عناصر الخطبة
1/غربة الدين وقلة المصلحين 2/حديث نبوي فيه خبر وإرشاد 3/عِظَم أجور بعض الأعمال في زمن الفتنة والغربة 4/فضل المتمسك بدينه في آخر الزمان.اقتباس
فعلى العبد أن يتمسك بدينه ويسعى جاهدًا على من ولاه الله أمره أن يتمسكوا بدينهم، ونحن نعايش البعد عن الدين وهدي سيد المرسلين -صلوات ربي وسلامه عليه-، ما أحوجنا إلى التواصي بذلك، حتى تتضاعف الأجور، وينجو المسلم من تبعات الانحراف، وينجه الله من الفتن وشررها.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فيا أيها الناس: تمسكوا بدينكم؛ فبه صلاحكم ونجاحكم، وبه عزكم ومجدكم، ولا تلتفتوا إلى ما فتح الله على الناس من فتن الدنيا، ولا إلى من غرَّته الدنيا، وغرَّه بالله الغرور، فعما قليل نحن صائرون لدار الجزاء وفيها مجزيون.
عباد الله: كلما تقادم الزمن، كلَّما قلَّ الدين ونقص الإيمان، كما أخرج البخاري في صحيحه عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: "اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"(صحيح البخاري 7068).
وكلما تأخر الزمن كلما زادت الفتن، حتى يقل العلم، ويكثر الجهل، وينسى الدين، فيصير المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، كما أخرج ابن ماجه في سننه من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: "قال رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم-: "يَدْرُسُ الإِسْلاَمُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لاَ يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلاَ صَلاَةٌ وَلاَ نُسُكٌ وَلاَ صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلاَ يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ: الشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا".
وأخرج الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر"؛ قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: "وهذا الحديث يقتضي خبرًا وإرشادًا؛ أما الخبر، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل، وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر، من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلة، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها، ظاهرًا وباطنًا، وضعف الإيمان، وشدة التفرد لقلة المعين والمساعد. ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين، من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدرًا.
وأما الإرشاد، فإنه إرشاد لأمته، أن يوطِّنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات، وصبر على دينه وإيمانه -مع هذه المعارضات-؛ فإن له عند الله أعلى الدرجات، وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه، فإن المعونة على قدر المؤونة. وما أشبه زماننا هذا بهذا الوصف الذي ذكره -صلى الله عليه وسلم-، فإنه ما بقي من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه؛ إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وماديات جرفت بخبيث تيارها وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق. ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، بحيث أصبحت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا، وتدمير الدين واحتقاره والاستهزاء بأهله، وبكل ما ينسب إليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشررها وشرورها قد شاهده العباد.
فمع هذه الشرور المتراكمة، والأمواج المتلاطمة، والمزعجات الملمة، والفتن الحاضرة والمستقبلة المدلهمة -مع هذه الأمور وغيرها- تجد مصداق هذا الحديث. ولكن مع ذلك، فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصورًا على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتًا في قلبه كل وقت إلى مسبّب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه، بأنه سيجعل له بعد عسر يسرًا، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدتها.
فالمؤمن من يقول في هذه الأحوال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، و"حسبنا الله ونعم الوكيل. على الله توكلنا. اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى. وأنت المستعان. وبك المستغاث. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، ويقوم بما يقدر عليه من الإيمان والنصح والدعوة. ويقنع باليسير، إذا لم يمكن الكثير. وبزوال بعض الشر وتخفيفه، إذا تعذر غير ذلك: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق:2]، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق:3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق:4].
اللهم قنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول قولي هذا….
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: كلما زاد الشر وانتشر، كلما عظم أجر المتمسك بالدين، حتى ورد في الحديث أن له أجر خمسين من الصحابة؛ وذلك لضعف الإيمان وقلة المعين، ولكثرة الفتن والملهيات، فلنلزم الطاعة، ولنصلح فيمن حولنا قدر المستطاع، حتى نسلم من التبعات.
فعن أبي ثعلبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ"، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟! قَالَ: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ"(الترمذي 3058).
هذا الحديث جميع طرقه وشواهده ضعيفة، ولا يسلم منها طريق من مطعن، إلا أن بعض أهل العلم ذهب إلى تحسين الحديث؛ لكثرة طرقه وشواهده، وعلى جميع الأحوال فإن أحدًا من أهل العلم لم يقل بأنَّ مِن المتأخرين مِن المسلمين مَن يفوق السابقين مِن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ أهل بدر وأحد وبيعة الرضوان، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل غاية ما فيه -إن سلَّمنا بصحته- أنَّ أجورَ بعض الأعمال في زمن الفتنة والغربة تضاعف لهم على أجور مَن لم يدرك غربة الإسلام الأولى من الصحابة -رضي الله عنهم-. وهذا كله يدل على فضل المتمسك بدينه في آخر الزمان، وهو زماننا هذا.
فعلى العبد أن يتمسك بدينه ويسعى جاهدًا على من ولاه الله أمره أن يتمسكوا بدينهم، ونحن نعايش البعد عن الدين وهدي سيد المرسلين -صلوات ربي وسلامه عليه-، ما أحوجنا إلى التواصي بذلك، حتى تتضاعف الأجور، وينجو المسلم من تبعات الانحراف، وينجه الله من الفتن وشررها.
قال الله -جل في علاه-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[سورة العصر:1-3].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وثبّت قلوبنا على دينك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم