عناصر الخطبة
1/ مقام الصلاة في الإسلام 2/ مقام الركوع والسجود في الصلاة 3/ آداب الركوع 4/ أذكاره 5/ كيفية السجود 6/ آدابه 7/ فضله وشرفه 8/ الركوع والسجود لغير الله تعالى 9/ شكر الله تعالى على نعمتي الركوع والسجود 10/ ركوع وسجود القلباقتباس
فالركوع والسجود من الأعمال الجليلة التي يستسلم بها المصلي لربه، ويُثبتُ أنه عبدٌ لله، ويُعلنُ كاملَ ذُلِّهِ، ويُنَزِّهُ فيهما ربَّهُ عن كلِّ نقص، ويُقَرُ له بالكمال، فيجمعُ فيهما التذلُّلَ لله -تعالى- فِعلاً وقَولاً.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى.
أيها المسلمون: لَمَّا كانت الدنيا بزخارفها ومُلهياتها تَصُدُّ الناسَ عن ذكرِ الله -تعالى-، وتُنسِيهمُ الدارَ الآخرة، شرَعَ الله الصلواتِ الخمس؛ ليتذكروا بها الآخرة، وتنشرحَ بها صدورهم، وتُخفِّفَ همومهم، وتقربَهُم إلى ربهم، وإنَّها لمن أعظم نِعَمِ الله علينا.
فالصلاةُ شأنها عند الله -تعالى- عظيم، ومقامُها في الإسلام كبير؛ وهي دليلُ محبةِ الله -تعالى- ورجائِهِ وخوفِهِ، وهي أكثرُ المقاماتِ ذُلاً لله -تعالى-.
والركوعُ والسجودُ أبينُ المواضعِ فيها ذُلاًّ لله -تعالى-، وهما ركنان من أركان الصلاة، لا تصحُّ الصلاةُ إلا بهما؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمسيء صلاته: "ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا"، وقال له في السجود: "ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا".
فالركوع والسجود من الأعمال الجليلة التي يستسلم بها المصلي لربه، ويُثبتُ أنه عبدٌ لله، ويُعلنُ كاملَ ذُلِّهِ، ويُنَزِّهُ فيهما ربَّهُ عن كلِّ نقص، ويُقَرُ له بالكمال، فيجمعُ فيهما التذلُّلَ لله -تعالى- فِعلاً وقَولاً.
وقد توعد الله الذين استكبروا على الله وأبوا السجود في الدنيا بالذل والمهانة يوم القيامة، قال -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم:42-43].
عباد الله: إن الركوع تعبُّدٌ لله، وانحناءٌ يُقصد به تعظيمُهُ وإجلالُه، فحري بالمصلي إذا ركع أن يستحضِرَ أنه ما ركع إلا خضوعاً لله -تعالى- وطاعةً له، وأن الله مُطَّلِعٌ عليه.
وعليه أنْ يتأَمَّلَ أذكارَ الركوعِ، فهو يسبح الله -تعالى-، ويصفُهُ بالعظَمَةِ، فيقول: سبحان ربيَ العظيم؛ لما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لمَّا نزل قول الله -تعالى-: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، قال -عليه الصلاة والسلام-: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ".
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في ركوعه: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ".
وروى علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ركع قال: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي".
وفي حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في ركوعه: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ".
فهذه الأذكار كلها فيها تنزيهُ الله -تعالى- عن النقائص، وإثباتُ الكمالِ له -جل وعلا-، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل".
يقولها وهو يستشعر عظمة الله، معلناً ذُلَّهُ له، مُقراً بفقره إليه، متفكراً في عظمته وكبريائِه وسُلطانِه ومَلَكُوتِه وجَبَرُوتِه، ويتَذَكَّرُ ذنوبَهُ وخطاياه، وتقصيرَهُ في طاعةِ مولاه، فيُسبِّحهُ ويسأله المغفرة، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي".
أيها الأحباب: إذا كان هذا شأن الركوع؛ فإن شأن السجود أعظم، وهو أبلغُ في الذُّلِّ لله -تعالى-.
وقد فعل السجودَ تعبُّداً لله -تعالى- أشرفُ الخلقِ وأكرمُهُم عند الله -تعالى- من الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين...
وجاء الأمر به في كثير من آيات كتاب الله الكريم، منها قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].
والسجود التام هو ما مكَّن فيه المصلي أعضاءَهُ السبعةَ من الأرض؛ كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، الْجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ".
ومن المعلوم أن أشرفَ شيءٍ في الإنسان وجهُهُ، فهو عنوانُ كرامته، وحين يهوي المصلي بجسده على الأرض فإنه يُمرِّغُ فيها أكرَمَ شيءٍ عليه؛ ذُلاًّ وتعظيماً وإجلالاً لله -تعالى-، فأيُّ شرفٍ يستحقُّه المسلمُ وهو يفعل ذلك في صلاته؟!.
ومع أنَّ السجودَ سُفُولٌ بالعبد إلى الأرض، فإن العبدَ حالَ سجوده أقربُ إلى ربه من حاله في قيامه أو قعوده أو ركوعه، وذلك إكراماً من الله -تعالى- لعبده؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ".
ولِمَا ورد في حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ".
ولَمَّا نزل قول الله -تعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى:1]، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ"، فيقرن بين تنزيه الله -تعالى- وبين إقراره بعلوه فيقول: سبحان ربي الأعلى!.
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قراءة القرآن حال الركوع وحال السجود؛ لأنهما موضعا ذُلٍ وسُفُول، والقرآنُ أشرفُ الكلام، فلا يناسبُ أن يُقرأَ في تلك الحال، بل المناسبُ تنزيهُ الله -تعالى- وتعظيمُه ودعاؤه؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا".
فسجودُ العبدِ لله -تعالى- بابٌ عريضٌ من أبوابِ الذُّلِّ والعبودية لله -تعالى-، حري فيه أن يُستجاب الدعاء؛ فالله -جل وعلا- إذا رأى ذُلَّ عبدِهِ بين يديه، وافتقارَهُ إليه، مع سؤاله وإلحاحه عليه؛ لا يَرُدُّهُ خائباً.
وينبغي للعبد أن يتذكر حال سجوده ذُلَّهُ بين يدي ربه، وحاجَتَهُ وفَقرَهُ إليه، وأنه ما تطامن بجسده، ومرَّغَ في الأرض وجهه، إلا إقرارا بذُلِّهِ وعُلُوِّ ربه.
قال ربيعةُ الأسلمي -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. فقَالَ له: "فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ".
وفي حديث ثوبان -رضي الله عنه- أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحب الأعمال إلى الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً".
ومن شرف السجود عند الله -تعالى- أن المعذبين في النار من عصاة المؤمنين لا تنال النارُ مواضعَ سجودهم، ويُعرفون بذلك؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّار، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ"...
الخطبة الثانية:
الحمد حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه...
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأطيعوه.
عباد الله: إن الركوع والسجود من خصائص الألوهية، فلا يصرفان إلا لله -تعالى-؛ ولذا نُهي عن الانحناءِ حال التحية كما يفعله كثير من الأعاجم للكبراء والرؤساء، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه؛ أينحني له؟ قال: "لا" قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: "لا"، قال: أفيأخذُ بيده ويصافحه؟ قال: "نعم".
قال ابن علان -رحمه الله- -تعالى-: من البدع المحرمة الانحناء عند اللقاء بهيئة الركوع، أما إذا وصل انحناؤه للمخلوق إلى حد الركوع قاصداً به تعظيم ذلك المخلوق كما يُعظَّمُ الله -سبحانه وتعالى-، فلا شك أن صاحبَهُ يرتدُّ عن الإسلام، ويكونُ كافراً بذلك، كما لو سجد لذلك المخلوق.
وأما السجودُ فأشدُّ من الركوع؛ لأنه أقصى مراتبِ العبادة، ونهايةُ التعظيم، ولا يليقُ إلا بالله -عز وجل-، وقد كان تحيةً في بعض الشرائعِ السابقة، لكنَّهُ مُنِع في شريعتنا التي أكمَلَهَا الله، وختم بها الشرائع.
عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ، فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟". قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: "فَلاَ تَفْعَلُوا، لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لأَزْوَاجِهِنَّ؛ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ".
فالركوع والسجود لله -تعالى- نعمتان عظيمتان على العباد؛ وحقيقٌ على من هداهُ الله -تعالى- للإسلام أن يشكرَ نعمة الله -تعالى-، وأن يُحافِظَ على الصلوات المفروضة؛ ليكون من الراكعين الساجدين الذين أثنى الله -تعالى- عليهم، ويَلْحَقَ بِرَكْبِ السابقينَ الأفاضلِ من هذه الأمة...
والقدرةُ على الركوعِ والسجودِ من أعظمِ النعمِ التي يغفلُ عنها كثيرٌ من الناس، وكم في المسلمين من عاجزٍ عن الركوعِ والسجودِ لِعِلَّةٍ أصابته، عَرَفَ قَدْرَ هذه النعمةِ بعد أن حُرِمَها، وتمنى أن يُعفِّرَ وجهَهُ في الأرضِ تعبداً وذُلاً وتعظيما لله -تعالى-.
فأقيموا -عباد الله- دينَكُم لله -تعالى-، ولتَرْكَع القلوبُ ولتَسْجُد مَعَ رُكُوعِ الأبدانِ وسجودِها؛ فإنَّ رُكُوعَ القلبِ وسجودَهُ لله -تعالى- تَذلُّلاً ومحبةً ورجاءً أهمُّ وأَوْلَى من ركوعِ الأبدانِ وسجودِها.
ومن صلى لله -تعالى- وركع وسجد وهو مُستشعِرٌ لهذه المعاني العظيمة وجَدَ لذَّةَ الرُكُوعِ والسُجُود، ونهتهُ صلاتُه عن المحرمات؛ (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45].
ثم صلوا وسلموا -عباد الله- على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم