عناصر الخطبة
1/ القلوب تأتلف على محبة داود عليه السلام 2/ تغير قلب طالوت على داود 3/ تفاصيل الأزمة بين طالوت وداود 4/ بنو إسرائيل يبايعون داود ملكًا 5/ شجاعة داود عليه السلام وإلانة الحديد له 6/ قصة تحكيم داود عليه السلام بين الخصميناقتباس
عندما نصر الله عز وجل طالوت وقتل داود جالوت، ائتلفت على محبة داود القلوب، وأصبح بين عشية وضحاها حديث القوم، أما طالوت فقد وفى بشرطه وبر بوعده، فزوجه ابنته وأحلّه بين نفسه وقلبه، وأضحى موضع نصحه وسره، وجمعت بينهما أواصر نسب، وألفت بينهما غاية من جهاد، فتهيأ لداود بذلك فتح مبين ونصر كبير، وذلك ..
الحمد لله رب العالمين، يمكّن لمن يشاء من عباده المؤمنين، ويمدهم بعونه ونصره وتوفيقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واحمدوه واشكروه، اشكروا الله على أن هداكم للإسلام وما كنتم لتهتدوا لولا أن هداكم الله.
عباد الله: عندما نصر الله -عزّ وجل- طالوت وقتل داود جالوت، ائتلفت على محبة داود القلوب، وأصبح بين عشية وضحاها حديث القوم، أما طالوت فقد وفى بشرطه وبر بوعده، فزوجه ابنته وأحلّه بين نفسه وقلبه، وأضحى موضع نصحه وسره، وجمعت بينهما أواصر نسب، وألفت بينهما غاية من جهاد، فتهيأ لداود بذلك فتح مبين ونصر كبير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولكن القلوب مهما تكن صافية لا يؤمن على الدهر كدرها، ولا تبقى على مر الأيام على نقائها، فقد أصبح داود يومًا فإذا طالوت عابس الوجه متغير على داود، ابتسامته تكلف، وقوله تحفظ، وحديثه ينم عن حقد وافر، فماذا غيّر من قلبه ومن صفاء مودته؟! وما عسى الواشي أن يكون قد بلغ عنده؟! ألم يكن داود ولا يزال سيفًا سلّه الله حديدًا قاطعًا مظفرًا في الحرب مباركًا في ساحة القتال؟! أليس درعه الذي صد به الأعداء؟! أليس صهره وراعي ابنته؟! وهو مخلص الوفاء لها؟! فما الذي غيّر طالوت عليه؟! قال داود: لعله خاطر متردد، ومزاج متعكر، لا يلبث أن يصفو ويلين.
وضمه مع زوجه واسمها ميكال ليلٌ ظلامُهُ طويل، فأخبرها أن والدها متغير عليه، عابس الوجه ضائق الصدر، فهل عندك شيء مما رأيت؟!
فقالت ميكال -بآهٍ حبيسة، وذرفت دمعة ساخنة-: لست أكتمك يا داود شيئًا أعلمه، إن أبي منذ رأى القوم من بني إسرائيل ويكنون لك في نفوسهم حبًا وإجلالاً، ومنذ رأى كلمتك بينهم تعلو، ومنذ رآك تنتقل من ظفر إلى ظفر، ويجيئك النصر يتبعه النصر، خشي على ملكه من نفوذك، وخاف على نفسه من سلطانك.
والملك صاحبه أبدًا يشك في بطانته ويشفق عليه حتى في صفوفه وخلصائه، فهو لذلك يأخذ بالظن، ويتهم بالحدس، ويعاقب لمجرد الإشفاق.
وأبي -وإن كان مؤمنًا خالص الإيمان وافر العلم- كغيره تنتابه هواجس الملوك، وقد علمت أخيرًا -وإن لم أكن أجزم بصحة ما علمت- أنه يفكر في التخلص منك والقضاء على سلطانك والقص من جناحك، والرأي عندي أن تأخذ بالحزم نفسك وتتحوط لحياتك، فإن كان ما توقعته حقًّا ظفرت بالسلام، وإن كان بعيدًا لم يضرك الحزم شيئًا.
قال داود وقد أشجاه ما سمع: ما أنا إلا جندي مقاتل تحت راية السلطان، ومؤمن أدافع عن بيضة الإيمان، ولعل ما دخل على طالوت من وسوسة الشيطان أو تسويل النفس الأمارة بالسوء، وربما أخزى الشيطان وقهر هواه ثم أغمض أجفانه على نوم هادئ كأنه لم يعرف من دخيلة نفس طالوت شيئًا.
واستيقظ داود يومًا على دعوة طالوت ومثُل أمامه، فقال له: يا داود: إن بي اليوم همًّا ناصبًا، وأمرًا حازمًا، وقد بلغني اليوم عن كنعان أنهم عادوا فجمعوا جموعهم وألفوا أحزابهم، فقوي أمرهم وأصبح متوقعًا شرهم، وليس لي عون إلا بك، وليس لهذا الأمر سواك، فخذ سيفك واختر من ترى من جندك، واذهب إليهم وإياك أن تعود إلا منصورًا يسيل سيفك بدماء أعدائك أو مقتولاً محمولاً على أعناق رجالك.
وحسب طالوت أنه كُفي أمر داود على الرغم من أمر صاحبه واختلاط إرادة الشر بإرادة الخير في دعوته، أطاع طالوت وذهب إلى الكنعانيين مقاتلاً بسيفه مرخصًا حياته، لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، ولا يعبأ أيخرج من الحرب سليمًا معافى أم تفلت الحياة من بين جنبيه، ولكن الله -عز وجل- كتب لداود النصر وعاد مظفرًا إلى طالوت، فما زاده ذلك إلا غيظًا وحنقًا وكرهًا، فأضمر له القتل، وبيّت النكال، وعلمت ابنته -زوج داود- وبما أضمر عليه أبوها، وما يراد بزوجها، فذهبت إلى داود حزينة خائفة: أن انجُ بنفسك واهرب بحياتك، وإلا أكسبتني حسرة بموتك وضاعف همي بمصرعك، فما وجد داود بدًا من الهرب والاغتراب، واتخذ الليل جملاً، وهرب طريد الحسد والحقد، عامر القلب بالإيمان، عظيم الثقة بالله -عز وجل-، وانتهى إلى مغارة أوى إليها وألقى بهمومه فيها، وفزع إليه إخوته وعلم بمكانه مريدوه من بني إسرائيل، فهرعوا إليه جماعات.
أما طالوت فقد ضعف أمره في قومه، وكثر الخارجون عليه والهاربون من جنده، وخاف العاقبة، فأعمل عمل السيف، وعاقب بالظن، وأخذ البريء بذنب المسيء، والمؤمن بذنب العاصي، ثم آذى العلماء القراء، وهم طائفة من علماء بني إسرائيل، وأبقى الرعب في قلوب الجنود، واستوى له بذلك جيش محاط بالقوة، عليه سياج بطش وجبروت، ولكن داود لا يزال حيًّا ينافسه في ملكه ويتحداه في قومه ولا يأمنه على نفسه، ولا زال مُريدًا له الشر، إذًا فلينهض لحربه، وليتهيأ لقتاله مهما يقف في سبيله من عقبات.
وخرج داود من مغارته يتحسس أمر طالوت، فإذا هو قد انتهى إلى داود ومعه جماعة من جنده وشيعته وقد رقدوا لما أصابهم من تعب وجهد، فمشى داود وئيدًا -أي خفية- حتى استلَّ رُمح طالوت من بين جنبيه، وعاد ونهض طالوت من نومه يتفقد رمحه ويبحث عمن أخذه منه، وبينما هو حائر مضطرب أتاه رسول داود يقول: هذا رمحك وقد مكّن الله لداود من رأسك، ولكنه كان أعز نفسًا وأكرم قلبًا وأدنى إلى الله إيمانًا.
ونالت كلمات رسول داود من نفسه، ولمست مكان الإحساس من قلبه، فأخذته عبرة من الأسى، ونالته حرقة من الندم، ورجع باكيًا مستعرًا على أنه قد غدر بداود، وما كان أهلاً للغدر، وقتل العلماء والقراء، وما استحقوا القتل، فما يفعل غدًا بين يدي رب السماوات والأرض!!
فرجع أدراجه، ثم هام على وجهه ومضى في الفلوات والصحارى يُعلن الندامة وينشد من الله -عز وجل- التوبة، حتى وافاه الأجل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما بنو إسرائيل فقد هرعوا جميعًا إلى داود مبايعين، وقوى الله ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، قال الله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، وجعلنا ممن يتعظ بما في كتاب الله من قصص عظيمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله.
ومتابعةً لسيرة داود -عليه السلام- فإنه نشأ فارسًا شجاعًا وباسلاً يقوم على أخطر الأمور، ويحمل المعضلات، بارَزَ أقوى العتاة فنصره الله عليهم، فأصاب من البطولة ما خلدته صفحات تاريخه الناصع النقي، ثم إن الله -عز وجل- علّمه الصناعة، فكان من أمهر من يصنع الدروع من الحديد لباسًا، قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء:80] ، ألان له الحديد، وهيّأ له القدرة لكي يذيبه ويعمل منه دروعًا واقية تجعل المقاتل لا تؤثر عليه ضربات السيوف ولا طعنات الرماح، وكان نبيًّا فارسًا قويًّا بارعًا لله، كثير التسبيح، يردد تسبيحه فيهرع الناس إلى سماعه، ينعمون بأشجى صوت وأجمل ترتيل.
وقد قسم أوقاته أربعة أقسام؛ قسم لنفسه، وقسم لعبادة ربه، وقسم للفصل والقضاء بين الناس، وقسم لقومه يعظهم ويرشدهم إلى سواء السبيل.
وداود كذلك ملك ونبي، أقام على منازله الحراس والجند، وله طريقته العادلة، وفي يوم دخل عليه رجلان لهما صفات وخلقة الرجال، إلا أنهما يختلفان عن قومه، فقومه تعودوا أنظمة ملكه فأطاعوها، راضين مختارين، أما هما فدخلا عليه بطريقة مخالفة غير مألوفة، دخلا على داود في غير وقت القضاء ومقابلة الناس، لم يستطع الحراس أن يمنعوهما عن مقابلته، وما كانوا يقدرون على ذلك، فهما -فيما اتضح لداود فيما بعد- ملكان من الملائكة تسورا المحراب -أي مكان تعبد داود-، ففزع منهما وقد رآهما بين يديه جالسين بغير إذن ولا تصنع، فقالا له: (لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) [ص:22].
استعد داود لسماعهما والحكم بينهما، فإذا أحدهما يقول: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، ولكن أخي امتدت به أطماعه وهواه فقال: أعطنيها، وغلبني عندما ناقشته، وأفحمني جداله وحجته؛ لأنه أفصح مني لسانًا وأقوى حجة وبيانًا، تلفّت داود إلى الرجل الآخر فاستوضحه الأمر وسأله رأيه فيما يقول خصمه، فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة وله نعجة واحدة، فأردت أن آخذها حتى تكمل مائة نعجة.
فقال داود: أو أخوك يكره ذلك؟! قال: نعم، فاستشاط داود غيظًا وقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [ص:24]، انصرف الملكان بعد ذلك ثم أخذ داود يفكر في الحدث العظيم الذي تمثل أمامه، وفي هذا التصور المفاجئ والمباغتة التي لم يكن يفكر فيها، فأدرك بفطرته السليمة أن ذلك درس من الله تعالى وعبرة له ليراجع نفسه ويغير موقفه من تأجيل قضايا الناس، فلا يتركهم على ضجر وانتظار، وأن لا يعتزل عن الناس، وأن يعدل بينهم في قضائهم، قال تعالى: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ) [ص24 :25].
فالله -عزّ وجل- حاسب داود على فعله مع أنه نبي كريم، فلنحاسب نحن أنفسنا في كل وقت.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم