عناصر الخطبة
1/ حادثة الهجرة النبوية 2/ الحكمة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم 3/ الهجرة نوعان 4/ حكم الهجرة وموقفنا منهاقتباس
إن من الناس اليوم من لا يعرف عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنها ذكرى تمر كل عام وتقام بمناسبتها احتفالات وخطب ومحاضرات لمدة أيام تنتهي وتنسى إلى مرور تلك الأيام من السنة القابلة دون أن يكون لذلك أثر في سلوكهم وعملهم، ولذلك تجد بعضهم لا يهاجر من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، بل على العكس فإن الكثير منهم ينتقل من بلاد الإسلام إلى بلاد المشركين لا لشيء إلا للترفه والعيش هناك بحرية بهيمية ..
الحمد لله رب العالمين، شرع الهجرة ووعد المهاجرين إليه أجراً عظيماً فقال في كتابه العزيز (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : 100]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا)[الأنفال: 72]. وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وادرسوا سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم واقتدوا به، فقد أمركم الله بذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).[الآحزاب: 21]
ومن أعظم وقائع السيرة النبوية قضية الهجرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد عليه أذى المشركين بمكة صار يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج ويطلب منه أن تحميه وتناصره حتى يبلغ رسالة ربه، فلم يجد من يجيبه حتى حج نفر من الخزرج من أهل المدينة وكان جيرانهم من اليهود يحدثونهم عن مبعث رسول الله قريب ويتوعدونهم أنهم سيكونون معه فيقاتلونهم كما قال الله تعالى عن اليهود: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة: 89] أي: كان اليهود قبل مجيء الرسول يستنصرون به على أعدائهم ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل كعادته في موسم الحج، وصادف نفراً من الخزرج، ففرحوا به، وقالوا: هذا النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقوكم إليه؛ فآمَنوا به وبايَعوه وانصرَفوا إلى قومهم بالمدينة، فأخبروهم؛ فآمن من آمن وقدموا في العام الثاني للحج وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة على الإيمان به ومناصرته إذا هو هاجر إليهم، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لبعض أصحابه بالهجرة إلى المدينة.
ولما أراد أن يلحق بهم أراد المشركون منعه؛ مخافة أن تقوى شوكته ويظهر دينه ويتغلب عليهم، فاجتمعوا وتشاوروا في شأنه فاتفق رأيهم على قتله واجتمعوا عند بابه ينتظرون خروجه؛ ليقتلوه، فأخبر الله نبيه بمكيدتهم فأمر علياً رضي الله عنه أن يبيت على فراشه فخرج من بينهم ولم يشعروا به، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه ووجده قد أعد راحلتين للسفر واستأجر دليلاً، فخرجا من مكة مختفيين، وذهباً إلى غار ثور ودخلاه واختفيا فيه ودفعا الراحلتين للدليل وواعداه أن يأتي بهما في وقت محدد.
ولما علم المشركون بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الذي على الفراش هو علي بن أبي طالب غضبوا غضباً شديداً ونفروا يلتمسون النبي صلى الله عليه وسلم في كل وجه، وجعلوا لمن يأتي به الأموال الطائلة، قال الله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]
وأمر الله عنكبوتاً فنسجت على باب الغار وحمامة فرخت، فيه وعندما وصل المشركون إلى باب الغار ووقفوا عليه حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله: لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" وفي ذلك يقول الله عز وجل: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. [التوبة:40]
ولما رأى المشركون عش العنكبوت أيسوا من وجود النبي صلى الله عليه وسلم في الغار حتى قال أحدهم: إن هذا العش موجود قبل أن يولد محمد وانصرفوا خائبين صاغرين.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار أياماً، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما خفية بأخبار المشركين، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى غنماً ويمر بها عليهما فيحلبان من لبنها، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام خفية في المساء، فلبثا في الغار ثلاثة أيام حتى انقطع الطلب، فجاء الدليل بالراحلتين على الميعاد فركبا وتوجها إلى المدينة.
وكان الأنصار رضي الله عنهم ينتظرونهما بفارغ الصبر كل يوم إلى أن وصلا بسلامة الله وحفظه إلى المدينة، وهناك اجتمع المهاجرون والأنصار وتكونت الدولة الإسلامية، وأمر الله رسوله بالجهاد لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فواصل صلى الله عليه وسلم الغزوات والسرايا ونصره الله وأظهر دينه حتى دخل مكة عام الفتح معززاً منصوراً تحف به رايات المهاجرين والأنصار، وأزال ما على الكعبة المشرفة من الأصنام، ودخلها وكبر الله فيها ثم خرج إلى قريش وكانوا قد اجتمعوا في المسجد الحرام ينتظرون ماذا يفعل من العقوبة، فقال: "يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم- قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته (قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف :92] اذهبوا فأنتم الطلقاء".
عباد الله: هكذا كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لأجل نصرة دين الله وإعلاء كلمته ليس القصد منها الرفاهية وراحة البدن والتنعم، وهكذا تكون هجرة المؤمنين إلى آخر الزمان فهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها لمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، وإظهار الدين معناه الجهر به والدعوة إليه وبيان بطلان ما عليه الكفار، وليس معنى إظهار الدين أن يترك الإنسان يصلي ويتعبد ويسكت عن الدعوة إلى الله وإنكار الشرك والكفر؛ لو كان كذلك لبقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؛ لأن المشركين لم يمنعوه أن يصلي ويتعبد ولكنهم منعوه من الدعوة إلى الله وإبطال ما عليه الكفار والمشركون.
عباد الله: إن من الناس اليوم من لا يعرف عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنها ذكرى تمر كل عام وتقام بمناسبتها احتفالات وخطب ومحاضرات لمدة أيام تنتهي وتنسى إلى مرور تلك الأيام من السنة القابلة دون أن يكون لذلك أثر في سلوكهم وعملهم، ولذلك تجد بعضهم لا يهاجر من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، بل على العكس فإن الكثير منهم ينتقل من بلاد الإسلام إلى بلاد المشركين لا لشيء إلا للترفه والعيش هناك بحرية بهيمية.
إن ذكرى الهجرة يجب أن تكون على بال المسلم طول السنة لا في أيام مخصوصة؛ فإن تحديد أيام مخصوصة للاحتفال بمناسبة الهجرة النبوية أو لتدارسها.. إن هذا التخصيص بدعة (وكل بدعة ضلالة) فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا القرون المفضلة من بعدهم يخصون هذه المناسبة باحتفال يتكرر كل عام، وإنما كان السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان يدرسون سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم للاقتداء بها غير متقيدين بوقت معين.
ثم إن الهجرة هجرتان: الهجرة الأولى: هجرة قلبية إلى الله بعبادته وحده لا شريك له، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم باتباعه وفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه كما قال صلى الله عليه وسلم: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". وهذه الهجرة ملازمة للمسلم طول حياته لا يتركها أبداً.
والهجرة الثانية: هجرة بدنية وهي تتضمن الهجرة القلبية، وهذه الهجرة هي الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام وهذه الهجرة تجب عند الحاجة إليها إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه في بلاد الكفر.
فاتقوا الله -عباد الله- وادرسوا سيرة نبيكم واستفيدوا من أحداثها العبرة والقدوة (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران :132]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم