عناصر الخطبة
1/ أمراض القلوب تفوت مصالح الآخرة 2/ اهتمام الناس بمداواة أمراض أبدانهم دون قلوبهم 3/ مظاهر قسوة القلب 4/ أسباب قسوة القلب 5/ الإيمان يزيد وينقص 6/ صفة القلب اللين 7/ دلائل لين القلباقتباس
ومن العجب أن يعالج الناس من أمراض الأبدان ما لا يعالجون نصيفَه من أمراض القلوب، وأن تراهم لأمراض أبدانهم أشدَّ حذرًا منهم لأمراض قلوبهم، أما المؤمن فيحذر الأمراض كلها، وهو لأدواء قلبه أشد حذرًا من أولئك لأدواء أبدانهم ..
أيها الأحبة في الله: للأبدان أمراضٌ يُرجى شفاؤها، فإن لم يُرجَ شفاؤها رُجي للصابرين عليها عظيمُ الأجر في الآخرة، وتلك عاقبة أمراض الأبدان، لا يفوت بها إلا مصالح دنيوية عاجلة، أما مصالحُ الآخرة مما أعده الله للمؤمنين من الأجر والمثوبة والمغفرة، فإنها إن لم يُدركها المؤمن بعمله وهو صحيح، أدركها بنيته الصالحة، ما حبسه عنها إلا المرض، وفي ذلك أعظم العزاء للمؤمن.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لما رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ودَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ َقَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا؛ إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟! فقال: "وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؛ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ".
وفي الحديث: "من سأل الله الشهادة بصدق، بَلَّغه الله منازلَ الشهداء، وإن مات على فراشه"، قال أهل العلم: ملاك هذه الأعمالِ بالنيات، فإن الرجلَ يبلغُ بنيته الصادقة ما لا يبلغ بعمله.
أما أمراض القلوب فعلى نقيض ذلك تمامًا؛ فإن المرء يُدرِك بها من مصالح الدنيا وحطامها ما لا يُدركه سليمُ القلب؛ ولكن يفوته بأمراض قلبه من مصالح الآخرة ومثوبتها أضعافُ ما حصله من مصالح الدنيا.
وما حصّله مريضُ القلب من شهوات الدنيا العاجلة لم يكن ليَعْجَزَ عنه سليمُ القلب لولا إيمانٌ يحجزه، وتقوى تردعه.
ومن العجب أن يعالج الناس من أمراض الأبدان ما لا يعالجون نصيفَه من أمراض القلوب، وأن تراهم لأمراض أبدانهم أشدَّ حذرًا منهم لأمراض قلوبهم، أما المؤمن فيحذر الأمراض كلها، وهو لأدواء قلبه أشد حذرًا من أولئك لأدواء أبدانهم.
يعاني كثيرون تثاقلاً في القيام إلى الطاعة، ونفرةً أو تململاً عند قراءة القرآن، وغفلةً أو صدوفاً عن ذكر الله –جل جلاله-، هذا فضلاً عن ضياع الخشوع في العبادة والتدبرِ عند التلاوة، وإنما يشكو هؤلاء -في واقع الأمر- قسوةً سيجدونها في قلوبهم لو كانوا يشعرون، فمعالجة ذلك التثاقل والتململ والغفلة والصدوفِ عن ذكر الله وطاعته إنما يكون بمعالجة ما يجدونه في نفوسهم من قسوة.
قسوة القلب من أشد أدواء القلوب، وبسببها أوغل كفرةُ بني إسرائيل في الإجرام، فكانت قسوةُ القلب من أشهرِ ما عرفوا به: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة: 74]، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد: 16].
والقلب إذا اشتدت عليه القسوة صار كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، وصار صاحبه لا يتمعر وجهه إذا انتهكت محارمُ الله بمعروف يُترك، أو مُنكر يُجهَرُ به، ولذا قال أهل العلم: ما ضُرب المرءُ بعقوبةٍ أشد من قسوة القلب.
قسوة القلب إنما هي ضَعفٌ ورِقةٌ في الإيمان، من أعظم أسبابها الإسرافُ في المعاصي، بل قسوة القلب عقوبة من أشدِّ العقوبات على الإسراف في المعاصي والتفريطِ في جنب الله، كما قال تعالى عن اليهود: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) [النساء: 155].
كما يدل على ذلك قوله –جل جلاله-: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]، وجاء في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكِتَ في قلبه نكتةٌ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقلت، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو فيه، فهو الران الذي ذكر الله -جل وعلا-: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)". أخرجه أحمد والنسائي والترمذي بسند صحيح.
يقول الحسن البصري عن هذا الران: هو الذنب على الذنب؛ حتى يعمى القلب، فيموت.
ولذا توعد الله القاسية قلوبهم بالويل فقال: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22].
أيها الأحبة في الله: إن من القواعد المتقررة عند أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وكلما نقص الإيمان في القلب قسا وصار أبعدَ عن الخشوع والقيامِ بالحقوق، وإذا كانت قسوة القلب ضعفًا في الإيمان، فإن معالجتها تكون بمجاهدة النفس بترويضها على الطاعة وزجرها عن المعصية، وتلك هي التوبة النصوح.
ولذا فإذا رأيت من قلبك قسوةً فتفقد عملك؛ فإنما القسوة عاقبة الإسراف في المعاصي والتفريط في الفرائض.
فمن عوّد نفسه الطاعةَ هان عليه بعد ذلك التزامُها، وصار يجد في نفسه وحشةً إذا تركها أو نسيها، ومن ترك لذة المعصية لله عوَّضه الله بلذةٍ يجدها في الطاعة، وأُنسًا يجده في العبادة.
لا أقول هذا رأيًا أجتهده من تلقاء نفسي، ولكنها حقيقةٌ مُستوحاةٌ من القرآن، ألم تقرؤوا قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23].
والقلب اللين: هو الذي إذا سمع موعظة تأثر، فأقبل على ربه وأعرضَ عما سواه، وأحدثت فيه مواعظ القرآن والسنة خشوعًا وخضوعًا وخوفًا ورغبة ورهبة، وساقته إلى حيث هدايتُه وفلاحُه.
ومن أعظم دلائل لين القلب ورِقتِه اطمئنانُه إلى الخير، وقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]، وقد دعا الله عباده المؤمنين إلى ذلك في قوله –جل جلاله-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد: 16].
قال بعض السلف: إن الإيمان في كتاب الله آل إلى العمل؛ فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2]، ثم صيرهم الإيمان ولين القلب ووَجَلُه إلى العمل؛ فقال تعالى في الآية التي بعدها: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) [الأنفال: 2، 4].
إن قلوب المؤمنين تطمئن بذكر الله، وهي كذلك توجل عند ذكره سبحانه، ولا تناقض بين الشعورَين؛ فهي تسكن بالقرآن ويستقر فيها اليقين، والسكون يكون باليقين والتصديق، والاضطراب يكون بالشك، أما وجلها فهو إذا ذُكِّرتْ وعيدَ الله وشدةَ حسابه، ولذا قيل: الوجل عند ذكر الوعيد، والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب.
والمقصود أيها الأحبة: أن علاج ما نعانيه من قسوة ونفرة عن الطاعة إلى المعصية بأيدينا فلا نستجدها من غيرنا، فلنستعن بالله سبحانه؛ فهو نعم المعين على الطاعات، ولنلجأ إلى حماه ونُلحَّ في دعائه استعانة به والتجاءً، ولنعود أنفسنا على التزام فرائض الله والوقوف عند حدوده، ولا ننس في هذا أمرًا يعين على ذلك ولكننا نستهين به وهو هين، ألا وهو ذكر الله تعالى؛ جاء إلى الحسنِ البصري -رحمه الله- رجلٌ فقال: يا أبا سعيد: أشكو إليك قسوةَ قلبي، قال: أَذِبْهُ بالذِّكر.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم