عناصر الخطبة
1/المراد بالتربية العاطفية وأهميتها. 2/اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بعواطف الشباب. 3/الموازنة بين عقول الشباب وعواطفهم وثمارها. 4/عواقب إهمال التربية العاطفية على الشباب.اقتباس
هَلْ لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ حَالَ إِنْسَانٍ نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ فَهُوَ فَظٌّ غَلِيظٌ، وَنُزِعَ مِنْهُ الْحَيَاءُ فَهُوَ مُجَاهِرٌ بِالْفُحْشِ، وَنُزِعَ مِنْهُ الْأَدَبُ فَهُوَ بَذِيءٌ خَبِيثٌ.. إِنَّ هَذَا وَأَكْثَرُ مِنْهُ هُوَ حَالُ مَنْ أُهْمِلَتْ عَوَاطِفُهُ!...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنْ عَقْلٍ وَعَاطِفَةٍ، فَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَبِالْعَاطِفَةِ يَنْتَمِي لِدِينِهِ وَأُمَّتِهِ، وَيَبَرُّ وَالِدَيْهِ وَيَرْحَمُ الضَّعِيفَ وَالْمِسْكِينَ، وَالتَّرْبِيَةُ الْمُتَكَامِلَةُ هِيَ مَا اهْتَمَّتْ بِالشِّقَّيْنِ وَلَمْ تُهْمِلْ أَحَدَهُمَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ مُخَاطَبَةَ الْقَلْبِ هِيَ أَسْرَعُ الطُّرُقِ لِإِقْنَاعِ الشَّبَابِ، وَفِي الْقَلْبِ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ، وَالثَّوْرَةُ وَالْغَضَبُ، وَالْمَيْلُ وَالْهَوَى... وَهُنَا تَتَدَخَّلُ التَّرْبِيَةُ الْعَاطِفِيَّةُ لِتَنْمِيَةِ مَا سَمَا مِنَ الْعَوَاطِفِ، وَتَهْذِيبِ مَا شَرَدَ مِنْهَا.
لَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- شَابًّا فَتِيًّا قَوِيًّا، فَأَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: "يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ"، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَّضَ تِلْكَ الْعَاطِفَةَ الْجَامِحَةَ قَائِلًا: "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَهَذَا خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَمِيلُ لِلْجُلُوسِ مَعَ النِّسَاءِ، فَتَرَى كَيْفَ عَدَّلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَاطِفَتَهُ تِلْكَ؟ يَحْكِي خَوَّاتٌ فَيَقُولُ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرَّ الظَّهْرَانِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ خِبَائِي فَإِذَا أَنَا بِنِسْوَةٍ يَتَحَدَّثْنَ، فَأَعْجَبْنَنِي، فَرَجَعْتُ فَاسْتَخْرَجْتُ عَيْبَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا حُلَّةً فَلَبِسْتُهَا وَجِئْتُ فَجَلَسْتُ مَعَهُنَّ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قُبَّتِهِ فَقَالَ: "أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا يَجْلِسُكَ مَعَهُنَّ؟"، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هِبْتُهُ وَاخْتَلَطْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَمَلٌ لِي شَرَدَ، فَأَنَا أَبْتَغِي لَهُ قَيْدًا فَمَضَى وَاتَّبَعْتُهُ، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ وَدَخَلَ الْأَرَاكَ.. فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، فَأَقْبَلَ وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ: "أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ؟"، ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَجَعَلَ لَا يَلْحَقُنِي فِي الْمَسِيرِ إِلَّا قَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ؟"، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَعَجَّلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاجْتَنَبْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُجَالَسَةَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ تَحَيَّنْتُ سَاعَةَ خَلْوَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَتَيْتُ الْمَسْجِدَ فَقُمْتُ أُصَلِّي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَجْأَةً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَطَوَّلْتُ رَجَاءَ أَنْ يَذْهَبَ وَيَدَعَنِي، فَقَالَ: "طَوِّلْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا شِئْتَ أَنْ تُطَوِّلَ فَلَسْتُ قَائِمًا حَتَّى تَنْصَرِفَ"، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ لَأَعْتَذِرَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَأُبْرِئَنَّ صَدْرَهُ، فَلَمَّا قَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ؟" فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا شَرَدَ ذَلِكَ الْجَمَلُ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ: "رَحِمَكَ اللَّهُ" ثَلَاثًا، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ)، فَاسْتَخْدَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَاطِفَةَ الْحَيَاءِ عِنْدَ خَوَّاتٍ لِتَعْدِيلِ سُلُوكِهِ.
وَهَذَا شَابٌّ يَأْتِيهِ لِيَسْتَأْذِنَهُ فِي الزِّنَا، فَيَزْجُرُهُ النَّاسُ لِيُسْكِتُوهُ، أَمَّا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: "ادْنُهْ"، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا فَجَلَسَ، فَخَاطَبَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَوَاطِفَهُ قَائِلًا: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟" قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ"، قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟"... "أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟"... "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟"... "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟"... قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
فَمِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْوَقَائِعِ -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- تَبْرُزُ أَهَمِّيَّةُ التَّرْبِيَةِ الْعَاطِفِيَّةِ فِي تَعْدِيلِ سُلُوكِ الشَّبَابِ، فَعَلَى كُلِّ أَبٍ وَأُمٍّ وَمُرَبٍّ أَنْ يُخَاطِبُوا فِي أَوْلَادِهِمُ الْقَلْبَ وَالْوِجْدَانَ وَالْمَشَاعِرَ وَالْأَحَاسِيسَ، وَأَنْ يُشْبِعُوا فِيهِمُ الْحَاجَةَ إِلَى الْحُبِّ وَالتَّقْدِيرِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ كَانَتْ عِنَايَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَالِغَةً بِعَوَاطِفِ الشَّبَابِ وَمَشَاعِرِهِمْ، يَرْوِي الصَّحَابِيُّ الشَّابُّ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ"، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا -وَاللَّهِ- أُحِبُّكَ، قَالَ: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى).
وَيُخَاطِبُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِجْدَانَ أَبِي ذَرٍّ قَائِلًا لَهُ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي..."(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَكُلَّمَا أَرَادَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُعَلِّمَ صَحَابَتَهُ أَشْعَرَهُمْ بِتَمَامِ حِرْصِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ قَائِلًا: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، أُعَلِّمُكُمْ..."(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ).
وَيُرَاعِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَاسِيسَ صَفِيَّةَ وَمَشَاعِرَهَا لَمَّا قُتِلَ أَخُوهَا حَمْزَةُ؛ فَلَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَرَآهُ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ فِي نَفْسِهَا، لَتَرَكْتُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الْعَافِيَةُ، حَتَّى يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بُطُونِهَا"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
أَمَّا أَبُو عُمَيْرٍ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَفَقَّدُ مَشَاعِرَهُ وَيُطَيِّبُ خَاطِرَهُ وَيُوَاسِيهِ فِي مَوْتِ طَائِرِهِ الَّذِي أَحَبَّهُ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْتِي أَبَا طَلْحَةَ كَثِيرًا، فَجَاءَهُ يَوْمًا وَقَدْ مَاتَ نُغَيْرٌ لِابْنِهِ، فَوَجَدَهُ حَزِينًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟"(النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ).
وَمِنَ اهْتِمَامِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَوَاطِفِ الشَّبَابِ: مُدَاعَبَتُهُمْ وَمِزَاحُهُمْ، فَهَا هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لِأَنَسٍ: "يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَيَقُولُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "قُمْ أَبَا تُرَابٍ"، وَ"اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مُتَعَجِّبِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، فَأَجَابَهُمْ: "إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
أَيُّهَا الْآبَاءُ: إِنَّ التَّرْبِيَةَ السَّلِيمَةَ هِيَ مَا وَازَنَتْ بَيْنَ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، وَلَمْ تُهْمِلْ أَحَدَهُمَا، فَإِنَّهَا إِنْ أَهْمَلَتِ الْعَقْلَ خَرَجَ الشَّبَابُ حَالِمِينَ مُنْقَطِعِينَ عَنِ الْوَاقِعِ، وَإِنِ اهْتَمَّتْ بِالْعُقُولِ عَلَى حِسَابِ الْقُلُوبِ شَبُّوا قُسَاةً مُفْتَقِدِينَ لِلرَّحْمَةِ.
وَلَقَدْ غَلَبَتْ عَاطِفَتَا الْخَوْفِ وَالْخَجَلِ يَوْمًا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقَضَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْعَثُنِي وَأَنَا شَابٌّ إِلَى قَوْمٍ ذَوِي أَسْنَانٍ لِأَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ؟ فَوَضَعَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ، وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ".. ثُمَّ خَاطَبَ عَقْلَهُ قَائِلًا: "إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ"، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا أَشْكَلَ عَلَيَّ قَضَاءٌ بَعْدُ.(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى).
وَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ شَبَابٍ شَاهَتْ فِطْرَتُهُمْ وَشُوِّهَتْ شَخْصِيَّاتُهُمْ لَمَّا غُلِّبَ فِي تَرْبِيَتِهِمْ جَانِبٌ عَلَى جَانِبٍ، وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْأُمُورِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
يَا عَبْدَ اللَّهِ: هَلْ لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ حَالَ إِنْسَانٍ نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ فَهُوَ فَظٌّ غَلِيظٌ، وَنُزِعَ مِنْهُ الْحَيَاءُ فَهُوَ مُجَاهِرٌ بِالْفُحْشِ، وَنُزِعَ مِنْهُ الْأَدَبُ فَهُوَ بَذِيءٌ خَبِيثٌ.. إِنَّ هَذَا وَأَكْثَرُ مِنْهُ هُوَ حَالُ مَنْ أُهْمِلَتْ عَوَاطِفُهُ!.. فَهُوَ شَقِيٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ".
وَهَذَا نَمُوذَجٌ حَيٌّ لِقَبِيلَةٍ كَامِلَةٍ أَهْمَلَتْ عَوَاطِفَ أَبْنَائِهَا، تَرْوِي عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَتَقُولُ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا -وَاللَّهِ- مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَكَمْ مِنْ شَابٍّ غَرِيرٍ ابْتُلِيَ بِأَبٍ غَلِيظٍ أَهْمَلَ أَحَاسِيسَهُ وَمَشَاعِرَهُ حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى التَّمَرُّدِ وَالْعُقُوقٍ، أَوْ إِلَى التَّوَحُّدِ وَالْعُزْلَةِ، ثُمَّ الْجُنُونِ وَالِانْتِحَارِ!
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَإِنَّ مَنْ رُبِّيَ فِي غِيَابِ الْعَاطِفَةِ خَرَجَ قَاسِيَ الْفُؤَادِ، يُذَكِّرُنَا بِحَالِ مَنْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)[الْبَقَرَةِ: 74]، هَذَا إِلَى جَانِبِ إِصَابَتِهِ بِالِاكْتِئَابِ وَالِانْطِوَاءِ وَالْعُزْلَةِ وَالْعُدْوَانِيَّةِ وَالْجَفَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ.
فَارْحَمُوا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- شَبَابَكُمْ، وَارْعَوْا عَوَاطِفَهُمْ وَأَحَاسِيسَهُمْ، وَاهْتَمُّوا بِتَنْمِيَةِ مَشَاعِرِهِمْ، يُثْمِرُ ذَلِكَ رَحْمَةً وَشَفَقَةً تَنْغَرِسُ فِي أَرْوَاحِهِمْ، وَتَسُودُ مُجْتَمَعَاتُهُمْ، فَنَكُونُ كَمَا أَرَادَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَاللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا الرَّحْمَةَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَانْشُرْ بَيْنَنَا الْحُبَّ وَالْوِئَامَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم