عناصر الخطبة
1/ فضل الصحابة 2/ تعريف الصحابي 3/ شرف الصحبة 4/ تفاوت درجات الصحابة ومنزلتهم 5/ ثناء الأئمة الأعلام على الصحابة الكرام .اقتباس
هذا خطاب إكرام وتشريف تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالةٌ غُفرت بها ذنوبهم السابقة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يُستأنف من الذنوب اللاحقة ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه؛ فقد أظهر اللّه صدق رسوله -صلى اللّه عليه وسلم- في كل ما أخبر عنه بشيء من...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن الله -عز وجل- ميز بين الناس في مراتبهم؛ فجعل فيهم الشريف والوضيع والأمير والفقير والعزيز والذليل، وجعل لكل مرتبة أسبابا فمن حاز أسباب مرتبة وُصِف بتلك المرتبة، و لا يوجد أعزُ ولا أشرف من مراتب الدين لأنها من أمور الآخرة التي خلق الناس لها، وأما مراتب الدنيا؛ فإنما هي متاع زائل، ولذة منتهية.
عباد الله: إن من مراتب الناس؛ مرتبةَ الصحبة التي يشرف بها العبد أو يذل؛ فعلى قدر مرتبة صاحبك تعلو أو تنزل، ومن شرف الصحبة؛ أن الله ذكر كلبا في كتابه ورفع من شأنه لما صاحب الصالحين، كما قصّه الله علينا من خبر الفتية الذين أووا إلى الكهف؛ فما الظن بالصالح يصحب الصالحين، بل الصالح يصحب الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون: سيكون حديثنا بإذن الله تعالى عن فضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الذين اصطفاهم الله ليكونوا أصحابا لخير الخلق -صلوات الله وسلامه عليه-، لنعرف حقهم، ونقتدي بهم؛ فهم حملة الشريعة الذين حفظوا الدين وبلغوه لنا غضا طريا كما أنزل بلا زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا تبديل -رضي الله عنهم- أجمعين.
معاشر المسلمين: لابد أولا من معرفة الصحابيِّ من هو ؟ لقد عرّف أهل الحديث الصحابيَّ بأنه من لقي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مؤمنا به ومات على ذلك؛ فعلى هذا فكل من كان مؤمنا ورأى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إن كان مبصرا أو لقيه إن كان أعمى؛ فهو صحابي قد نال شرف الصحبة.
وهم يتفاوتون في الفضل؛ فمن لازمه أكثر كانت مرتبته أعظم، ولهذا قال الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد:10].
فمن آمن قبل فتح مكة وأنفق من أمواله في سبيل الله؛ فهو أعظم مرتبة ممن آمن من بعد الفتح، وذلك أنهم أسسوا دولةَ الإسلام فآمنوا وقت الخوف ونصروا الدين وقت الضعف، ولهذا كان المهاجرون الأولون أفضلَ من الأنصار؛ فالمهاجرون الأمراء والأنصار الوزراء، ثم الصحابة من بعد ذلك درجاتٌ فأفضلهم الخلفاء الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة ثم أهل بدر ثم أهل بيعة العقبة ثم أهل بيعة الرضوان، وكل الصحابة -رضي الله عنهم-في أعلى المراتب ويكفيهم شرفا أن الله مَنَّ عليهم برؤية المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- وسماع كلامه، وتربوا على يديه، وحضروا المجتمع النبوي.
ولنستمع لفضلهم الذي ذكره الله لنا في كتابه قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].
وقال -سبحانه-: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 18]، وقال -جل وعلا-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) [الفتح: 29].
ومن السنة النبوية ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه".
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عمران بن الحصين قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "خير أمتي قرني"، وقد حكم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالجنة لنفر كثير من الصحابة؛ فمنهم أهل بدر، كما أخرجه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله تعالى اطلع على أهل بدر؛ فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم".
قال القرطبي: "هذا خطاب إكرام وتشريف تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالةٌ غُفرت بها ذنوبهم السابقة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يُستأنف من الذنوب اللاحقة ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه؛ فقد أظهر اللّه صدق رسوله -صلى اللّه عليه وسلم- في كل ما أخبر عنه بشيء من ذلك فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا وإن قُدِّرَ صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة".
ومنهم أهل بيعة الرضوان، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أم مبشر قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة"، وكانوا قريبا من ألف وأربعمائة صحابيا، بل حكا بعض أهل العلم أن الصحابة كلهم في الجنة، قال ابن كثير -رحمه الله- "لهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة -رضي الله عنهم وأرضاهم- وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل".
قال الخطيب البغدادي: "عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له وهذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء ثم روى بسنده إلى أبي زرعة قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة".
والصحابة -عباد الله-؛ هم خير الخلق بعد الأنبياء والرسل؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قول عبد الله بن مسعود، "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لنفسه؛ فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه".
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم صفوة قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى".
معاشر المسلمين: إن من فضل صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ أنهم خدموا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في كل شيء؛ فهذه أم سليم تهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولدها أنس ليخدمه في كل وقته، وهذا ابن مسعود اختص بنعله وحفظها، وهذا سعد بن أبي وقاص يحرس النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالليل، وذلك قبل نزول قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس)، وهذا بلال يكون بوابا على بابه إذا كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مشغولا وكانوا يحبونه حبا شديدا حتى كانوا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم رضي الله عنهم، واسمع ما قاله عروة بن مسعود الثقفي، وهو مشرك؛ فقال "أي: قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمدا والله إن تنخم نخامة؛ إلا وقعت في كف رجل منهم؛ فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له (أخرجه البخاري).
اللهم ارض عن صحابة نبيك...والعن الرافضة الذين يسبونهم؛ أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها -المؤمنون-: لا يشك أحد أن الصحابة بشر يقع منهم ما يقع من البشر من الخطأ والزلل ولا يخفى على البعض أن بعض الصحابة وقع بينهم خلاف وقتال أيضا؛ فما موقف المسلم من ذلك؟
الجواب: "أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد بين ذلك والعلماء من بعد أوضحوا ذلك بالبيان الشافي، وذلك أن قلوب الناس من بعدهم يجب أن تكون سليمة لهم، وأن نذكرهم بأحسن أعمالهم، وأن نسكت عن أخطائهم، قال ابن تيمية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما وصفهم الله في قوله، (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]".
وقال -رحمه الله-: "ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة".
وقال الإمام أحمد: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كلِهم أجمعين والكفُ عن الذي جرى بينهم".
وقال الطحاوي في عقيدته المشهورة: "ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا نُفْرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
عباد الله: لا يسب الصحابة أو بعضهم إلا مبتدع خارج عن الهدي النبوي؛ فضلا عما يناله من الإثم والعار، قال الإمام مالك: من أصبح وفي قلبه بغض لأحد من الصحابة؛ فقد أصابته هذه الآية: (ليغيظ بهم الكفار).
وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولاسيما سيد الصحابة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذا بالله من ذلك وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة؛ فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من -رضي الله عنهم-، وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن -رضي الله عنه- ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ومقتدون لا مبتدعون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون".
أيها المسلمون: هؤلاء هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الذين نصروا رسوله وأسسوا الدولة الإسلامية، ونشروا دين الله في أرجاء الدنيا؛ فلزاما علينا أن نعرف حقهم وأن نربي أنفسنا وأبناءنا على حبهم ومعرفة فضلهم والاطلاع على سيرهم -رضي الله عنهم-أجمعين.
اللهم ارض عن صحابة رسولك -صلى الله عليه وآله وسلم- واجزهم خير ما جزيت أصاحبا عن نبيهم واجمعنا بهم في جنات النعيم يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم