عناصر الخطبة
1/ الثقة بالعقيدة 2/ خطورة الجهل المركب وذبحه للعقيدة 3/ خلل في مفهوم الوسطية 4/ تقديم النقل على العقل 5/ بيان الداخلية بشأن التظاهرات 6/ بيان هيئة كبار العلماءاقتباس
ذكرنا فيما مضى مما ينبغي تعزيزه والعناية به في هذه المرحلة من حياة الأمة ضرورة الوعي، وتحدثنا عن جوانب من الوعي، الوعي المطلوب منه: الوعي بطبيعة الصراع بين الحق والباطل، والوعي بنظرة الغرب إلينا -نحن المسلمين-، ويتبع ذلك مما ينبغي تعزيزه أيضًا الثقة بالنفس والعقيدة والمبدأ، مع الاستمرار في إصلاح النفس والمجتمع، ينبغي تعزيز ذلك كله في عقل وقلب كل مؤمن يقرأ القرآن ويتدبره ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ذكرنا فيما مضى مما ينبغي تعزيزه والعناية به في هذه المرحلة من حياة الأمة ضرورة الوعي، وتحدثنا عن جوانب من الوعي، الوعي المطلوب منه: الوعي بطبيعة الصراع بين الحق والباطل، والوعي بنظرة الغرب إلينا -نحن المسلمين-، ويتبع ذلك مما ينبغي تعزيزه أيضًا الثقة بالنفس والعقيدة والمبدأ، مع الاستمرار في إصلاح النفس والمجتمع، ينبغي تعزيز ذلك كله في عقل وقلب كل مؤمن يقرأ القرآن ويتدبره، ويطلع على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ويفهم مغزاه ويدرك سر الحياة وعلاقة الدنيا بالآخرة.
معاشر المسلمين: الثقة بالعقيدة والمبدأ والنفس، أما الثقة بالعقيدة فقد يقول قائل: وهل في نفوسنا من عقيدتنا شك؟! فأقول: حاشا لله، ولكن المقصود بالثقة أن يكون للعقيدة أثر حسي، فمثلاً: الولاء والبراء ركن عظيم وضخم من أركان عقيدتنا، هل له أثر في مشاعرنا ومواقفنا من المؤمنين بتوليهم ونصرتهم والنصح لهم والدعاء لهم، وفي الجانب الآخر هل للعقيدة أثر أو للولاء والبراء أثر في مواقفنا من أعداء الملة بالبراءة منهم مع العدل معهم والبر والإحسان للمسالمين منهم، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ...) [المائدة: 54]، ويقول -جلا وعلا-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71].
فمن كان واثقًا بعقيدته لم يهمل هذا الركن العظيم ولم يتجاهله، وبالتالي لن يتراخى في إظهار ولائه لله ودينه وإبداء رأيه بالتبرؤ من الشرك والمشركين والبدع وأهلها في أي محفل من المحافل، ومن كان واثقًا بعقيدتها لن يسكت عن التحذير من إفساد أصحاب المذاهب الضالة كالعلمانيين والليبراليين والإنكار عليهم، لن يسكت عن بالك بحجة ضرورات الحالة الحضارية المعاصرة التي تسمح بحرية التعبير، ولا بحجة الإيجابية والتركيز على الإيجابية وعلى والمكتسبات، ولا بحجة تعدد الآراء، من كان واثقًا بعقيدتها فلن يسكت عن التحذير منهم، دعك عن مداهناتهم والتودد إليهم بل والتحالف معهم أحيانًا، وقد حذّر سبحانه من الركون إلى أعدائه عمومًا في أكثر من آية فقال -جل جلاله-: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]، وقال أيضًا سبحانه: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 73 - 75].
بل لما أنزل الله تعالى قول إبراهيم -عليه السلام-: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء: 86]، كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين؛ لهذا صح في المسند وفي السنن من حديث علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟! فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟! فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهل سكت القرآن؟! هل سكت القرآن من باب البر والتسامح؟! أبدًا لأن الموضوع جد مهم وأساسي ولا يحتمل التنازل، لقد نزل القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم لما استغفر لأبيه فقال سبحانه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 113، 114].
لقد دعا إبراهيم لأبيه قبل أن يعلم عاقبته، فلما علم أنه سيموت على الكفر تبرأ منه، ولذلك زاد الله في تأكيد هذا البراء من المشركين لما استثنى مما ينبغي التأسي به من سنة إبراهيم الاستغفار للمشرك في قوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، أي لا تتأسوا به في هذا الاستغفار، (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة: 4].
إن الجهل المركب -أي الذي صاحبه جاهل ولا يدري أنه جاهل فهو جاهل بجهله-، هذا الجهل الخطير يجعل بعض المحسوبين على الدعوة يأتون بالعجائب، بل وينطقون بحماقات تذبح العقيدة ذبحًا وهم لا يشعرون، حتى إن الإنسان ليقول أحيانًا: كم نحن في زمن أحوج من قبله إلى درة الفاروق -رضي الله عنه- ترضخ رؤوس هؤلاء المضللين، والمصيبة أن الناس لا يفرقون بين أصحاب المنهج السليم من العلماء وطلاب العلم والدعاة الذين يعظمون الكتاب والسنة ويستندون في كلامهم ودعواتهم إلى أصول الشريعة، لا يفرقون بينهم وبين العقليين الذين يقدمون العقل على النقل، ويغلبون الفلسفة والمفاهيم الدولية -ولو عارضت أحكامًا شرعية واضحة-، ومع ذلك فإنهم لا يزالون في نظر الناس يتكلمون باسم الدين وهم في العقيدة -كما يقال-: أجهل من حمار أهلهم، أو أن اعتدادهم بعقولهم وآرائهم من التضخم بمكان بحيث لا يقبلون إلا ما وافق آراءهم، كمن ساوى بين الباطنية وأهل التوحيد، بل شجع الباطنية على شغبهم وتخريبهم وبغيهم، بل ودعا بالموافقة على تسلطهم على أهل السنة ونزول أهل السنة تحت رئاستهم وحكمهم، وأن ذلك حق من حقوقهم، ولا غرابة على هذا وأمثاله من أصحاب الفكر المنحرف، وهو نفسه الذي يخضع أحكام الشريعة الثابتة إلى التصويت من قبل عوام الناس.
فحجاب المرأة المسلمة خاضع للرأي والتصويت، تؤيد أو لا تؤيد، وحد الردة قابل للتصويت بل والرفض، تؤيد أو لا تؤيد، بل وصل به الضلال أن يقول: إن من حق اليهودي التسويق لدينه في ديار المسلمين، وإن هذا حق مكفول له إسلاميًّا من باب حرية التعبير، وإن الحجة تقارع بالحجة لا بالقمع، وإن هذا من الوسطية.
معاشر المسلمين: أية وسطية هذه التي يدعو إليها!! إن من المعلوم من الدين بالضرورة وصريح القرآن، أن الباطل لا يقر ولا يجلس مع صاحبه؛ فكيف يجوز لنا السماح له بتسويقه بين الناس، يقول سبحانه: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [ال،اعم: 68]، ويقول أيضًا -جلا وعلا-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء: 140]، وقد ضرب الفاروق صديق التميمي حتى آلمه لما رآه يروج الشبهات وينشرها ويسوقها بين الناس، فكيف بمن يسوق الكفر؟! ثم بعد هذا كله يقول: أنا لا أُفتي!! لقد اشتهر هذا بألبوماته التي تقص سير الصحابة والتاريخ الإسلامي، جمع فيها ما هب ودب دون تحقيق علمي، وخلق فيها من الروايات الصحيح بالمكذوب والموضوع، ولما نُصح من بعض العلماء لم يقبل فيها نصحًا من أحد، واستمر في إنتاجها، ولذلك لما سُئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عن أشرطة المذكور قال ما نصه: "هو كحاطب ليل، حاطب الليل -يا إخواني- إذا سمعتم به يأخذ الحطب من الأرض وقد يكون فيه حية وهو لا يدري، فحاطب الليل هو الذي لا يميز بين النافع والضار". هذا كلام الشيخ.
والناس تستهويهم القصص عمومًا، فلا يميزون بين صحيحها وضعيفها؛ ولذلك فإن سلسلته تلك هي إحدى أسباب اكتساب شعبيته، وسهل عليه بعد ذلك ترويج أباطيله، ولهذا -أيها الإخوة- يتأكد حديثنا اليوم في التحذير من مغبة استحكام العاطفة على العقل، بحيث يستصغر البعض تلك الشطحات العلمية والشرعية ويقول: يا أخي: هو داعية ومعرض للخطأ وعنده خير كثير!! لا -يا إخوة- الأمر دين، وإن الثقة بالعقيدة تستوجب موقفًا واضحًا وحازمًا من هذه الضلالات وغيرها، وما زالت بعض الفضائيات المروجة للإثارة تستضيف من يتجرأ على العقيدة وثوابت الشريعة بلا حياء ولا خجل، فمنهم من يتردد في كفر النصارى، ومنهم من يرضى بتحكيم القوانين الوضعية، ومنهم من يشكك في القرآن، ومنهم من يؤسس منهج الانبطاح الذي يتسامح مع الزندقة، فلنحذر من هذا التفريط، ولنجدد ثقتنا بعقيدتنا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد صدر بيان وزارة الداخلية بِشأن التظاهرات وجاء فيه: "بناءً على ما لوحظ من محاولة البعض للالتفاف على الأنظمة والتعليمات والإجراءات ذات العلاقة بها لتحقيق غايات غير مشروعة، وتأكيدًا لما سبق الإعلان عنه من قبل، أوضح المتحدث الأمني لوزارة الداخلية أن الأنظمة المعمول بها في المملكة تمنع منعًا باتًّا كافة أنواع التظاهرات والمسيرات والاعتصامات والدعوة لها؛ وذلك لتعارضها مع مبادئ الشريعة الإسلامية وقيم وأعراف المجتمع السعودي، ولما يترتب عليه من إخلال بالنظام العام وإضرار بالمصالح العامة والخاصة والتعدي على حقوق الآخرين، وما ينشأ عن ذلك من إشاعة الفوضى التي تؤدي إلى سفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والتعرض للممتلكات العامة والخاصة. وأكد المتحدث الأمني أنه وفي الوقت الذي ضمنت فيه الأنظمة والقيم السائدة في مجتمعنا المحكوم بشرع الله وسنة رسوله وسائل مشروعة للتعبير وأبوابًا مفتوحة تكفل التواصل على كافة المستويات في كل ما من شأنه تحقيق الصالح العام، فإن قوات الأمن مخولة نظامًا باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة بشأن كل من يحاول الإخلال بالنظام بأية صورة كانت وتطبيق الأنظمة بحقه".
وقد صدر أيضًا بيان هيئة كبار العلماء ونصه: "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فلقد أخذ الله -عز وجل- على العلماء العهد والميثاق بالبيان؛ قال سبحانه في كتابه الكريم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 8]، وقال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة: 159].
ويتأكد البيان على العلماء في أوقات الفتن والأزمات؛ إذ لا يخفى ما يجري في هذه الأيام من أحداث واضطرابات وفتن في أنحاء متفرقة من العالم، وإن هيئة كبار العلماء إذ تسأل الله -عز وجل- لعموم المسلمين العافية والاستقرار والاجتماع على الحق حكامًا ومحكومين، لتحمد الله سبحانه على ما من به على المملكة العربية السعودية من اجتماع كلمتها وتوحد صفها على كتاب الله -عز وجل-، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظل قيادة حكيمة لها بيعتها الشرعية، أدام الله توفيقها وتسديدها، وحفظ الله لنا هذه النعمة وأتمها.
وإن المحافظة على الجماعة من أعظم أصول الإسلام، وهو مما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه العزيز، وعظم ذم من تركه، إذ يقول -جل وعلا-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
وقال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105]، وقال -جل ذكره-: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159].
وهذا الأصل الذي هو المحافظة على الجماعة مما عظمت وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- به في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يد الله مع الجماعة". رواه الترمذي، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". رواه مسلم.
ثم تابع البيان: "وما عظمت الوصية باجتماع الكلمة ووحدة الصف إلا لما يترتب على ذلك من مصالح كبرى، وفي مقابل ذلك لما يترتب على فقدها من مفاسد عظمى يعرفها العقلاء، ولها شواهدها في القديم والحديث.
ولقد أنعم الله على أهل هذه البلاد باجتماعهم حول قادتهم على هدي الكتاب والسنة، لا يفرق بينهم، أو يشتت أمرهم تيارات وافدة، أو أحزاب لها منطلقاتها المتغايرة امتثالاً لقوله سبحانه: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31، 32].
وقد حافظت المملكة على هذه الهوية الإسلامية، فمع تقدمها وتطورها، وأخذها بالأسباب الدنيوية المباحة، فإنها لم ولن تسمح -بحول الله وقدرته- بأفكار وافدة من الغرب أو الشرق تنتقص من هذه الهوية أو تفرق هذه الجماعة.
وهيئة كبار العلماء إذ تستشعر نعمة اجتماع الكلمة على هدي من الكتاب والسنة في ظل قيادة حكيمة، فإنها تدعو الجميع إلى بذل كل الأسباب التي تزيد من اللحمة وتوثق الألفة، وتحذر من كل الأسباب التي تؤدي إلى ضد ذلك، وهي بهذه المناسبة تؤكد على وجوب التناصح والتفاهم والتعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، وتحذر من ضد ذلك من الجور والبغي، وغمط الحق.
كما تحذر من الارتباطات الفكرية والحزبية المنحرفة؛ إذ الأمة في هذه البلاد جماعة واحدة متمسكة بما عليه السلف الصالح وتابعوهم، وما عليه أئمة الإسلام قديمًا وحديثًا من لزوم الجماعة والمناصحة الصادقة، وعدم اختلاق العيوب وإشاعتها، مع الاعتراف بعدم الكمال، ووجود الخطأ وأهمية الإصلاح على كل حال وفي كل وقت.
وبما أن المملكة العربية السعودية قائمة على الكتاب والسنة والبيعة ولزوم الجماعة والطاعة، فإن الإصلاح والنصيحة فيها لا تكون بالتظاهرات والوسائل والأساليب التي تثير الفتن وتفرق الجماعة، وهذا ما قرره علماء هذه البلاد قديمًا وحديثًا من تحريمها، والتحذير منها.
والله تعالى نسأل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يجمع كلمتنا على الحق، وأن يصلح ذات بيننا، ويهدينا سبل السلام، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يهدي ضال المسلمين، وهو المسؤول سبحانه أن يوفق ولاة الأمر لما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه ولي ذلك القادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم