عناصر الخطبة
1/ تفشي الغيبة في المجتمع 2/ تعريف الغيبة 3/ مضار الغيبة على الفرد والمجتمع 4/ من أشكال الغيبة المفزعةاقتباس
لقد تفشت الغيبة في مجالسنا، ونقشت وحفرت في ألسنتنا، فالغيبة تُسمع ويلقى بها من فوق لسان الكبير والصغير، والوالد والولد، والمعلم والمتعلم، والزوجة والزوج، والمدير والموظف، بل والعالم والمتعلم، إلا من رحم ربك. اركب حافلة أو ادخل بيتًا، اجلس إلى زملاء في وظيفة، أو أصدقاء في رحلة، أو إلى جيران في جمعة، أو أسرة في جلسة ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: فإنّ مجالس المؤمنين تكثر وتتنوع، وتكبر وتصغر، وتخص وتعم، تكون في شأن الدين وتكون في شؤون الدنيا، ولكنها لا بد أن تبقى كلها -ما كان فيها من جد وما كان فيها من مباح- مطبوعة بطابع الإيمان، ومختومة بخاتم الشريعة، تعلوها الحقيقة، وتحفها السكينة، مبدؤها الصدق، ومسيرها البر، ومخرجها الأمانة، ولكن هذه السيرة -سيرة مجالس عباد الله المؤمنين- لم تعد على هذا السبيل، إلا من رحم ربك، فلقد تلوثت مجالسنا الاجتماعية اليوم، وسرى فيها من الداء ما أباد خضراءها، ورتعت فيها وربت آفات اللسان، وكان لداء الغيبة -مزلّة اللسان، وفاكهة أهل النار، وفتات البطالين اللئام- الحظ الأوفر انتشارًا، والأقوى حضورًا، والأشد مشغلة، والأسهل نثرًا ومداولة وتكلفة، ولكنها الأقسى ضررًا وفسادًا وإفسادًا ونكوصًا وحشرجة، فوقعها ليس فرديًا ولا محدودًا، بل تفسد الدنيا والآخرة، وتضر بالأسرة وبالمجتمع وبالعمل والإنتاج.
نعم -يا عباد الله- لقد تفشت الغيبة في مجالسنا، ونقشت وحفرت في ألسنتنا، فالغيبة تُسمع ويلقى بها من فوق لسان الكبير والصغير، والوالد والولد، والمعلم والمتعلم، والزوجة والزوج، والمدير والموظف، بل والعالم والمتعلم، إلا من رحم ربك.
اركب حافلة أو ادخل بيتًا، اجلس إلى زملاء في وظيفة، أو أصدقاء في رحلة، أو إلى جيران في جمعة، أو أسرة في جلسة، بل احضر لقاءً علميًا أو امكث في مسجد مليًّا، سترى الغيبة تسرح في جنبات ذلك كله، سترى أعراض المسلمين في أواسط المائدة مذبوحة وعلى حفافها منشورة، كأن بعض المسلمين اليوم قد أخذ على عاتقه عهدًا لا ينتقض، أنْ لا بد من الفتك بأعراض المسلمين واغتيابهم ولو كان ذلك بعد صلاة الفجر أو أثناء أداء مناسك الحج أو حتى على المقبرة، استخفاف ليس بعده استخفاف، وإيغال في انتهاك حرمات المسلمين ليس بعده إيغال، وتطاول ما فوقه تطاول، وغفلة ونسيان وضلال وضياع.
يهون عليك -يا أخي المسلم- تصوّر هذا، ويقوى تصديقك له إذا ركزت معي وفتحت قلبك وشحذت ذهنك واستمعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول لك: ما هي الغيبة؟! يشرح لك معناها لتبصر واقعها، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟!". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ". قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟! قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرح لك طبيعة الغيبة، ويبين لك مكونات هذا الداء، إنه بكل بساطة، أن تذكر مسلمًا غائبًا بشيء يكرهه، أليس هذا المعنى واضحًا؟! ولكن في المقابل أليس ارتكاب الناس له ووقوع الناس فيه أمرًا سهلاً وهينًا وكثيرًا ومشاهدًا؟! فأي لقاء أو مجلس لويت فيه على أخيك المسلم بكلمة واحدة يكرهها منك ويتضايق لو سمعها منك فهي غيبة، فانظر -رعاك الله- إلى حالنا وإلى ألسنتنا والى مجالسنا، أهذا الفعل يكثر فينا أم يقل؟!
لقد أردت أن أضع بين يديك تعريف الغيبة لتشهد بنفسك على مدى انتشارها بيننا، وأردت أن أسمعك بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه لمعنى الغيبة حتى تدرك أنه -صلى الله عليه وسلم- قد قام بنفسه بشرح هذا المعنى، وذلك لخطورته.
ويظهر لنا العجب من كثرة مشاهد الغيبة في جنبات حياتنا كلها إذا ما استمعنا إلى الإمام النووي وهو يقدم لنا تفصيلاً في معنى الغيبة وأشكالها فهو يقول: "الغيبة ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز".
فمن منا لا يُواقع صورة من تلك أو شكلاً من ذاك أو فعلاً من هذا، إنها كلها تعني الغيبة، نعم الغيبة ولا شيء سوى الغيبة. يقول ابن الأثير: "الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه". فيا الله: رحمتك، ويا الله: عونك، ويا الله: توفيقك، أن لا نغتاب عبادك المؤمنين، أن لا نكون من زمرة المغتابين.
نعم، لن أغتابك -أيها العبد المؤمن-، لماذا؟! لأنك مؤمن بالله العظيم، لأنك مؤمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنت لست كافرًا بالله، ولا جاحدًا بكتاب الله، ولا منكرًا للقاء الله، ولا مكذبًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل أنت مؤمن مسلم، والمؤمن في ديننا له حرمته، والمسلم في شريعتنا له ذمته، ذلك ما شهد به وجاءنا به رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه".
فلك -يا أيها المؤمن- حرمة الإسلام وحرمة الإيمان، ولك حق الأخوة، أخوة العقيدة وأخوة الإيمان: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، لذلك فلن أغتابك -يا أيها المؤمن- لن أغتابك، حفظًا لحق الإيمان فينا، وصيانة لحرمة الإسلام التي تجمعنا، وتعظيمًا لشأن الأخوة بيننا.
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! لأن الله ربي العظيم قد نهاني عن الغيبة وحرم عليّ فعلها، فقال سبحانه مخاطبًا عباده المؤمنين به: (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات:12]، فتأمل معي أنّ الذي ينهانا في هذه الآية هو ربنا سبحانه، وينهانا فيها بالتحديد عن الغيبة، غيبة المؤمنين به سبحانه لبعضهم، قال الطبري في تفسير هذه الآية: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا): أي: "ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه".
ولأن ربنا سبحانه توعد المغتابين فقال: (وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) [الهمزة: 1]، قال الآلوسي: "الهمز واللمز: الطعن في أعراض الناس والغض منهم واغتيابهم".
فالله يتوعد المغتاب بالويل؛ فكيف أغتابك -أيها المؤمن- بعد هذا الوعيد؟! نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن- لأن الله سبحانه قد زجر ونفّر عن الغيبة، وكره إلينا فعلها والوقوع فيها، بما لا يبقي للنفس لها ارتياحًا، فقال سبحانه واصفًا مشبهًا حال المغتاب لأخيه المؤمن: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات:12]، هذه الآية الخاصة في تصوير مشهد الغيبة لابد من وقفة معها، يقول ابن كثير في تفسيرها: "أي كما تكرهون هذا طبعًا، فاكرهوا ذاك شرعًا؛ فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها".
وقال الآلوسي: "كنى عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله؛ لأنها ذكر المثالب وتمزيق الإعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه، وجعله ميتًا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته".
وقال الزمخشري: "في الآية مبالغات شتى؛ منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصوفًا بالمحبة، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخًا، ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتًا".
لأجل ذلك لن أغتابك -أيها المؤمن-؛ لأنني لن أقبل على نفسي أن آكل لحمك وأنت ميت، وأنت أخي، لن أغتابك أيها المؤمن طاعة لله تعالى، واستجابة لنهيه، وتعظيمًا لشرعه، وحذرًا من وعيده، وعبودية له سبحانه.
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرّم علينا -نحن معاشر المسلمين- أن يغتاب بعضنا بعضًا، ودعانا أن نكون إخوة متحابين، لا أناسًا متفرقين متباغضين، فقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يغتب بعضكم بعضًا، وكونوا عباد الله إخوانًا".
لن أغتابك -أيها المؤمن-؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتهاون مع المغتابين، لم يسمح لغيبة واحدة أن تمر من بين يديه بلا حساب، لم يأذن لأحد أن يلوك عرض أخيه المسلم، بل أصدر أحكامًا قاسية في حق من وقعت منهم الغيبة في عهده ولو كانت عابرة غير مستقرة، تأمّلوا معي ذلك الموقف الاجتماعي من عالم النساء؛ ففي الحديث الحسن أن رجلاً قال: يا رسول الله: إنّ فلانة تكثر من صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال –صلى الله عليه وسلم-: "هي في النار".
وتنقل لنا عائشة -رضي الله عنها- موقفًا حصل معها هي لا مع غيرها، فماذا -يا ترى- كان موقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! هل جاملها؟! هل شاركها كما يفعل كثير من الأزواج اليوم؟! حاشاه أن يفعل ذلك. تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في الحديث الصحيح: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة- فقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "لقد قلت كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته"، أي لأنتنته وغيّرت ريحه.
لأجل ذلك -يا أيها المؤمن- لن أغتابك، فها هو سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفخم شأن الغيبة، ويشير إلى أنها قد تضيع آخرة المؤمن، وأنه بغيبة واحدة فقط قد تلوث النبع الصافي والحياة الهادئة والمجتمع النقي والهواء الطلق، فكيف بغيبة وراء غيبة، وبغيبة أقسى وأكبر من مجرد إشارة عابرة أو كلمة طائرة، فماذا يمكنها أن تُحدث؟! وبماذا يمكن أن يصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-؛ لأنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتهاون مع أحب الناس إليه وأقربهم منه منزلة، فكيف معنا نحن وقد بعدنا وبعدنا.
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! لأن الغيبة كبيرة من الكبائر، فليست الكبائر محصورة في الزنا والسرقة وشرب الخمر، بل الغيبة من كبيرة من الكبائر، فلماذا أرتكب كبيرة؟! لماذا تسجل في صحيفة أعمالي كبيرة، لأجل ماذا؟! لأجل أن أذكرك -أيها المؤمن- بسوء، وبما تكره سماعه، فأي شيء كسبتُ إذا كان كلما ذكرت مسلمًا أو مسلمة بما يكرهه سجلت عليّ كبيرة من الكبائر، نعم -يا عباد الله- هذا هو حكم الغيبة؛ قال الحافظ ابن حجر: "الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة أن الغيبة كبيرة". وقال النووي: "الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك".
فيا أيها المؤمن: تذكر أنك كلما ذكرت أخاك المسلم في غيبته بما يكرهه فأنت فعلت حينها كبيرة، فأقلل من ذلك أو أكثر فكلٌّ بحسابه، ويا لفظاعة الأمر حينما تحسب لأولئك الذين يتفكهون بغيبة المسلمين، فقد تزيد في اليوم عن عشرين مرة يغتابون فيها غيرهم، فلو حسب ذلك جيدًا لأدرك أنه لربما في الشهر الواحد تكتب عليه أكثر من خمسمائة كبيرة بسبب الغيبة، ولكنه إذا سمع عن الكبائر قال في نفسه: أنا بعيد عنها، فأنا لا أزني ولا أشرب الخمر ولا أرابي، ولكنه في الكبائر منغمس بسبب رباه في أعراض المسلمين، وانتهاكه لحرماتهم، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"، وانظر في حال من علم فعمل، ومن فقه فخاف، يقول البخاري -رحمه الله-: "ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغيبة حرام".
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! حتى لا أفسد قلبي ونفسي ومجتمعي، حتى لا أفقد احترامي بين الناس، حتى لا أكون معول هدم، نعم -يا أيها المؤمنون-، الجماعة المؤمنة طيبة الرائحة نقية السريرة، تتآلف ولا تتناكر، تتقارب ولا تتباعد، تبني ولا تهدم، ولذلك فإن من واجبي ومن واجبك أن نحافظ على هذه العلامات المضيئة، في حياتنا، في أسرنا، في جلساتنا، في وظائفنا، في مجتمعاتنا، لا أن نترك الغيبة تستفحل فيما بيننا.
فالغيبة -يا أيها المؤمن- تفسد عليك إيمانك وخشوعك وصفاء سريرتك، الغيبة تذهب سلامة صدرك وتملؤه حقدًا وشحناء، الغيبة تخزيك وتقبحك، بغيبتك لأخيك المسلم تجني عليه، وتوغر صدور الناس عليه وتبغضه إليهم وتقطع الأواصر بينه وبينهم، بالغيبة تكون مفسدًا اجتماعيًّا، تسعى لتشفي غيظك أو تجامل أصدقاءك أو تنتقم لذاتك أو لتحط من قدر غيرك، ولكنك ما دريت أنك أفسدت قومًا آخرين وأنتنت أجواءً صافية وعكرت مياه عذبة.
في الحديث الحسن عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون ما هذه الريح؟! هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين"، كل هذا تفعله لتجمل صورتك وباطنك خراب، ولتخرب صورة غيرك وقد يكون عند الله من الأخيار، ولتظهر بين الناس بالصيت الحسن وهو يلطخ بالسمعة السيئة، ولكنك عند الله نتن الرائحة بئيس الحالة، وقد يكون من اغتبته هو الأفضل، أما أنت -أيها المغتاب- فجزمًا لست الأفضل؛ لأن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- لما سئل: أي المسلمين أفضل؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".
فلن أغتابك -أيها المؤمن-؛ لأنني لا أريد أن أكون مفسدًا لمجتمعي، بل أريد أن أكون مصلحًا، ولأنني لا أريد أن أصبح خبيث النفس موغر الصدر، بل أريد أن أبقى نقي القلب سليم الصدر، أريد أن يسلم المسلمون من لساني لا أنْ يعاني ويتضرر المسلمون من فمي، أقول الخير فأغنم، وأترك الغيبة فأسلم، فنبينا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"، وأنا وأنت -أيها المؤمن- سنستجيب لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- وسنقول خيرًا ولن نقول شرًّا، والغيبة كانت وما زالت شرًّا ونكرانًا.
لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! حتى أحافظ على آخرتي، لن أضيع آخرتي بسبب غيبتك، فماذا ستنفعني الغيبة حينما أخسر آخرتي بل أخسر نفسي هناك.
نعم -يا عباد الله-، إنّ من خير الأدوية النافعة لنا جميعًا حتى نترك الغيبة وحتى نبتعد عنها، بل حتى نودعها بلا رجعة، بل حتى نقف في وجهها وفي وجه المغتابين، أن نتذكر شأن الآخرة، وما أدراك ما الآخرة؟! إنها يوم الدين والجزاء والحساب، إنها يوم القصاص والعدل الإلهي.
فتذكر أنّ كل غيبة لمسلم أو مسلمة تكتب عليك في صحيفة أعمالك، وكل لفظة سوء في حق أخيك المسلم الغائب تدوّن في دواوين أعمالك، لتعاد عليك يوم الدين ولتحاسب عليها يوم الحساب، قال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس: 12]، وقال تعالى: (إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17-18]، قال ابن كثير: "(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) يعني: الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) أي: مترصد، (مَا يَلْفِظُ) أي: ابن آدم، (مِنْ قَوْلٍ) أي: ما يتكلم بكلمة، (إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة". فتذكر أن كل غيبة ستكتب، وأن ما يكتب ستسأل عنه؛ لأنه من حقوق العباد التي لا يتجاوزها رب العباد.
تذكر أن مما تعذب عليه في قبرك، غيبتك لعباد الله المؤمنين والمؤمنات، فقد بوب البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: "باب عذاب القبر من الغيبة والبول". وفي الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسير، فأتى على قبرين يعذب صاحباهما فقال: "أما إنهما لا يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتأذى من بوله"، فهل تقبل على نفسك -أيها المؤمن، أيها العاقل- أن تعذب في قبرك من أجل أن تذكر فلانًا أو فلانة بكلمة من هنا أو من هناك تنقيصًا لهما وإساءة لهما أو تشفيًا وغيظًا منهما، فماذا سينفع ذلك في قبرك؟! قيل لبعض الصالحين: "لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك"، فقال: عليه فأشفقوا، وإياه فارحموا".
وتذكر -أيها المؤمن- أن غيبة واحدة يكون فيها من الشر والعدوان والسخط ما فيها، تُودي بمصيرك في الآخرة، فتزل بها إلى قعر جهنم كما زلت هي من لسانك؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي يرويه بلال بن الحارث: "وإن أحدكم ليتكلمُ بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أن تبلُغ ما بلغت، فيكتُب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه"، فكان علقمة يقول: "كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث".
وتذكر القصاص في الآخرة، فكل من اغتبته سيسعى بكل قوة ليقتص منك في الآخرة، وربك عدل لا يظلم الناس شيئًا. والقصاص سيكون بالحسنات والسيئات، فاحذر -يا أيها المؤمن- أن تذهب حسناتك إلى كل الذين اغتبتهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرضٍ أو مالٍ فليتحلّله منها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم؛ تؤخذ من حسناته، فإن لم يكن أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته ثم طرح في النار"، فاتق الله في نفسك، ارحم نفسك، حرام عليك والله أن يذهب جزاء أعمالك الصالحة إلى غيرك وأنت في أمس الحاجة إليها، لماذا تدع أجر صلاتك، أجر نفقاتك، تذهب لغيرك؟! لمَ تتسبب في ذهاب ما جمعت من حسنات بصيامك وقراءتك للقرآن وفعلك للخيرات إلى غيرك؟! كل هذا حتى تغتابه في هذه الدنيا الزائلة، فماذا نفعتك غيبتك له الآن؟! ماذا جرى لك في الدنيا من وراء غيبته؟! ها أنت الآن في الآخرة تخسر أعز شيء عليك، حسناتك التي ستنقذك من عذاب الله، والمصيبة العظمى حينما يجتمع عليك العشرات والمئات، ولربما الآلاف ممن اغتبتهم طوال عمرك، ويبدأ كل واحد يأخذ من حسناتك وإذا بها تفنى، ثم يبدؤون بحطّ سيئاتهم على كاهلك حتى تثقل بك ثم تطرح في النار كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، أتقبل كل هذا أن يحصل لك جرّاء غيبة تغتاب بها مسلمًا، أو تقع في عرض مؤمنة، وماذا سيفيدك ذلك؟! فتذكر الآخرة يوم الجزاء الوافي، ويوم العدل والقصاص الرباني.
نعم، فلأجل أنْ تسلم لي آخرتي، ولأجل أن أرحم في قبري، ولأجل أن أحفظ حسناتي، ولأجل أن لا يضيع جهدي وتعبي وعملي، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لن أغتابك.
وختامًا، فلن أغتابك -أيها المؤمن-، أتدري لماذا؟! لأنني سآخذ بوصايا علماء أمتي، سأشغل نفسي بالقول النافع وبالكلام الطيب، سأُعْمِلُ لساني فيما يرضي ربي، سأتعب نفسي فيما فيه دوائي، لن أغتاب فأظلم، لن أغتاب فأمرض، لن أغتاب فأرتكس، نعم -يا عباد الله-، سنأخذ جميعًا بوصية عمر الفاروق لنا فقد قال -رضي الله عنه-: "عليكم بذكر الله تعالى؛ فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء". لذلك مجالسنا التي نغتاب فيها المسلمين هي أماكن المرضى وبيوت الداء ومقاهي العلل، نضحك فيها، وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك". وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "يُبصِر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في نفسه". فانشغل بنفسك، واحذر من حبائل الشيطان ومن كيد الإنسان، ومن صحبة الأقران، ومن مخالطة أهل الداء ومن مواطن الفضول ومقارعة النساء والصبيان، ومن مسايرة ومجاملة الضيوف والأصدقاء والخلان، فكل ذلك لا ينفعك ولا يصلح أحوالك، بل يزيدك رهقًا، ويضعف همتك، ويخدش حياءك، وينكّل بإيمانك، ويذهب خشوعك، ويقطع صلتك بربك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة: ومن أشكال الغيبة المفزعة حقًّا، الغيبة التي تقع من بعض الملتزمين وحملة الدين والعلم، فقد بتنا نشهد ذلك لدرجة أنك لا تفرق أأنت في مجلس لعوام الناس أم في مجلس لتعليم الناس، وصرنا نستمع للغيبة تتطاير من أفواه حملة الدعوة هنا وهناك، حيث القدح والذم والتنقيص في حق كل مخالف وفي حق أي خلاف ولو كان صاحبه له المقام الأسمى في الدعوة إلى دين الله، وبيت القصيد يكمن أنك تجد بعض أهل العلم والدعوة يتشدد في رواية أو فتوى، ويظهر الحرص على إتيان سنة أو غض بصر أو نكران لقمة حرام، ولكنه سرعان ما ينسى الحلال والحرام، إذا ما انطلق لسانه يذرب ويضرب في أعراض العلماء والدعاة الآخرين، بل وجيرانه وأقاربه، فيشاهد الناس منه ما يعجبون له، ولنصغي -يا أيها الأخوة- إلى العالم الرباني ابن تيمية وإلى تلميذه ابن القيم وهو يفك اللغز ويسدي النصح لأهل الالتزام والتدين والعلم والدعوة، بأنْ لا يكونوا متناقضين في تدينهم ومع أنفسهم وأمام غيرهم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه يكثر في الصالحين أن يجتنبوا الزنا وشرب الخمر، ولكنهم يقعون في كبائر الذنوب باللسان من الغيبة ونحوها، ومن كبائر الذنوب في القلب من العجب والكبر ونحو ذلك". ويقول ابن القيم: "ولهذا كان الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر؛ لشدة الداعي إليهما وسهولتهما، ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والمفاكه في أعراض الخلق".
إنه فقه ليس بعده فقه في التعامل مع اللسان وفي صيانة العبد لحقيقة إيمانه، وفي إظهار التدين بأكمل وجوهه، ألا فلنتعظ -نحن الملتزمين ونحن المتدينين- بهذا الكلام الرشيد وبهذا النصح الفريد، فكما نتقي الله في لقمة تحرم وتحرق الجسد، ألا فلنتق الله في غيبة تهلك الإيمان والحسنات وتفسد الحرث والنسل.
فيا أيها المؤمن: إنّ إيمانك وعقيدتك وتدينك، تفرض عليك، ليس فقط أن تتجنب الغيبة، بل وأن تتجنب مجالسها ومن يواقعها، بل وتفرض عليك شيئًا أعظم من كل ذلك: أن تذبّ عن أخيك المسلم، وأنْ تذبي عن أختك المؤمنة، إذا ما رأيت غيرك من المغتابين والمفسدين يعمل لسانه المنشار في أعراضهم، لتكون بذلك من الناجين وعند الله من المنصورين، واستمع إلى نبيك -صلى الله عليه وسلم- وهو يشدّ على يدك -يا من تدفع الغيبة عن أخيك المسلم-، ففي الحديث الصحيح: "من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار"، فاحفظ حق أخيك وصن عرضه، وتذكر أنك إن حفظت لسانك وحبسته عن الغيبة وظلم العباد، فنزلك سيكون عظيمًا، وعطاء الله لك سيكون جزيلاً، ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".
فالنجاة النجاة، ولا نجاة إلا بما وصانا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال فيما رواه لنا عطية بن عامر -رضي الله عنه- كما في الحديث الحسن: قلت: يا رسول الله: ما النجاة؟! قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك"، هذه هي توجيهات شرعنا، وهذه هي أحكام ديننا في حق ألسنتنا وفي حق صيانتها عن الغيبة وعن كل شر ومفسدة، وإشغالها بكل خير وحسنة؛ لتحقيق مقاصد الشريعة في حفظ ديننا وآخرتنا، وفي الارتقاء بمجتمعاتنا وأسرنا، وفي صيانة أنفسنا وأخلاقنا، فالحمد لله على نعمة هذا الدين، وجعلنا الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم- من المقتدين.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا يا رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم