عناصر الخطبة
1/ ذكريات رمضان 2/ أحوال الناس في رمضان 3/ قدرة العباد على العبادة في كل حين 4/ استحباب صيام ست شوالاقتباس
في رمضان تاب عباد من خطاياهم، وعاهدوا الله تعالى على أن لا يعودوا إلى العصيان بعد أن طعموا حلاوة التوبة والإقبال الله تعالى، وتذوقوا لذة الخشوع والدعاء والقرآن. وفي رمضان واظب عبادٌ على صلاة الجماعة، وداوموا على الصف الأول، ولم تفتهم التكبيرة الأولى؛ فعزموا على أن يكون هذا دأبَهم العمر كله، والتبكيرُ إلى الصلاة له لذة لا يعرفها إلا أهلها.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإنكم إن فقدتم رمضان فإن ربكم سبحانه يُعبد في كل زمان، ولا يقطع عمل العبد إلا موته: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ) [الحجر:99].
أيها الناس: كان رمضان خلال أيام خلت ملء أسماعنا وأبصارنا، عشناه يومًا بيوم، وليلة بليلة، وها هو قد انتهى بما أودعه العباد من أعمالهم؛ فمحسن ومسيء، ومقل ومستكثر، ومقبول ومردود، وغدًا في الحساب يوفى العاملون أجورهم.
لقد كان صوت رمضان مدويًا في الآفاق، وشعائره بادية للعيان؛ فأحاديث الإذاعة عنه، وبرامج التلفزة فيه، وأضاءت المساجد في ليله، وعجَّت المنائر بالقرآن يتلى، وبالدعاء يصعد إلى السماء، وعاش المسلمون فيه أجمل اللحظات التي طربت فيها القلوب، وانشرحت الصدور، وسحت العيون، بعد عام كامل من الانشغال بالدنيا وملذاتها، والغفلة عن ذكر الله تعالى.
إن رمضان أشبه ما يكون بمستودع مليء بالإيمان والخشوع، والناس يغترفون منه زادًا لعامهم كله، فمنهم من أخذ حظه وافيًا منه، ومنهم من رأى الناس يغترفون وهو لا يزيد على أن ينظر إليهم.
في رمضان تاب عباد من خطاياهم، وعاهدوا الله تعالى على أن لا يعودوا إلى العصيان بعد أن طعموا حلاوة التوبة والإقبال الله تعالى، وتذوقوا لذة الخشوع والدعاء والقرآن.
وفي رمضان واظب عبادٌ على صلاة الجماعة، وداوموا على الصف الأول، ولم تفتهم التكبيرة الأولى؛ فعزموا على أن يكون هذا دأبَهم العمر كله، والتبكيرُ إلى الصلاة له لذة لا يعرفها إلا أهلها.
وفي رمضان عرف كثير من الناس قيمة القرآن الذي يهجرونه طوال العام؛ فاستمعوا آياته تتلى آناء الليل، ورتلوه آناء النهار، فوجدوا في القرآن خير جليس: أيقظ قلوبهم، وشحذ هممهم للعمل بما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم.
وجدوا فيه وعيدًا على معاصٍ قد تلبسوا بها، فعاهدوا ربهم على الإقلاع عنها، وقرؤوا فيه جزاءً عظيمًا على أعمال صالحة قد فرَّطوا فيها، فعزموا على المحافظة عليها.
لقد تعلموا من القرآن ما لم يكونوا يعلمون، ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين، فندموا على سنوات مضت هجروا فيها هذا الكتاب العظيم، وعقدوا العزم على أن يكون لهم منه ورد يومي لا يتركونه مهما كلف الأمر.
وفي رمضان وجد كثير من المتهجدين لذة صلاة الليل، ومناجاة الرب -جل جلاله-، والانطراح على بابه، والبكاء من خشيته ورجائه، وطَعِموا حلاوة الاستغفار في أسحاره، فعلموا أنهم قد غفلوا عن هذا الباب العظيم من الخير، وأن سهرهم أول الليل ونصفه، ونومهم آخره قد حرمهم هذه اللذة العظيمة، فعزموا على أن يجاهدوا أنفسهم على قيام الليل، وأن يأخذوا بالأسباب المعينة على ذلك؛ لئلا يُحرموا لذة مناجاة الرب في أفضل الساعات، وربنا -تبارك وتعالى- "يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حين يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فيقول: من يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ له؟! وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ له؟!". كما جاء في الحديث الصحيح.
وفي رمضان انتشرت مظاهر الإحسان للخلق بتفطير الصائمين، وتلمس حاجات المعوزين، وإيتاء الزكاة الواجبة، وإتباعها بصدقة النافلة، وأحس الصائم بجوع إخوانه الفقراء، وعلم حاجتهم، ووجد لذة عظيمة في الإحسان إليهم، وإدخال السرور عليهم وعلى أسرهم وأطفالهم، فكان سروره يزداد مع زيادة صدقاته وإحسانه، وودَّ ساعة إنفاقه لو ملك ما على الأرض لا لشيء إلا ليحسن إلى إخوانه، ويدخل السرور إلى بيوتهم.
وكان قبل رمضان يشبع ويلبس ويركب ويترف، ولا يأبه بغيره، لكنه لما رأى مظاهر الإحسان في رمضان أبت عليه نفسه إلا أن ينتظم في سلك المحسنين، فوجد في الإحسان إلى الخلق ما لم يجده في لذيذ طعامه ولباسه ومراكبه ومساكنه وزينته، فعزم على أن لا يقطع لذة الإحسان إلى الخلق، وأن يكون للفقير والمسكين وذي الحاجة حظ دائم من أمواله التي وهبها إياه ربُه -عزَّ وجل-، ولا سيما مع علمه بحديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "ما من يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فيه إلا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فيقول أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". رواه الشيخان.
وفي رمضان حرص كثير من الناس على برِّ والدِيهم، وإدخال السرور عليهم بمجالستهم ومنادمتهم، فرأوا من سرور والدِيهم بهم ما غفلوا عنه من قبل بمشاغل الدنيا، ومطالب الأهل والولد، فعزموا على أن يعطوا والديهم حظهم منهم، وأن يكون لهم معهم جلسات مرتبة لا يتخلفون عنها أو يؤجلونها مهما كلف الأمر؛ لعلمهم بعظيم حقهم عليهم، حتى إن الله سبحانه ذكر حقهم مع حقه تعالى؛ لأنهم السبب الأول بعد الله تعالى في وجودهم في هذه الدنيا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23].
وفي رمضان وَصَل كثير من الناس أرحامهم للمباركة لهم ببلوغ الشهر أو العشر، فرأوا من فرحهم بهم ما لم يظنوه، ومن ترحيبهم بهم ما لم يتوقعوه، فعلموا قدر تفريطهم سابقًا في حق قرابتهم، وبعدهم عنهم، وقطيعتهم لهم، واشتغالهم بالمباحات وبما دونها عن أداء الواجبات، وقد سمعوا في رمضان آيات الله تعالى تأمرهم بالإحسان إلى ذوي القربى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى) [النساء: 36]، وقرؤوا وعيد الله تعالى فيمن قطعوا أرحامهم: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد:25]، فعزموا على أن يجعلوا لقرابتهم حظًّا من أوقاتهم، وجزءًا من زياراتهم ومكالماتهم؛ طاعة لله تعالى، ووفاءً لحقهم.
وفي رمضان تفقد بعض الناس جيرانهم بزيارتهم أو السؤال عنهم، فوجدوا فيهم المريض والعاجز عن بلوغ المسجد، ولم يفتقده أكثر المصلين لانشغالهم عنه، وعدم اهتمامهم بحقوق الجار، فعزموا على أن يعطوا جيرانهم ما لهم من الحقوق عليهم، ويسألوا عنهم، ويتفقدوهم طوال العام.
لقد كان رمضان منبعًا للإيمان والتقوى، وموردًا لتزكية النفوس، وتقويم السلوك، ومعرفة الحقوق، صدر إليه المؤمنون فاغترف كل واحد منه ما اغترف، والموفق من أوفى بعهده مع الله تعالى، وأحسن في سائر الشهور كما أحسن في رمضان؛ لأنه يعبد الله -عز وجل- ولا يعبد رمضان، والله تعالى يجب أن يعبد في كل زمان ومكان وحال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [الحشر:18، 19].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم، واعرفوا حقَّه عليكم، واشكروه كما هداكم وأمدكم وكفاكم؛ فإن شكر النعم يزيدها، وإن كفرها يزيلها: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
أيها المسلمون: إن كنا فقدنا رمضان في صيام نهاره، وقيام ليله، وملازمة القرآن والذكر والدعاء، وأداء الحقوق والواجبات، والإحسان إلى الناس؛ فإننا تعلمنا من رمضان أننا قادرون على أداء هذه العبادات مهما كثرت مشاغلنا، وعظمت مسؤولياتنا، وحق الله تعالى علينا هو أعظم حق يجب أداؤه؛ فهو خالقنا ورازقنا وآمرنا وناهينا، وهو الذي يجزينا بأعمالنا، ونحن عبيده لا ننفك عن عبوديته في أي حال، وقد شرع لنا صيام النفل، وقيام الليل، وأكد علينا أن نوتر قبل أن ننام إلا من كان يقوم آخر الليل وذلك أفضل، وأمرنا بقراءة القرآن وتدبره والعمل به: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) [ص: 29].
كما أمرنا -سبحانه وتعالى- بالإحسان إلى الخلق مَنْ بَعُدَ منهم عنا، ومن قَرُبَ منهم منا، وحقوق القريبين آكد علينا وأعظم في شريعة ربنا -عز وجل-؛ كالوالدين والأرحام والجيران.
ومما شرع الله تعالى لنا عقب رمضان صيام ستة أيام من شوال؛ كما جاء في حديث أَبي أَيُّوبَ الأَنصَاريِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلّم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالَ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ". رواه مسلم.
وفي حديث ثُوبانَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلّم- قَالَ: "صِيامُ رَمَضَانَ بِعَشرَةِ أَشْهُر، وصِيَامُ السِّتَّةِ أيَّامٍ بِشَهرَينِ، فذَلك صِيَامُ السَّنَة". وفي رِوايةٍ: "مَنْ صَامَ سِتَّةَ أيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرِ كَانَ تَمامَ السَّنة (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:160]". رواهُ أحمدُ وابنُ ماجه.
ومما ينبغي أن يُعلم أنه يجوز صِيامِها في أَوَّلِ الشَّهرِ أَو وَسْطِهِ أو آخِرِهِ، مُتَتَابِعَةً أو مُتَفَرِّقَةً، فكُلُّ ذلك مَشرُوعٌ، وأيًّا ما فَعَلَهُ المُكَلَّفُ فَجَائِزٌ، ويَستَحِقُّ الأَجْرَ المُرَتَّبَ عَلَيْهِ إِنْ قَبِلَ اللهُ تَعَالَى مِنه، ومَنْ كان عَليهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ قَدَّمَ القَضَاءَ عَلى السِّتِ ثُم صَامَهَا بعدَ ذَلك؛ لظَاهِرِ قول النبي -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالَ". يَعْني صام رمضان كَاملاً، ومَنْ بَقِيَ علَيهِ أَيَّامٌ من رَمَضَانَ فَلا يَصْدُقُ عَلَيهِ أَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ حَتى يَقضِيَ تِلكَ الأيَّامَ التي علَيه منه؛ ولأَنَّ إبرَاءَ الذِّمةِ من الوَاجِبِ أَولَى مِن فِعلِ المَندُوب.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- وأحسنوا العمل عمركم كله كما أحسنتم في رمضان، وسلوا الله تعالى قبول الأعمال، والثبات على الإيمان.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم