عناصر الخطبة
1/ وجوب محاسبة النفس ومعاتبتها 2/ مراتب جهاد النفس 3/ أمور معينة للعبد على إصلاح نفسه 4/ تأكُّد محاسبة النفس عندما تكثر الفتناقتباس
نصيحة مباركة ما أحوج نفوسنا إلى العناية بها وتطبيقها، ما أكثر ما يهمل الواحد منَّا نفسه، ويسترسل مع رغباتها وشهواتها، وطلبها لحظوظها ونزواتها، وقل من عباد الله من يقف مع نفسه محاسبًا معاتبًا، لائمًا لها على تقصيرها وتفريطها، فيبلغ بذلك درجة الأتقياء، ومنزلة الصادقين مع الله ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّ تقواه -جلَّ وعلا- أساس كل خير ورفعة وفلاح في الدنيا والآخر، والله -جل وعلا- يقول: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، عباد الله: هذه الآية العظيمة تعدُّ أصلاً في باب محاسبة النفس ومعاتبتها، بل تدل هذه الآية على وجوب محاسبة النفس ومعاتبتها، ولومها على تقصيرها، وتفريطها في جنب الله، وتذكيرها بيوم لقاء الله، والوقوف بين يديه سبحانه، وذلك واضح في قوله: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، والله -جل وعلا- قرب هذا اليوم، وأخبر عن دنو مجيئه، فوصفه بهذه الصفة فقال: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، فيوم غد قريب، ويوم القيامة آتٍ لا محالة، والعبد واقف بين يدي الله ولا بد، والله -جل وعلا- محاسبه وسائله عما قدم في هذه الحياة، فكان من الخير للإنسان أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، وأن يزنها قبل أن يوزن، وأن يهيئها للعرض على الله -جل وعلا-.
قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن تُوزَنوا، وتزينوا ليوم العرض على الله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
عباد الله: نصيحة مباركة ما أحوج نفوسنا إلى العناية بها وتطبيقها، ما أكثر ما يهمل الواحد منَّا نفسه، ويسترسل مع رغباتها وشهواتها، وطلبها لحظوظها ونزواتها، وقل من عباد الله من يقف مع نفسه محاسبًا معاتبًا، لائمًا لها على تقصيرها وتفريطها، فيبلغ بذلك درجة الأتقياء، ومنزلة الصادقين مع الله، كما قال ميمون بن مهران -رحمه الله تعالى-: "لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون محاسبًا لنفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه"؛ أي: إنه يلومها ويعاتبها وينظر في أعمالها؛ فإن كانت تقصيرًا تمم وكمل، وإن كان عصيانًا تاب واستغفر، وإن كان طاعة لله حمد الله وداوم على الطاعة، فمحاسبة النفس -عباد الله- تقود الإنسان إلى كل خير وفلاح ورفعة، وأما إهمالها والاسترسال مع شهواتها وعدم منعها من أهوائها فإنه يوقع العبد في الهلكة، والله -جل وعلا- يقول: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 39، 40].
نعم عباد الله: الجنة لا بدَّ لها من نهي للنفس عن هواها، ومنعها من نزواتها وأطماعها وشهواتها، وأخذها بزمام الحق والفضيلة، والطاعة والاتباع، ولزوم شرع الله تبارك وتعالى، ومجاهدتها على فعل الطاعة والبعد عن المعصية، كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "المجاهد من جاهد نفسه على طاعة الله"، وفي القرآن الكريم يقول الله -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
وجهاد النفس -عباد الله- أربع مراتب:
الأولى: جهادها على العلم النافع.
والثانية: جهادها على العمل به.
والثالثة: جهادها على الدعوة إليه.
والرابعة: جهادها على الصبر على الأذى فيه.
وقد جمع الله -جل وعلا- هذه المراتب الأربعة في قوله: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].
عباد الله: ويعين العبد على إصلاح نفسه أمور مهمَّة لابد منها:
الأول: أن يلجأ دومًا وأبدًا إلى الله -جل وعلا-، بأن يصلح نفسه، ويزكي قلبه؛ فالقلوب بيد الله -جل وعلا-، إن شاء أقامها سبحانه، وإن شاء أزاغها، وفي الدعاء المأثور عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها"، ولأدعية عنه في هذا المعنى كثيرة.
الأمر الثاني: أن يديم العبد مجاهدة نفسه، وإلزامها بطاعة الله، وكفها ومنعها من معصيته، عملاً بقوله -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
الأمر الثالث: أن يتذكر العبد وقوفه بين يدي الله، ومحاسبة الله له على ما قدم في هذه الحياة، وهذا مستفاد من قوله: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، فإذا نظر العبد إلى غده، ونظر إلى وقوفه بين يدي الله، لم تشغله الدنيا الفانية عن الآخرة الباقية.
الأمر الرابع: تخير الرفقاء والجلساء، فإن الصاحب ساحب ومؤثر في جليسه ولا بد، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل"، قال بعض السلف: ليس للمرء أن يجلس مع من شاء.
ويدخل في هذا الباب قراءة سير الصالحين من عباد الله، والكُمَّل من أولياء الله، ومجاهدة النفس على التأسي بهم، والتحلي بخصالهم وخلالهم.
وإنا لنسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يؤتي نفوسنا تقواها، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى.
وتتأكد محاسبة النفس ومعاتبتها عندما تكثر الفتن والصوارف والصوادّ عن طاعة الله -جل وعلا-، وما أكثرها في زماننا؛ ففي مثل هذه الفتن الكثيرة، والصوارف المتلاحقة يتأكد على العبد مجاهدته لنفسه ومعاتبتها، والكيس من عباد الله من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
واعلموا -رعاكم الله- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومؤيدًا وحافظًا ومعينًا، اللهم أيِّدهم بتأييدك، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم وفق ولي أمرنا لرضاك، واجعل عمله في طاعتك، ووفقه لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سرّه وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم إنا نتوجه إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، وبأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، يا من وسعت كل شيء رحمة وعلمًا، اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد وحدك لا شريك لك، المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيوم؛ أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم إنا خلق من خلقك، وعبيد من عبيدك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا، نافعًا غير ضار، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وديارنا بالمطر، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلا إليك، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم