عناصر الخطبة
1/أهمية مواعظ القرآن للقلب 2/مشاهد من مخاصمات أهل النار 3/حال الأصدقاء والأصحاب يوم القيامة 4/يحشر المرء مع من أحب.اقتباس
في يوم القيامة عندما يعاين الناس العذاب, ويؤتى بجهنم أمام الناس تقودها الملائكة, عندها يتبرأ الرؤساء والزعماء من تابعيهم وتتقطع بهم كل الأسباب التي كانوا يرجون الانتفاع بها, فيرد الأتباع قائلين: "لو كان لنا رجعة إلى الدنيا؛ فنتبرأ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين, وخالق الخلق أجمعين، نحمده على آلائه، ونشكره على فضله وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ونشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: اتقوا الله ربكم, واخشوا ما أعده للعصاة في نار جهنم؛ فإن عذاب الله شديد, إن موقف القيامة لا تنفع فيه المعاذير, يومٌ لا ينفع الإنسان فيه إلا عمله الصالح, يومٌ يتبرأ فيه كل خليل من خليله إلا المتقين, يومٌ ينقلب خليل الدنيا الذي يعينك على الشر ينقلب إلى عدو, فاتقوا الله -عباد الله- وأحسنوا الاستعداد ليوم الرحيل, فكأنه قد نودي بنا وأجبنا المنادي.
أيها المؤمنون: ما أجمل تدبرَ القرآن والعيشَ مع آياته! إن أردت الموعظة فلا أجمل من مواعظ القرآن, وإن شئت أن تقرأ قصة فلا أحسن من قصص القرآن! وإن أردت الحديث عن الآداب والأخلاق؛ فلن تجد أفضل من القرآن! وسنقف اليوم مع شيء من مواعظ القرآن, إنها مواقف ومشاهد من مخاصمات أهل النار, عندما يجتمع أهل النار فيها -أعاذنا الله وإياكم منها-, يتعارفون ثم يتخاصمون, ويلوم بعضهم بعضا, ويدعو بعضهم على بعض.
لقد ذكر الله -تعالى- مواقف تجلت فيها مخاصمات أهل النار بعضهم مع بعض, في أكثر من موضع في القرآن؛ فقال في سورة البقرة: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[البقرة: 166، 167].
في يوم القيامة عندما يعاين الناس العذاب, ويؤتى بجهنم أمام الناس تقودها الملائكة, عندها يتبرأ الرؤساء والزعماء من تابعيهم وتتقطع بهم كل الأسباب التي كانوا يرجون الانتفاع بها, فيرد الأتباع قائلين: "لو كان لنا رجعة إلى الدنيا؛ فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا", وهذا التمني لن ينفعهم, فانظروا كيف تبرأ الرؤساء من أتباعهم الذين كانوا معهم في الدنيا سامعين مطيعين منفذين, ويوم القيامة تزول جميع الأسباب التي يتعلق بها الناس من مال وقرابة ومودة وحسب ونسب, ولن ينفع المرء إلا رحمة الله -تعالى- ثم عمله الصالح.
وفي موقف آخر في سورة الأعراف يقول -سبحانه-: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)[الأعراف: 38، 39]؛ يقول الأتباع: "ربنا هؤلاء سادتنا الذين أضلونا؛ فآتهم عذاباً مضاعفاً من النار", فيجيبهم الله -تعالى-: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)؛ أي: لكل منكم عذاب مضاعف, ثم يجيبهم سادتهم متبرئين منهم: "ليس لكم علينا من فضل, فكلنا في الضلال سواء"؛ كما قال -تعالى-: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)[العنكبوت: 25], هذه حال الناس يوم القيامة إلا المتقين, جعلنا الله وإياكم منهم.
وفي سورة الأحزاب يبين كيف يدعو الأتباع على من كانوا يتبعونهم في الدنيا؛ (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 67، 68]؛ يوم تُقلّب وجوه الكافرين في النار فيندمون ويتحسرون قائلين: "ربنا آت كبراءنا ضعفين من العذاب واطردهم من رحمتك طرداً شديداً".
وفي سورة سبأ يقول -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[سبأ: 31 - 33]؛ هنا يعرض الله -تعالى- موقفاً من مواقف الخصام بين المستكبرين والمستضعفين, فيقول الضعفاء: "أنتم الذين صددتمونا عن الإيمان بالله -تعالى-", فيقول الذين استكبروا: "إنا لم نصدكم عن الهدى, بل أنتم اخترتم الكفر برغبتكم", فيقول الضعفاء: "أنتم تسببتم في كفرنا وضلالنا بما تمكرون به؛ حيث تدبرونه في الليل والنهار في إغوائنا وإضلالنا".
وفي سورة غافر مشهد من اختصام أهل النار؛ (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)[غافر: 47 - 48]؛ يقول الضعفاء: "إنا كنا تابعين لكم؛ فهل تتحملون عنا شيئاً من النار", فيرد المستكبرون: "إنا لا نستطيع ذلك؛ فالجميع في النار بحكم الله -تعالى-".
اللهم إنا نعوذ بك من النار, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله, والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن تبعه, أما بعد:
فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولا عن تخاصم أهل النار, والعياذ بالله!, وإنا لنعرض لذلك ليتبين للمسلم أنه ليس كل صاحب ينفع في الآخرة, بل بعضهم يكون عدوا لك, يجادل ليدخلك النار, ويدعو عليك بالويل والثبور.
ونتابع بعض المشاهد القرآنية التي حكاها الله -تعالى- لنا؛ ليتبين حال تخاصم أهل النار, ففي مشهد آخر خصام من نوع آخر, قال -عز وجل- في سورة الصافات: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[الصافات: 51 - 57].
هذا القائل من أهل الجنة يخبر عن صاحب له في الدنيا كان يكفر بالبعث, وكان يشككه في الدار الآخرة ويقول: "كيف تصدق بالبعث؟! وكيف تُبعث وقد صرت تراباً وعظاماً؟!" فيقول المؤمن لأصحابه الذين معه في الجنة: "هل تريدون أن تطلعوا عليه", فاطلع فرأى صاحبه في وسط النار, فقال له: "لقد قاربت أن تهلكني بصدك إياي عن الإيمان لو أني أطعتك, ولولا أن الله هداني وحفظني لكنت من المعذبين".
واطلاع المؤمن على صاحبه ليتبين له فضل الله -تعالى- عليه بالإيمان, وفي هذا درس عظيم جداً؛ أنه قد يكون أقرب الناس لك وأعزهم لك صحبه هو أعدى عدو لك في الآخرة, قال -عز وجل-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].
وإن الناس يوم القيامة يحشرون على ما كانوا يجتمعون عليه في الدنيا, ويقلد بعضهم بعضا؛ كما قال -سبحانه-: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)[الصافات: 22، 23]؛ فالأزواج هنا المقصود به الأشكال؛ عبدة النار سواء, وعبدة الأصنام سواء, وعبدة الكواكب سواء, ومدمنو الخمر سواء, والزناة سواء, والمغنون سواء, وهكذا..., حتى ولو لم يعمل بعملهم, ولكنه يحبهم؛ فإنه يحشر معهم.
فالمرء يحشر مع من أحب, أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الساعة، فقال: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟", قَالَ: لَا شَيْء إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت", قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ أعْمَالَهَم.
فاختر -أيها الإنسان- من الأصحاب من يوصلك إلى الجنة واحذر من صاحب يدعوك إلى النار!.
وفي سورة ص تخاصم بين أهل النار؛ (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ)[ص: 59 - 61], حين يرد الطاغون على النار؛ فيتبرأ بعضهم من بعض فيقولون: "هذه طائفة داخلة النار معكم", فيجيبونهم: "لا مرحباً بهم؛ إنهم مقاسو حرها كما قاسيناها", قال الأتباع للمتبوعين: "بل أنتم لا مرحباً بكم؛ فأنتم من تسببتم لنا بهذا العذاب الأليم بإضلالكم لنا, فبئس الدار التي نحن فيها", ثم قالوا : "ربنا من أضلنا في الدنيا عن الهدى فضاعف عذابه في النار", (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)[ص: 64].
اللهم ارزقنا الصحبة الصالحة التي تعيننا على طاعتك يارب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم