عناصر الخطبة
1/من قصص اللاحقين للمتقدمين 2/ما بقي من رمضان أعظم بكثير مما مضى 3/هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخراقتباس
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَتَنَوَّعُ الْعَمَلُ فِيهِ، وَتَتَعَدَّدُ الْفَضَائِلُ الَّتِي تَعْكِسُ حَقِيقَةَ وَأَهَمِّيَّةَ وَمَزَايَا هَذَا الشَّهْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ فَهَذَا الشَّهْرُ هُوَ شَهْرُ التَّوْحِيدِ؛ يَظْهَرُ فِيهِ إِخْلاَصُ الْعَمَلِ للهِ تَعَالَى...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
أما بعد: هاجر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب، وقد اصطَبغَت جلُّ دورِها بالإسلام.
سابق أهلُ يثربَ إلى الدخول في دينِ الحق جماعاتٍ وفرادى، وسارعوا إلى نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكنَّ نزرا يسيرا من أهلِ يثربَ تخلفَ عن الركب، فأصرَّ على الإعراضِ، وطاعةِ الشيطان، والتمسكِ بدين الآباء والأجداد.
ها هم بنو عمِّهم من الأنصار يرتقون بالإسلام، يتزكون بأخلاقه، يعتلون بشعائره، ويرتقون درجاتِ الجنان بصالحِ العلم والعمل. وأما ذلك النزرُ اليسيرُ فلا يزال متردياً بالانحطاطِ في الدركات، معرضاً عن الصعود في الدرجات.
وفي يومٍ من الأيام تشتعلُ إحدى معاركِ المسلمين، فتثور في أحدِ أولئك المتخلفين مكامنُ الخير، وتندلعُ شرارةُ الإيمان، فيُسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يحكي البراء بن عازب رضي الله عنه ذلك الموقف فيقول: أَتَى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بالحَدِيدِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قالَ: "أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ". فأسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "عَمِلَ قَلِيلًا، وأُجِرَ كَثِيرًا". نعم تأخرَ طويلاً، لكنه أدرك خيراً كثيراً! نعم عمل قليلاً، لكنه أدرك من الله فضلا ًكبيراً.
العبرةُ من هذه القصة هي أنك أن تصلَ متأخرا خيرٌ من ألا تصل! وأنك إن لحقتَ بالركبِ فإنه حتى لو فاتك الكثير، فسيعوضك اللهُ ما هو أكثرُ من فضله العظيم.
هذا أبو خيثمةَ الأنصاريُّ رضي الله عنه! تخرجُ الجموعُ مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى تبوك في شدةِ الحرِّ لملاقاة الرومِ إحدى القوى العظمى في عالمِ ذاك الزمان. تهيب أبو خيثمةَ من الموقف، وتكاسل عن الخروج إلى الغزو، فتخلف عن الركب أياما وليالي.
وفي لحظة صفاء، صحى قلبُه، وفاق عقلُه، فركب راحلتَه وسافر وحيداً حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحين اقترب منه رأى رسول الله عليه وسلم: "رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ به السَّرَابُ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ. فَإِذَا هو أَبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ". ففرح به النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا له بخير وكُتبَ في تلك الغزوة من المجاهدين ولم يُكتب من المتخلفين. نعم وصل متأخرا لكنه أدرك الفضلَ ونال الأجر.
وهذا العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه! تأخر عن الهجرة ثمانِ سنين، حتى تحرك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من المدينة لفتح مكة، فخرج العباس مهاجرا ولحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريقه إلى مكة قبل أن يدخلها، فأدرك العباس فضل الهجرة في آخر اللحظات وكُتبَ من المهاجرين. نعم وصل متأخرا لكنه أدرك الفضل ونال الأجر.
عباد الله: ها قد انتصف رمضان! وها هو قد تصرمت أيامُه وذهبت لياليه، ومضى أكثرُ من نصفه.
كثيرٌ منا قد قصَّر في سالفِ أيام رمضان، منا من كان منغمساً في المعاصي والمحرمات، منا من كان مقصرا في كثيرٍ من الطاعات، ولكل هؤلاء نقول: أدرك فإنك أن تصل متأخراً خيرٌ من ألا تصل. أدرك فإنه حتى لو فاتك الكثير، فسيعوضك الله ما هو أكثرُ من فضله العظيم.
معاشر المسلمين: في حساباتنا البشرية، ما بقي من رمضانَ أقلُّ مما مضى. أما بالحساباتِ الربانيّةِ فما بقي من الشهر لهو من الله أعظمُ بركةً، وأكثرُ إحسانا، وأشدُّ تضعيفا وإكراما.
بقيت أيامٌ من أواسطِ رمضان، وتلك واللهِ أيامٌ وليالٍ عظيمةٌ جليلةٌ لا يستهان بها، كم تعتق فيها من رقاب؟! وكم تُحَطُّ فيها من آثام؟! وكم تُكتنزُ فيها من الأجور؟!
ثم بعد تلك الليالي الفاضلةِ ستدخل علينا ليالي العشرِ المباركاتِ بخيراتِها وفضائلِها. ستدخل علينا العشرُ وفيها ليلةُ العمر، وأجلُّ ساعات الدنيا. فيها ليلةُ القدر، وما أدراك ما ليلةُ القدر! هي الليلةُ التي وصفها الله بالليلةِ المباركة، لكثرةِ ما فيها من البركة والخير (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ).
هي الليلةُ التي أضاء فيها العالم بإنزالِ القرآن (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
هي الليلةُ التي يحصل فيها التقديرُ السنوي، فيقدر الله فيها مقاديرَ العام (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)
هي الليلةُ التي يكون فيها الملائكة كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الملائِكةَ تلْكَ الليلةَ في الأرْضِ أكثَرُ من عدَدِ الحَصَى"، وذلك مصداقا لقول الله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).
ولذلك كان أجرُ تلك الليلة (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، يعني أن أجرَ من تعبّد الله في ساعاتِها القليلة المعدودة، فإنه سيحصل على أجرِ من يعبدُ الله في أكثر من ثلاثٍ وثمانين سنة يقضيها كلُّها في عبادة الله. فضلٌ وإنعامٌ وبركاتٌ من أكرم الأكرمين وأجود الأجودين؛ فهل تحركت نفسك لتنالَ من بركاتها، وتنهلَ من خيراتِها؟!
فإن كان هذا حالُك فاعلم أن خيرَ من استثمرها، وخيرَ من عبد الله فيها هو نبيُّنا وحبيبُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم. فالزم غَرْزَه، وتلمَّس خطاه، واتبِع هديَه.
كان من هديِه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يتحرّى تلك الليلة في العشرِ الأواخرِ من رمضان، بالاجتهاد في الطاعة والعبادة، تقول زوجه عائشة رضي الله عنها: "كانَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ". وتقول رضي الله عنها: "كان إذا دخَل العشرُ أيقَظ أهلَه وأحيا ليله وشدَّ مئزره -أي اعتزل النساء-"، الوقت وقتُ الجدِّ لا وقتُ اللهوِ واللعب، ولا وقتُ الكسلِ والهزل.
كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ كاملة، من غروب شمس أول لياليها إلى انقضائها بإعلان ليلة العيد، وذلك ليكون مغتنماً كلَّ لحظةٍ من لياليها بمكثِه في المسجدِ الذي هو بيتُ الله، واللهُ أكرم الأكرمين، وضيوفُه في بيتِه هم أجدرُ الناس بالإنعامِ والتكريم.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- الاجتهادُ في قيامِ تلك الليالي الفاضلة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحيي لياليها كلَّها فلا ينام فيها أبدا، وذلك ليغتنمَها بالقيام والتبتل لله العظيم.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يرغبُ أصحابَه في قيامِ ليلةِ القدرِ ويقول لهم: "مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ".
وكان يوصي فيها بالدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ : يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إنْ علِمتُ أيَّ ليلةٍ هي ليلةُ القدرِ، ما أقولُ فِيها؟ قال : قُولي : "اللهمَّ إنكَ عفوٌ ، تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي".
وأما علاقتُه بالقرآنِ فقد كانت مستمرةً، وكان جبريلُ يدارسه القرآنَ في كل ليلةٍ من لياليها كما هو الحال في كل ليالي رمضان.
تلك هي الأعمال التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعملها في العشر، فهي أعظمُ ما يؤهلك لتنال عظيمَ أجر ليلة القدر، وتحقيقَ الفوز فيها، فاعمل فيها بما استطعت واستعن بالله ولا تعجز.
ولا يقتصر العمل على تلك الأعمال، فكل عمل صالح تعمله فيها مهما كان، فالأجرُ مضاعف، وكرمُ الكريم حاضر، لا يحصيه المحصون ولا يعدُّه العادّون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر:1-5].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رمضان: "للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ من حرمَ خيرَها فقد حُرِم".
ليلةُ القدر قد تكون بالنسبة لك هي ليلةُ العمر، ليس فقط على ما ستحصّله من الحسنات المضاعفات، وإنما لما قد تحدثه فيك من تحوُّلِ الحال، وحسنِ الإقبال، وقربِ الكريم المنان؛ فيا تُرى هل ستكون العشرُ الأواخر، وتلك الليلة هي نقطةُ التحول، وتعديلِ المسار؟!
نعم يمكن ذلك بإذن الله، وذلك لمن أقبل فيها فتابَ من ذنوبه، وتحررَ من قيوده، وأقبلَ على ربه، وسارعَ فيما بقي من شهرَه.
إخواني في الله: السباقُ في آخرِ مراحلِه، وختامِ لحظاتِه؛ فسارعوا وسابقوا، وجِدُّوا واجتهدوا، وعند الصباح يحمد القومُ السُّرى.
اللهم تقبل منا ما مضى، ووفقنا وأعنا فيما بقي.
اللهم بلغنا ليلة القدر، واكتب لنا فيها أوفر الحظ والنصيب.
اللهم اجعلنا فيها من الفائزين، اجعلنا فيها من الموفقين، اجعلنا فيها من المقبولين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم