عناصر الخطبة
1/ وجوب محاسبة النفس 2/ ثمرات محاسبة النفس 3/كيفَ أحاسبُ نفسي؟ 4/ مجالات محاسبة النفساقتباس
إنَّ أحوالَ المسلمين توجب التفكُّرَ والتدبُّر والمراجعة والإصلاح، فقد اجتمع عليهم أعداءُ الإسلام، وتفرّقت كلمة المسلمين، وتشتّت آراؤهم، وانتشرت بينهم البدع، وصار بعضُهم يكيد لبعض، وصار بأسُهم بينهم، وكلُّ مسلم يعلم أنَّ سببَ ذلك كلِّه هو تفريطهم في دينهم، فإذا أصلَح المسلمون ما بينهم وبين ربهم أصلح اللهُ ما بينهم وبين الناس وأصلح ذاتَ بينهم، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ).
الخطبة الأولى:
الحمد لله (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقبل التوبة ممن تاب إليه وأناب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فيا عباد الله، يَجِبُ على الإنسان المسلم، أن يَعلمَ أنه لا نَجَاةَ لَهُ إلا بِتقوى اللهِ، ثم يُفَكِّرُ لأي شيءٍ خَلَقهُ ُاللهُ، ولِمَا خَرَجَ فِي هَذِهِ الدَّارِ الفانية، فَيَعْلَمَ أنه لم يُخْلَقْ عَبْثًا، كما قَالَ الله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون: 115]، وقَالَ سُبحانه: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]، وإنِّما وُضِعَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِلْبَلْوَى وَالاخْتِبَارِ هَلْ يَطِيعُ رَبَّهُ فَيَنْتَقِلْ إلى دَارِ نَعِيمٍ أَبْدِي سَرمَدِي، أَوْ يَعصِي رَبَّهُ فَينتقل إلى عذابِ الأبدِ إلى جَهَنَّمَ وَبئسَ الْمِهَاد.
عباد الله: على العبدِ المسلم أن يَتَأَمَّل مَا أَمَامَهُ من الشَّدَائِدِ والعَقَبَاتِ وَالأَهْوَال التي أَوْضَحَها اللهُ في كِتابِهِ، وَبَيَّنَهَا رَسُوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وسلَّم-، قَالَ تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281]، وَقَوْلُهُ سُبحانه: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) [الكهف: 49].
وقَالَ سُبحانه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6]، وقَالَ سُبحانه (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: 6- 8]، وقَالَ سُبحانه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران: 30]، وقَالَ سُبحانه: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235].
أيها المؤمنون: وقَالَ رَسُولِ اللهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني». دَانَ نَفْسَهُ: أي حَاسَبَها.
عباد الله: وذكر الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وزنُوهَا قبل أنْ تُوزَنوا، فَإِنَّه أَهونُ عَليكُم في الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ اليوم، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ يومئذٍ تُعرضونَ لا تَخْفَى مِنْكَمْ خَافِية عَلى اللهِ".
وَذَكَر أَيْضًا عَن الْحَسَن قال: "لا تَلْقَى الْمُؤمِنَ إلا يُحَاسبُ نَفْسه؛ ماذا أَردْتُ بكَلْمتي؟ ماذا أردُت بِشَرْبَتِي؟ والفَاجرُ يَمْضِي قُدُمًا لا يُحاسبُ نَفسُه".
وَلِهَذَا قِيلَ: النَّفْسُ كالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ إِنْ لَمْ تُحَاسبُه ذَهَبَ بِمَالِكَ.
اعْلم أَيَّها المُسلم أن النفسَ الأمارةَ بالسُّوء عَدُوّةٌ لَكَ مَعَ إِبْلِيسَ لَعَنهُ الله. فلا تَغُرَنَّكَ نَفْسُكَ يا عبد الله بالأَمَانِي، وَإِنْ غَفَلْتَ عَنْ مُحَاسَبَتِها غَرَقْتَ بالذنوب، وإنْ عَجَزْتَ عن مُخَالَفَتِهَا واتَّبعتَ هَواهَا قَادَتْكَ إلى النَّارِ.
أيها المسلمون: وَفِي مُحَاسَبةِ النفسِ الاِطلاعُ عَلى عُيوبها. ومحاسبة النفس تَحُث الإِنْسَانَ عَلى الأَعْمالَ الصَّالِحةِ. ومحاسبة النفس تُخلِّصُ النَّفْسَ مِن العُجْب بالعَملِ، ومحاسبة النفس تَفْتحُ للإِنْسَانِ بَابَ الذُّلِ والانْكِسَارِ والْخُضُوعِ للهِ، ومحاسبة النفس تَدْعُو الإنسانَ إلى أَنْ يَنْظُرَ فِي حَقَّ الله عليه. وفي محاسبة النفس يَعرفُ العبد أنَّ النَّجاةَ لا تَحْصُلُ إلا بِعَفوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ.
عباد الله: وَيَنْبَغِي للإنسان أنَّه إذَا حَاسَبَ نَفْسه فَرَآهَا قَدْ ارتكبت مَعْصيةً أَنْ يَتوبَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَيُتْبعُ السَّيئةَ بالْحَسَناتِ التِي تَمْحُوهَا، فقدْ وَرَدَ عَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «وأَتْبعْ السَّيئَةَ الْحَسَنةَ تَمْحُها».
عباد الله: تدبروا قول الله -عز وجل-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19].
قال بعض العلماء عن هَذِهِ الآية: إنَّ مَن غَفلَ عن تَذكُّر الله فَنَسِيَهُ وأَلْهتهُ دُنياهُ عن العملِ للدّارِ الآخرةِ أنساهُ الله نفَسَه التي بينَ جنبيهِ، فلا يَسعىَ لما فيه نَفُعها، ولا يأخُذُ في أسْبابِ سَعَادِتِهَا وإصْلاحِهَا، وهذا مِنْ أعظمِ العُقوبةِ لِلْعَامَةِ وَالخَاصَّةِ.
فكونوا -عباد الله- من الرَّابحين الذينَ أنارَ اللهُ قُلُوبَهُم للْحَقِّ فَعَرَفُوا الدُّنيَا وقِيْمتها، وأنها كما قال تعالى (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات: 46].
عباد الله، إنَّ أحوالَ المسلمين توجب التفكُّرَ والتدبُّر والمراجعة والإصلاح، فقد اجتمع عليهم أعداءُ الإسلام، وتفرّقت كلمة المسلمين، وتشتّت آراؤهم، وانتشرت بينهم البدع، وصار بعضُهم يكيد لبعض، وصار بأسُهم بينهم، وكلُّ مسلم يعلم أنَّ سببَ ذلك كلِّه هو تفريطهم في دينهم، فإذا أصلَح المسلمون ما بينهم وبين ربهم أصلح اللهُ ما بينهم وبين الناس وأصلح ذاتَ بينهم، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد: 11].
بارك الله لي ولكم......
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، أحمده –سبحانه- وفّق أولي الأبصار إلى محاسبة أنفسهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: وإن أوَّل خطوة لإصلاح حال المسلمين هي صَلاح الفرد والجماعة، بأن يحاسَب كلٌّ نفسَه على كلِّ شيء قبل أن يحاسبَه الله؛ أن يحاسب نفسه: ماذا قدَّم للإسلام مِنْ عملٍ صالح؟ هل هو معظِّمٌ لأمر الله بالامتثال والخضوع والانقياد والمحبة؟ هل هو معظِّم لنهي الله بالابتعاد عن محارم الله وبُغضها؟ هل هو معظِّم لشرعِ الله؟ قال الله تعالى: (ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ) [الحج: 30].
عباد الله/ سؤالٌ يترددُ في ذِهن الكثير منا كيفَ أحاسبُ نفسي؟!
وللإجابة على هذا التساؤل: ذكرَ ابنُ القيم أن محاسبةَ النفس تكون كالتالي:
أولاً: البدءُ بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصًا تداركهُ.
ومحاسبة النفس تكون بالنظر في المُحرمات، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية.
ومحاسبةُ النفس على الغفلةِ، وعلاج ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم.
ومحاسبةُ النفس على حركاتِ الجوارح، وكلامِ اللسان، ومشيِ الرجلين، وبطشِ اليدين، ونظرِ العينين، وسماعِ الأذنين، ماذا أردتُ بهذا؟ ولماذا فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟
فاتقوا الله عباد الله؛ فإن العبد مسئولٌ ومحاسَبٌ على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً) [الإسراء: 36].
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم