عناصر الخطبة
1/ الخلاف أمر حتمي قدري 2/ موقفان تربويان عظيمان 3/ تحليل تربوي لموقف الأنصار من غنائم حنين 4/ تحليل موقف حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكةاقتباس
وإن من أخطر أنواع الخلاف ما يكون داخل الصف الإسلامي، وأعني بالصف الإسلامي العمل الإسلامي بجميع عناصره، ذلك الصف الذي يعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، ويسعى لهدف سامٍ هو تحكيم الإسلام في الأرض ونشره، الصف الذي فيه أو يفترض مجموعة من خِيرة المجتمع عقائدياً، وأخلاقياً، وعلمياً، وفكرياً، لهو في حاجة ماسة لمستوى رفيع في حل خلافاته.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: الخلاف أمر حتمي قدري لابد من وقوعه، سواء كان الخلاف على مستوى الأفراد أم الجماعات أم الحركات أم الجمعيات أم الدول أم غيرها. وإن من أخطر أنواع الخلاف ما يكون داخل الصف الإسلامي، وأعني بالصف الإسلامي العمل الإسلامي بجميع عناصره، ذلك الصف الذي يعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، ويسعى لهدف سامٍ هو تحكيم الإسلام في الأرض ونشره، الصف الذي فيه أو يفترض مجموعة من خِيرة المجتمع عقائدياً، وأخلاقياً، وعلمياً، وفكرياً، لهو في حاجة ماسة لمستوى رفيع في حل خلافاته.
لابد من وقوعه، سواء كان الخلاف على مستوى الأفراد أم الجماعات أم الحركات أم الجمعيات أم الدول أم غيرها. وإن من أخطر أنواع الخلاف ما يكون داخل الصف الإسلامي، وأعني بالصف الإسلامي العمل الإسلامي بجميع عناصره، ذلك الصف الذي يعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، ويسعى لهدف سامٍ هو تحكيم الإسلام في الأرض ونشره، الصف الذي فيه أو يفترض مجموعة من خِيرة المجتمع عقائدياً، وأخلاقياً، وعلمياً، وفكرياً، لهو في حاجة ماسة لمستوى رفيع في حل خلافاته.
إن هذه القضية تعد من أهم وأخطر قضايا العمل الإسلامي، وتحتاج لدراسة متأنية توضع لها الأسس والثوابت والآليات حتى تكلل الجهود بالنجاح، وتؤتي أفضل النتائج، وحتى توحد الصفوف والجهود فلنتدارس سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ونأخذ منها العبر والعظات لتكون لنا نبراساً يضيء الطريق.
أيها المسلمون: سنتحدث هنا عن موقفين للنبي -صلى الله عليه وسلم- لنرى كيفية تعامله الأمثل لحلهما، ووضعه للأسس الصحيحة التي يُحلّ عليها الخلاف. ويبقى على العلماء والدعاة والمربين الاستفادة من هذه الأسس، وتأصيلها في النفوس، ونشرها.
الموقف الأول: موقف بعض الأنصار من غنائم حنين، ووجدهم في أنفسهم من توزيع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعطائه الجزيل لقريش وبعض قبائل العرب، وعدم إعطائهم منها، حتى قالوا: "إن هذا لهو العجب؛ يُعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم".
لما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله: إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لِـمَا صنعت في هذا الفيء الذي أصبت: قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟!"، قال: يا رسول الله: ما أنا إلا من قومي، قال: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة"، قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يا معشر الأنصار: ما مقالة بلغتني عنكم، وجِدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟! وعالة فأغناكم الله؟! وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟!"، قالوا: بلى لله ورسوله المنُّ والفضل، ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟!"، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟! لله ولرسوله المنُّ والفضل. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقْتم ولصُدّقتم: أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوَجدتم -يا معشر الأنصار- في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون -يا معشر الأنصار- أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً، وسلكت الأنصار شِعباً لسلكت شِعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قَسَماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا.
أيها المسلمون: لقد اتبع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حل هذه القضية منهجاً غاية في الرقي والسمو والشفافية، ولا بد لنا من وقفات مع هذا المنهج الفريد لنتعلم كيف يُحل الخلاف مهما كان حجمه، فالموقف جد خطير، أن يجد بعض الصحابة في أنفسهم من فعل للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهم الذين آمنوا به وصدقوه وناصروه، ولكنها الطبيعة البشرية التي تعامل معها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأحسن ما يكون. وسنذكر هنا بعض الأسس المستفادة من هذا الموقف لنتبعها عند حل خلافاتنا.
أولاً: الاستماع الدقيق للرأي الآخر، وعدم تسفيهه، أو الحكم عليه قبل سماعه:
فلقد استمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من سعد بن عبادة إلى القضية كاملة، ثم اتخذ قراره بجمع الصحابة ليناقشهم فيما قالوا، فلا ينبغي أن يُتخذ قرارات من مصدر معلومات دون التأكد من صاحب القضية، إنها قضية التبين والتحقق، على الرغم من أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- يُعد من أطراف القضية ومن أصحابها، ولكنه الدرس النبوي الكريم لوضع الأسس السليمة لحماية المجتمع، فهذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأين نحن منه؟! فهو يتخذ هذه الخطوات ليعلمنا ويرشدنا ويرسم لنا خطوط النجاة. فلا بد من تقبُّل الرأي الآخر، والتعامل معه باهتمام، وعدم إهماله، وذلك بداية للحل.
ثانياً: سعة الصدر: فلم يغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يصفهم بأية صفة تنقص من إيمانهم، أو حتى تشكك فيه، ووضّح بنفسه ما يمكن أن يجول بخاطر أي منهم: "أمَا لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدّقتم"، فأي سعة صدر، وأي عظمة هذه! إنها عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم نسمع أنها عدم ثقة في القيادة وقراراتها.
إن الاختلاف في رأي أو قرارٍ ما، لا يعني عدم الثقة مهما كان هذا الرأي، ما دام في دائرته الشرعية، ولم يخرج عنها.
ثالثاً: التزام أدب الخطاب والرقي فيه: بدأ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بعرض ملخص للقضية من وجهة نظر الأنصار: "يا معشر الأنصار: مقالة بلغتني عنكم"، ثم ذكَّرهم بفضل الله عليهم: "ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟!". ثم بدأ الحوار: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!". فما دام الحوار بهذا الرقي فلا بد أن يكون الرد مناسباً له: "لله ورسوله المنّ والفضل".
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- بدأ بتذكيرهم بفضلهم وذلك لنزع ما قد يكون في صدورهم من بذور الخلاف، ثم يأتي دور إبراز الحقيقة، وتجليتها لهم، فيكون الرد الطبيعي والمنطقي لهذه المقدمات: "رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَسَماً وحظاً".
إن التزام أدب الحوار في حل المشكلة سيختصر وقت حلها، وسيسرع في الحل الفوري لها، فلا مجال للصراخ والصوت المرتفع. إنها نتاج العقيدة الراسخة في ذوات النفوس.
رابعاً: التذكير بالمسلَّمات بداية للحل: فعندما ذكَّرهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بفضل الله عليهم، ثم بفضله -صلى الله عليه وسلم- عليهم، وبعد ذلك جهودهم في نصرة الله ورسوله، أظهر لهم الحقيقة، فكانت كل هذه الخطوات متدرجة للنفس لتقبل الحل، وتنحي المجادلة العقيمة.
فلنبدأ أولى خطوات الحل بالمسلَّمات ونقاط الاتفاق، ثم نقاط الاختلاف حتى نجد أرضية مشتركة للتفاهم على الحل.
خامساً: التذكير بالفضل وعدم نسيانه: فلنؤْثر قلوب إخواننا بذكر بعض محاسنهم ومناقبهم في بداية الحل، حتى نهيئ النفوس لتقبل الحل، ولرسوخه في ذات الوقت.
ولو بدأنا بالسلبيات -سواء كانت عامة أم شخصية، لتوسعت دائرة الخلاف وتباعدت الرؤى.
سادساً: سرعة الحل: فلقد حدّد الرسول -صلى الله عليه وسلم- موعداً في الحال للاجتماع بهم، ومناقشة الأمر معهم، وهذا ما ينبغي عمله تجاه أية مشكلة في بدايتها وعدم تمييعها، أو الاستهانة بها.
إن التهاون في سرعة حل الخلاف في بدايته سيتسبب في خلل قد يكون أكبر من الخلاف ذاته. أمّا سرعة اتخاذ خطوات الحل فستئِدُ أية فرصة لتصعيد الخلاف.
سابعاً: الإيجابية والمصارحة من كل الأطراف: لا بد هنا من وقفة مع إيجابية سعد بن عبادة عندما ذهب إلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في إيجابية رائعة لنقل الصورة بغرض الحل، فلا بد من الإيجابية والوضوح لسرعة الحل كما في موقفه عندما سأله الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟!"، قال: يا رسول الله: ما أنا إلا من قومي. أيّ روعة وعظمة يسطرها التاريخ بأحرف من نور! فمن يُجامَل إذا لم يجامَل الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؟! ولكن المسألة هنا ليست مجاملة، إنها إيجابية، وتحديد موقف، ومصارحة، ومكاشفة، فلم يتردد سعد بالبوح بما في أغوار نفسه، ولم يتردد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو يجد في نفسه من سماع رأيه وعدم إهماله، أو الضغط عليه لتغييره.
ففي سرعة تبليغ سعد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالوضع درسٌ للجندي حيال المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه لحماية الصف ووحدته، وضرورة تقديره للموقف، وسرعة إبلاغه لقائده، وفي ذات الوقت عليه إيضاح رأيه دون أي وجل أو تردد.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: الموقف الثاني: هو موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قصة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- عند فتح مكة.
روى البخاري في صحيحه عن علي -رضي الله عنه- قال :"بعثني رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- والزبير بن العوام وأبا مرثد الغنوي، وكلنا فارس، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين، معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين. قال: فأدركناها تسير على جمل لها حيث قال لنا رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، قال: قُلْنا: أين الكتاب الذي معك؟! قالتْ: ما معي كتاب، فأنخنا بها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئًا، قال صاحباي: ما نرى كتاباً، قال: قُلْت: لقد علمت ما كذب رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، والذي يُحلف به، لتُخرِجَنّ الكتاب أو لأجرّدَنّك. قال: فلما رأت الجِدّ مني أهوت بيدها إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الكتاب، قال: فانطلقنا به إلى رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: "ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟!". قال: ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله، وما غيّرت ولا بدّلت، أردت أن تكون لي عِندَ القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك هناك إلا وله من يدفع الله به عن أهله وماله، قال: "صدق، فلا تقولوا له إلا خيرًا". قال: فقال عُمَر بن الخطابِ: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فأضرب عنقه، قال: فقال: يا عمر: وما يدريك، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة. قال: فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
أيها المسلمون: لو صُنف هذا الموقف باصطلاحات العصر الحديث لكان الخيانة العظمى، وإفشاء أسرار عسكرية. وهاتان التهمتان هما أقصى ما يمكن أن يُحاكم عليه إنسان في العصر الحديث، ولهما أقسى عقوبة. فلنرَ كيف تعامل معها المصطفى الأمين -صلى الله عليه وسلم-، ونستخلص منها بعض العِبَر:
أولاً: التحري الدقيق وعدم الأخذ بالشبهات: وهذا ما أراده النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أرسل بعض الصحابة لإحضار الخطاب من المرأة، فلقد أعلمه ربه بالحقيقة، والجميع على يقين من ذلك، ولكنه الدرس الذي أرادنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن نتعلمه، فلا بد من التحري الدقيق، وعدم الأخذ بالشبهات، وأن تكون البينة على من ادعى، فإذا كان ذلك من الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، فإنه ممن دونه أوْلى وأوجب.
إنه درس في الأخذ بالأسباب، وبذل الجهد والمشقة لمعرفة الحقيقة، وإقرار العدل في أي خلاف. فعلى الكل مهما كان موقعه أن يُجهد نفسه في التحري الدقيق للحقيقة.
ثانياً: إبداء الرأي والدفاع عن النفس: لقد سمع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من حاطب دفاعه كله، وأعطاه الفرصة الكاملة لذلك، وما كان -صلى الله عليه وسلم- في حاجة لذلك، ولكنه القدوة -صلى الله عليه وسلم- يرسم لنا الطريق، فلنستمع جيداً من صاحب المشكلة، وليقل كل ما يريد: ليدافع عن نفسه، ويسوِّغ ما قام به من عمل من وجهة نظره دون الحجر عليه. وهذا في الواقع واجب يجب عليك أن تطلب الاستيضاح ثم تنظر فيه، وتحكم عليه بعد ذلك.
ثالثاً: أخذ العذر مأخذ الجد؛ فإذا اعتذر فرد عن خطأ ما وأبدى عذراً فعلينا تقبُّله، وليُفتح له باب الرجعة ولا توصد في وجهه الأبواب. فخطأ حاطب جسيم، ومع ذلك قَبِلَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- اعتذاره، ورده للصف رداً جميلاً، ورفض أن يعتبره من المنافقين.
رابعاً: عدم نسيان الفضل والسبق: فإذا أخطأ إنسان، فلا بد أن يُقدّر الخطأ بقدره، وإذا كانت هناك أدنى فرصة لإعادته للصف وعدم إبعاده أو ابتعاده فيكون ذلك أوْلى، خصوصاً إذا كان له فضل وسَبْق. لا نريد أن نقلب ظهر المجن لمن يُخطئ، أو ننسى كل ما قدّم ما دام الخطأ لم يتكرر ولم يُصر عليه. ولا بد من اعتبار لحظات الضعف البشري وعدم تجاهلها. فليس الأفراد بملائكة أخيار، ولا أنبياء معصومين. ويظل للخطأ دائرته التي لا ينبغي تجاوزها. وقد نزل في هذا الموقف قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْـمَوَدَّة).
ولقد اعتبر بعض العلماء هذه الآية منقبة عظيمة لحاطب -رضي الله عنه-؛ لأن في ذلك شهادة له بالإيمان. يقول صاحب الظلال في تفسير هذه الآية: "وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سر الحملة، وفيها يكشف عن خبيئات النفس البشرية العجيبة، وتَعرُّض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها، وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها، ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يعجل حتى يسأل: "ما حملك على ما صنعت؟!"، في سعة صدر وعطف، في لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكفُّ عن صاحبه: "صدق، لا تقولوا إلا خيراً"، ليُعينه ويُنهضه من عثرته، فلا يطارده بها، ولا يدع أحداً يطارده. بينما نجد الإيمان الحاسم الجازم في شدة عمر إذ يقول: "إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه". فعمر -رضي الله عنه- إنما ينظر إلى العثرة ذاتها، فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية في موقف المربي الكريم، العطوف، المتأني، الناظر إلى جميع الملابسات والظروف. ثم يقف أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعف، ولكنَّ تَصَوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح، ذلك حين يقول: "أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي". فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه، وهو يقول: "وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به من أهله وماله". فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة، إنما العشيرة أداة يدفع الله بها". انتهى كلامه -رحمه الله-.
أيها المسلمون: هذه بعض المواقف من السيرة النبوية المطهرة لعلنا نتأسى ونقتدي بها في حياتنا ونتبع منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في معالجته لبعض الخلافات التي نُعدّها الآن من منظورنا جسيمة وربما مستعصية على الحل، فإذا بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتعامل معها بشفافية، وروح المربي الملهم، ويرسّخ فينا بعض الأسس التي يجب علينا اتباعها في مختلف جوانب حياتنا.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم