع بحياة العبث، وتصرفات السفهاء، مشغول بهندامه، متفنن في مطعمه! حتى مواطن الجد والدراسة والعطاء تحولت إلى ميدان رحب لعدم المبالاة، والفوضوية!
حتى غلف هذا كله وسوقه العبارة المستوردة التي خدع بها أولئك النشء، وانخدع بها الآباء فقبلوها على مضض! "دعه فإنه مراهق"!
نعم "دعه فإنه مراهق"، إذا كان لا يحمل رسالة ربه، ويعيش لملاذه ويستكثر من شهواته؛ فدعه فإنه مراهق !
هذه أفكار التربية المادية والمجتمعات التي لا ترجو حياة أخروية فاعتذرت لطيش شبابهم بهذه الحجة الواهية.
أما مراهقو من رُبُّوا تربية مرتبطة بالله، وترجو الدار الآخرة، وعرفت مهمتها في هذه الدنيا، وسر وجودها في هذا الكون؛ فهم القادة في الحروب، والفرسان عند الخطوب، وسل أسامة بن زيد كم عمره وهو أمير على جيش فيه شيوخ الصحابة منهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنه-؟!
وسل ابن عباس وهو يدخل مع شيوخ بدر لمجلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كم كان عمره حينما كان يصفه عمر بفتى الكهول؟!
وغيرهم كثير! ولم يتغير الزمن وإنما نحن الذين تغيرنا على الزمن!
وأنت أيها الشاب لا تقبل أن تظلم فتبرر أخطاءك، أو يعتذر لتقصيره فتنساق إلى جهالة من القول أو الفعل، فكل هذا على حساب بنائك، ولن يعذر من اعتذر لك حينما يفوتك ركب المعالي، ولا تجد نفسك في قوافل الناجحين.
وأما صاحبنا معاذ بن جبل مثالنا الحي؛ فإليك من أخباره.
قدِم الرسولُ الكريم المدينةِ مهاجراً، فلزِمَه الفتى معاذ بن جبلٍ مُلازمة الظلِّ لصاحبه، ومن توفيق الله لمعاذ أن هيَّأ الله له صاحباً مهاجراً يعينه على نفسه؛ إنه عبد الله بن مسعود آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما فكان نعم المعين والمعان!
ولا تردد في أثر الصديق على صديقه!
قرأ معاذ القرآنَ، وتلقى شرائِع الإيمان، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله، وأعلمِهم بشرعِه، وإنما العلم بالتعلم، والحياة كفاح وجهاد، والمجاهد موعود بالتسديد والهداية (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
أدرك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حرص معاذ على تطوير نفسه، وترقيتها في العلم والإيمان؛ حتى خصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- ببعض حديثه قال معاذ -رضي الله عنه-: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: "يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟!"، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا". قلت: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس؟! قال: "لا تبشرهم فيتكلوا".
لقد بلغ معاذ -رضي الله عنه- حظوة عالية عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أحبه، نعم النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب معاذاً ويعلن حبّه له قال معاذ -رضي الله عنه-: أخذ رسول الله –-صلى الله عليه وسلم- يومًا بيدي ثم قال: "يا معاذ: والله إني أحبك"، فقلت له: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله-، وأنا –والله- أحبك. فقال: "أوصيك -يا معاذ-: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
ولا يزال معاذ في الخير يشق طريقه حتى كان أهلاً لشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالفقه في الدين؛ "معاذ بن جبل أعلم أمتي بالحلال والحرام"، إذن هو أهل للفتوى، والناس إنما يسألون عن الحلال والحرام!
والشهادة النبوية الثانية بالقرآن، و"خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
فهاهو القارئ المجود الذين يُؤخذ عنهم القرآن؛ يقول -صلى الله عليه وسلم- "خذوا القرآن عن أربعة: ابن أم عبد -يعني عبد لله بن مسعود- ومعاذ بن جبل، وأُبَي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة".
ولا يزال مرتفعًا بالقرآن فهو إمام قومه في صلاتهم في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد الذين أشرفوا على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
فهذه شهاداته العلمية، وأهليته الشرعية وهي عصمة من النزوات، ودافعة للشبهات، ونور للمؤمن في هذا الحياة، فيا شباب المسلمين العلم العلمَ، والقرآن القرآنَ؛ فلا يشغلنكم عنه شغل، ولا تضيعوا أوقاتكم في وسائل التقنية، وتسلموا لها قيادكم، ووظِّفوها لما فيه تحصيلكم وزيادة مدارككم.
بعد تلك الأهلية العلمية، والشهادات النبوية يأتي التكليف الوظيفي لمن هو أهل لها، لا محاباة ولا مجاملة فهو مبعوث ورسولُ رسولِ الله إلى بلد الحكمة والإيمان إلى بلد اليمن قاضيًا ومعلمًا ومفتيًا وداعيًا إلى الله -عز وجل-، فها هو التكليف النبوي، مع التوجيه الأبوي: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم".
ثم حذره بعد ذلك: "فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم"، ثم حذره وبين له -صلى الله عليه وسلم- ما ينبغي أن يتقيه الحاكم والقاضي، فقال له: "واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
فانطلق -رضي الله عنه- بإخلاص وجِدّ ففتح له القلوب، فأحبه أهل اليمن حبًّا شديدًا، لا يقدمون عليه أحدًا فهو قدوتهم وإمامهم، فدخل أهل اليمن في دين الله أفواجًا، وعظم ترحيبهم بهذا الدين العظيم.
الخطبة الثانية:
فلم يزل معاذ -رضي الله عنه- في اليمن وبينهم فلم يقدم إلا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليبدأ حياة أخرى بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- متوجهًا إلى بلاد الشام؛ حيث الصراع مع الروم والفرس، فذهب مجاهدًا مع أبي عبيدة وإخوانه المجاهدين، ثم أصبح واليًا على الشام بعد موت أبي عبيدة -رضي الله عنه- فأحبه الناس ووجد قبولاً نظير القبول في اليمن.
ولم يزل حتى حانت ساعات الرحيل، وقربت الأيام الأخيرة في حياة معاذ بن جبل -رضي الله عنه- وهو كثير العبادة، سباقًا إلى الطاعة؛ زاهدًا في الدنيا، قوي الصلة بربه، حسن النية، معظمًا رجاءه بالله.
ولما حلَّ به الطاعون الذي حلَّ ببلاد الشام في السنة الثمانية عشرة من الهجرة كان من دعائه: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب في مجالس الذكر".
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "معاذ يُحشَر يوم القيامة أمام العلماء بربوة". وقال في رواية: "إنه يتقدم العلماء برتوة"، أي: برمية سهم، وقيل: بميل، وقيل: بمد البصر.
ومن وصيته لابنه: "يا بني! إذا صليت صلاة فصلِّ صلاة مودع، لا تظنّ أنك تعود إليها أبدًا".
ولم يزل -رضي الله عنه- يعاني من شدة البلاء متوجهًا للقبلة داعيا بقوله: "اللهمَّ تقبل نفسِي بخير ما تتقبلُ به نفساً مؤمنة".
ثم فاضت روحُه الطاهرة بعيداً عن أهله وعشيرتهِ داعياً إلى الله، مهاجراً في سبيله -رضي الله عنه-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم