عناصر الخطبة
1/عطاء الله لك وصبره عليك رغم معاصيك 2/ذكرك وقوفك بين يدي الله حصن لك من استجابتك لدعوة الشيطان والنفس للمعاصي 3/تذكر غضبة الملك يوم حشرك عليهاقتباس
ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أن يجد طريقًا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار، فلا يرى إلا ما يُفْضِي به إلى النار، كما في رواية: «ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ»، والسبب في ذلك أن النار تكون في ممرِّه فلا يمكنه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلمونَ)[البقرة:281].
إخوتي في الله: أرأيتم رجلًا من أحد الرعية وله مَلِكٌ عظيمٌ، قويٌّ له من الملْك والسلطان ما يجعل الرعية تخشاه وترجوه، وهذا الملكُ يُجزلُ لهذا الرجل العطايا في كل يوم ويُخَوِّلُ عليه، ولكنَّ هذا الرجل لا يرعَوِي عن النكران والجحود لملكه، بل ويقابل هذا بتفريطه في شؤون وظيفته، والأشد من هذا أن هذا الملك على علم بأعمال هذا الرجل، وعلى اطلاع بنكرانه وجحوده وتقصيره، ومع هذا ما زال يعطيه ولا يقطع عنه أعطياته، فكيف بربكم إذا علمنا أن هذا الجاحد يعلم أن هذا الملِكَ مطلعٌ على حاله وعلى دراية بفعاله؟
وفي يوم من الأيام جاءه الحرس وطرقوا عليه الباب ليخبروه أن الملك يستدعيه ويحاسبه.
فما هو الشعور الذي يخيم على نفسه؟
وأيُّ خوفٍ سينزل على كاهله؟
وأيُّ حُجَّةٍ يبحث عنها ليخلص نفسه؟
فالتفت يمينًا فلا يرى إلا سرقته من دولة الملك، ويلتفت يسارًا فلا يرى إلا ظلمه وتعديه، ولا يرى أمامه إلا الحرس ليحملوه قصرًا إلى السلطان، لا مفر، وأين المفر؟
فبينما هو كذلك إذ به يحمل إلى الملك فيقف أمامه، ويرى سلطانَه بعينه، ويطلع على قوته وجنوده، ويرى الوزراءَ والوجهاء والسادة مطرقين رؤوسهم هيبةً من السلطان وقوته، لا يتكلم أحد، بل ولا يرفع طرفه، ويرى الجنود الأقوياء ذوي البأس الشديد ينتظرون أوامر السلطان، لينفذوا أوامره بلمح البصر، فعلاه الخوفُ والرهبةُ، وغشاه العَرَقُ، وهذا الخوف صار أشدَّ عليه من الموت، بل أصبح يتمنى الموت على أن لا يعيشَ هذه الحال، فنفسه ما عادت تتحمل، وقلبه يكاد يطير من الرهَق، أرأيتم حال هذا الرجل؟
تصور حالك مع ربك -جل وعلا- مع ملك الملوك؟
سنُستدعى في يوم من الأيام، سنقف بين يدي الله -جل وعلا-، سيكلمنا ربنا، سيخاطبنا الملك العظيم، سنرى عظمة الأهوال وعظمة المخلوقات، جاء في الصحيحين عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلمهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فإِنْ لم يَجِدْ فبِكَلمةٍ طَيِّبَةٍ».
قال العلماء: نظر اليمين والشمال لأن الإنسانَ من شأنه إذا دَهَمَهُ أمرٌ أن يلتفت يمينًا وشمالًا يطلب الغَوْثَ.
ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أن يجد طريقًا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار، فلا يرى إلا ما يُفْضِي به إلى النار، كما في رواية: «ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ»، والسبب في ذلك أن النار تكون في ممرِّه فلا يمكنه أن يحيدَ عنها؛ إذْ لا بد له من المرور على الصراط.
قال السعدي -رحمه الله-: "هذا حديثٌ عظيمٌ تَضَمَّنَ من عظمة الباري ما لا تحيط به العقول، ولا تعبِّر عنه الألسن، أخبر فيه أن جميع الخلق سيكلمهم الله مباشرةً من دون تَرجمانٍ ولا واسطةٍ، ويسألهم عن جميع أعمالهم، خيرها وشرها، دقيقها وجليلها، سابقها ولاحقها، ما علمه العباد وما نسوه منها، وذلك أنه لعظمته وكبريائه كما يخلقهم ويرزقهم في ساعة واحدة، ويبعثهم في ساعة واحدة، فإنه يحاسبهم جميعًا في ساعة واحدة، فتباركَ مَنْ له العظمةُ والمجد، والملك العظيم والجلال. وفي هذه الحالة التي يحاسبهم فيها ليس مع العبد أنصار ولا أعوان ولا أولاد ولا أموال، قد جاءه فردًا كما خلقه أول مرة، قد أحاطت به أعماله تطلب الجزاء بالخير أو الشر، عن يمينه وشماله، وأمامه النار لا بد له من وُرودها، فهل إلى صدوره منها سبيل؟ لا سبيل إلى ذلك إلا برحمة الله، وبما قدمت يداه من الأعمال المنجية منها".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالملَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلمونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ المرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ: 38 -40].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أمَّا بَعْدُ:
مَعْشرَ الإخوةِ: إن تذكر وقوفك بين يدي الله -سبحانه وتعالى- في كل لحظة هو أعظمُ حصنٍ ومانعٍ من كثرة تَسَلُّطِ الشيطان عليك، ومن كثرة الوقوع في الحرام وغشيانها وترك الفرائض والواجبات، إن الوقوف بين يدي الله كلما تذكرته أضعفَ عندكَ داعيَ الشهوة وداعي الشبهة وداعي التقصير، كلما أكثرت التذكر أصبح حقيقةً ماثلةً في قلبكَ، تتذكر أنه سيسألك عن كل شيء، جاء عند الترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالاَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُؤْتَى بِالعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الم أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالًا وَوَلَدًا، وَسَخَّرْتُ لَكَ الأَنْعَامَ وَالحَرْثَ، وَتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلاَقِي يَوْمَكَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: لاَ، فَيَقُولُ لَهُ: اليَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي».
فكيف إذا علمت أن الله -جل وعلا- في ذلك اليوم قد غضب غضبًا يوجل منه الأنبياء والملائكة، جاء في الصحيحين، أن الناس في الموقف يذهبون إلى آدم «فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الملَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لم يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَنَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا؟ أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لم يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ نَفْسِي نَفْسِي» وكل نبي يقول مثل هذا.
فكيف إذا اجتمع مع هَوْلِ الموقف وغضب الجبار -جل وعلا- التقصيرُ والغفلة والخزايا والذنوب، نسأل الله اللطف والعافية والستر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم